"ما كتاب "الحرب والسلم" برواية، ولا هو بقصيدة، ولا هو بسجل وقائع تاريخية. ان "الحرب والسلم" هو ما أراد المؤلف وما استطاع ان يعبر عنه في هذا الشكل الذي عبر به عنه. ان تصريحاً كهذا التصريح عن عدم الاكتراث بالأشكال المتواضع عليها والمتعارف عليها في الانتاج الفني النثري يمكن ان يبدو غروراً لو كان مقصوداً ولم يكن له نظائر وأشباه. ان تاريخ الأدب الروسي، منذ بوشكين، حافل بأمثلة كثيرة على هذه المخالفات للأشكال المأخوذة عن أوروبا، بل انه خال من مثال واحد على نقيض ذلك. فمن كتاب غوغول "النفوس الميتة" الى كتاب دوستويفسكي، ذكريات من منزل الأموات "لا تقع في هذا العهد الحديث من عهود الأدب الروسي. على أي أثر فني نثري ذي شأن، تقيد تماماً في شكل الرواية أو القصيدة أو القصة" بهذه العبارات قدم ليو تولستوي بنفسه لروايته "الحرب والسلم" التي تعتبر واحدة من أعظم الروايات التي خطها كاتب على مدى التاريخ. ولئن كان عرف عن "الحرب والسلام" انها رواية تاريخية، بمعنى أن الأساس فيها أحداث تاريخية يفترض صحة حدوثها، فإن تولستوي نفسه عمد الى توضيح هذا الأمر قائلاً: "ان المؤرخ الذي يدرس الدور التاريخي الذي قام به شخص في تحقيق هدف واحد من الأهداف، يقع على أبطال. أما الفنان الذي يدرس أفعال فرد من الأفراد في جميع ظروف الحياة، فإنه لا يمكنه ولا يجب عليه ان يرى أبطالاً وانما هو يرى بشراً". والحال ان شخصيات "الحرب والسلم" على رغم بطولات بعضهم، هي شخصيات بشرية من لحم ودم، لها عواطفها وحسناتها وسيئاتها، شخصيات نحتها قلم محب للبشر، ملم بالتاريخ، متضلع في خفايا النفس البشرية، وطويل النفس. ذلكم هو ليو تولستوي كما يبدو لنا من خلال هذه الرواية الضخمة التي لم تكف عن استثارة اعجاب وحيرة ملايين القراء وتعتبر من الروايات التي تُقرأ أكثر من غيرها على مر العصور. ولعل ما يدهش أكثر من أي أمر آخر في هذه الرواية هو انها أتت في الوقت نفسه تأريخاً عائلياً وتأريخاً عسكرياً للحملات النابوليونية التي قامت في العام 1805 ثم في العام 1812. وهي على رغم انسيابيتها تبدو أشبه بحكايات قصيرة متتابعة، تطور في شكل متوازٍ تواريخ عدة، وتنتظم، بحسب ما يقول بعض الباحثين "من حول برهان مزدوج يقول من ناحية ان التاريخ ليس هو ذاك الذي يصنعه الرجال الكبار، بل الآخر الذي تحتمه مجموعة كبيرة من الأسباب والتفاصيل في تراكمها، ومن ناحية ثانية ان سعادة الإنسان التي تكمن في قبوله، وفي كل بساطة، بما هو عليه". ولعل المعجزة تكمن في قدرة تولستوي "عبر كلمات بسيطة وأسلوب يقترح علينا ان نرى الحياة كما هي، ان يقدم هاتين الفكرتين البسيطتين وسط تعقد العلاقة بين التاريخ الكبير، وتاريخ الناس العاديين. في هذه الرواية التي كتبها تولستوي العام 1869، ليس هناك بطل واحد، وان كان ثمة أشخاص مثل كوتوزوف والأمير اندريا وبلاتون كاراتاييف، بل نابوليون نفسه، يستحوذون علينا ويفتنوننا حتى حين يثيرون غضبنا. وتولستوي، بقلم هادئ ونفس مطمئنة يكتب مئات الصفحات التي تكشف كم انه يستمتع بمراقبة شخصياته، وهم متفهم حتى لمبادراتهم التي قد تبدو عبثية. أما التهكم فإنه يحتفظ به للزعماء والقادة من أمثال نابوليون، ذاك الذي لا يعتبره أكثر من "أداة لا معنى لها في يد التاريخ". وفي مقابل نابوليون لدينا الجنرال كوتوزوف الذي يبدو واضحاً ان تولستوي شاء له أن يرمز، ليس فقط الى الشعب الروسي، بل الى الأرض الروسية نفسها، ان كوتوزوف كما يقول أحد الباحثين لا يعرف ان يفعل مثل نابوليون فيتحدث عن "الأربعين قرناً التي تنظر اليكم من أعلى هذه الأهرامات"، لكنه يعرف كيف يصبر ويسكت وفي النهاية يكون هو من يدفع نابوليون الى ان يهزم نفسه بنفسه، والأمير اندريا، قد يكون شخصاً متوتراً ولئيماً، وقد يكون متطلعاً أبداً الى المجد العسكري، لكنه سرعان ما يفيق على حبه للأرض، وأيضاً للمرأة. انه مع كل خطوة جديدة يكتشف عبث خطواته