نضع للحظة شارون جانباً، بغطرسته وثأريته ونزعته الكولونيالية. نضع جانباً أيضاً"بهاراتا جاناتا" الهندي والهندوسي. بل نضع أيضاً الميول الأمنية والانعزالية لإدارة بوش الجمهورية واليمينية. نبحث عما هو أبعد من أغراض وأجندات وأحقاد وحسابات الطواقم الحاكمة. ونتساءل: ما الذي وحّد الرأي العام في بلدان يبدو ان ما يجمع بينها قليل؟ ما الذي جعلهم في أميركا يقفون وراء حرب افغانستان وشعار "إاما معنا أو ضدنا"؟ وفي اسرائيل والهند وراء تعنّت شارون حيال عرفات، وبيهاري فاجبايي حيال برويز مشرف؟ العداء للاسلام؟ لا يكفي. والا لما امكن تفسير رغبة ملايين المسلمين، قبل 11 أيلول سبتمبر، بالسفر الى أميركا، فيما هي لا تفعل إلا كراهيتهم! أما الهند، فصحيح ان مسلميها ليسوا مساوين عملياً للهندوس، لكنهم نظرياً مساوون. وهم يتمتعون بحقوق تعبيرية أرفع من التي يتمتع بها المسلمون في معظم البلدان المسلمة. كذلك فالمسلمون في اسرائيل ليسوا مساوين عملياً لليهود، لكنهم مساوون نظرياً. كما يتمتعون بحقوق تعبيرية أرفع مما في الجوار، وبمستويات دخل أعلى مما في سائر البلدان المسلمة، باستثناء بعض بلدان الخليج النفطية. هذا لا يعني ان أكثرية الأميركان والهنود والاسرائيليين مولعة بالاسلام والمسلمين. ولا يلغي المشاعر العنصرية التي تقيم في قطاعات عريضة في البلدان الثلاثة. لكنه يدلّنا الى مكان آخر: الفردية وصعود الفرد، ولو بتفاوت، في هذه البلدان. وبالتالي: ميل هذه البلدان الى تثمين حياة أفرادها حتى التقديس. حتى الذهاب الى أبعد حدود التزمت والتصلب في طلب الضمانات لتلك الحياة. بل حتى الاعتداء على حيوات الآخرين أحياناً. هذه الفردية التي اشتهرت بها أميركا، قفزت في السنوات الأخيرة قفزات بعيدة في اسرائيل والهند. ديموقراطية البلدين البرلمانية عبّدت طريقها. فاسرائيل انتقلت من اقتصاد كيبوتزي وجماعي الى آخر اتصالي ما بعد صناعي. كذلك فعلت الهند التي غدت خبراتها التقنية سبباً لتنافس الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية عليها. وهذا التحول كان، في البلدين، نتاجاً لتضافر جهود القوى السياسية كلها: في الهند ابتدأت العملية مع راجيف غاندي وحزب المؤتمر العلماني وتتوجت مع بهاراتا جاناتا الهندوسي. وفي اسرائيل انطلقت في ظل حكومات الائتلاف، ثم واكبها اسحق رابين العمالي ومن بعده بنيامين نتانياهو الليكودي. ولقاء البلدان الثلاثة عند الفرد والفردية يستجيب وجهةً لم يُكترث لها في العالم العربي: ذاك ان انتهاء الحرب الباردة وسّع معاني التحالفات فلم تعد تقتصر على الحكومات، بل تعدّتها الى الثقافات وتراكيب المجتمعات. وهذا ما انفجر مع حرب أفغانستان الأخيرة في تصاعد الانتقادات الأميركية للتعليم والإعلام في بلدان حليفة سياسياً للولايات المتحدة. بطبيعة الحال، هذه الفردية ليست صافية ولا يمكن أن تكون. فهي حتى في أميركا - ناهيك عن اسرائيل والهند - لا تزال شريكة الولاء للعائلة والدين. وقد ظهر منظّرون رأوا ان هذه الأبعاد جميعاً يمكن أن تتجاور وتنسجم في "عالم ما بعد حداثي". كذلك لا تزال الفردية موضوعاً لسجال بين من يريدونها بديلاً مطلقاً لروابط الاجتماع، ومن يريدونها نواة الاجتماع الأعرض. إلا أن ما يرسخ ان البلدان التي شهدت نشأة الفرد تواجه بلداناً ممنوعٌ فيها على الفرد أن ينشأ. وهذا هو الموضوع الذي ذهب ضحيته ما لا يُحصى من أبرياء أفغان وفلسطينيين وباكستانيين. وهذا هو الموضوع الذي "يبرر" لغلاة الأميركان والاسرائيليين والهنود ان يتشددوا وان يلقوا دعماً شعبياً لتشددهم. فلا هم ينتبهون الى ان الفردية غير قومية، وأنها لا تنتصر، بل لا تأمن، الا حين تمتد عالمياً. ولا نحن ننتبه الى مسؤولياتنا: مسؤولية العيش أحياءً، لا شهداءً، في الزمن المتحول هذا.