السابقة وبالتالي يجد نفسه مندفعاً نحو الصفاء والنقاء أكثر وأكثر. وهناك بيار بيزوكوف وناتاشا، كل منهما يبحث عن خلاصه، في فصل الخير أو في الحب... ولا سيما ناتاشا "التي ترمز الى الحيوية التي تطبع خير شخصيات الكتاب. أما بلاتون فإنه وان كان ريفياً أمياً فإنه يعرف كيف يحمل في أعماقه كل تلك الأفكار النيرة والعظيمة التي سيطورها تولستوي نفسه لاحقاً. وتولستوي، على أية حال، حتى وان اختار بلاتون ناطقاً باسمه فإنه عرف كيف يوزع أفكاره ورغباته على مختلف الشخصيات الأخرى. ولكن هل يمكن، بعد هذا، تلخيص "الحرب والسلم"" انها المهمة المستحيلة. لأن هذه الرواية لا تلخص فهي أولاً وأخيراً رواية الروح الروسية كلها، حتى وان كانت تصف أحداثاً محدودة في الزمان. لكن المهم هو ان تولستوي يقول بنفسه انه انما كتب الرواية ليؤكد ان "حادثاً احترب فيه ملايين البشر، وقتل فيه نصف مليون من الرجال، لا يمكن ان تكون ارادة فرد واحد هي سببه ... ان رجلاً وحده لا يستطيع ان يجبر 500 ألف شخص على ان يموتوا". وهو كلام يضيف اليه تولستوي ما يأتي: "... انني حين وضعت الأحداث التاريخية التي وقعت سنة 1805 وسنة 1807 وسنة 1812 خصوصاً، وهي السنوات التي تظهر فيها الحتمية بارزة أكبر بروز، لم أستطع أن أنسب شأناً كبيراً الى الأعمال والاشارات التي قام بها رجال ظنوا انهم يوجهون هذه الأحداث ويتحكمون بها، ولكنهم في حقيقة الأمر كانوا أقل سائر العاملين تدخلاً فيها بنشاط انساني حر". إذاً، في كل اختصار، يمكننا ان نصف رواية "الحرب والسلم" هنا بالوصف نفسه الذي وصفت به مراراً وتكراراً، انها رواية تأمل التاريخ التي تقدم لنا حب الحياة في تعارضه مع مأساة الحروب، كما تقدم لنا فكرة تقول ان ليس ثمة مهرب من الأحداث التاريخية. ومهما يكن من الأمر فإن "الحرب والسلم" هي أقل أعمال تولستوي تعبيراً عن الصراع الذي لطالما قام في داخله بين حيويته الخاصة، وأسئلته الوجودية القلقة. مثل ذلك الصراع نجده في أعمال أخرى لتولستوي، ولا سيما في رواياته الأكثر حميمية مثل "أنا كارينيا" و"سوناتا كرويتتزر". ولئن كانت رواية "الحرب والسلم" عصية على التلخيص، كما هي الحياة نفسها، هل يمكن بالتالي تلخيص حياة تولستوي نفسه، وتلخيص مساره المهني والفكري في سطور" ان هذه المهمة تبدو هنا على صعوبة المهمة الأولى. فالواقع ان تولستوي الذي عاش 82 سنة، لم يكن كاتباً فقط، بل كان مفكراً وفيلسوفاً ورجل احسان، وثورياً. كتب الرواية والقصة وكتب البحوث الفلسفية، وجعل لنفسه مذهباً، حاول ان ينشره في أخريات حياته... وفي أحواله كلها كان السؤال الذي أرقه دائماً هو: "لماذا تعيش؟" ويمكننا ان نقول، بكل راحة بال، ان كل ما كتبه انما كان محاولة منه، يائسة، للإجابة عن هذا السؤال "البسيط". ولد ليون تولستوي العام 1828، ابناً لأسرة ارستقراطية من ملاك الأراضي، لكنه أضحى يتيماً وهو بعد في التاسعة من عمره. غير ان ثراء العائلة أتاح له ان يحصل على تعليم جيد خلال سنوات حياته الأولى. غير انه سرعان ما استبدت به نزعة المشاكسة فراح يتشرد ويعيش حياة لهو في سانت بطرسبرغ، قبل ان ينخرط في الجندية ويرسل ضابطاً الى القرم. ومن هناك عاد ببعض كتاباته الأولى وبمصادر روايته الكبيرة "الكوزاك" ومجموعته "حكايات سيباستبول". بعد القرم تجول في أوروبا ساعياً لدراسة تقدمها، وهو أثر ذلك أسس مدرسة الشعب كما عاش حياة كبار ملاك الأراضي في الوقت نفسه. لكن حياته كانت بسيطة، مع زوجته التي انجبت له 13 ولداً. وهو أصيب في العام 1880 بأزمة روحية كبيرة جعلته يخلص الى نتيجة تقول ان مبرر العيش الوحيد هو ان نعيش مثل الناس البسطاء، وأن نؤمن بالله خارج اطار الكنيسة، وان نحب اخواننا في البشرية ونشجب العنف، وان نرفض الحضارة الحديثة بصناعتها وكذلك سلطة الدولة. ونذكر ان تولستوي قد طاوله حرمان الكنيسة ومنعت كتبه في العام 1901، أي قبل وفاته العام 1910 بتسع سنوات.