بعد ساعات من التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق الشراكة الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي والجزائر في 19 كانون الأول ديسمبر 2001، أكدت مصادر بلجيكية مقربة من رئيس أركان القوات المسلحة الأميرال ويلي هرتلير، أن تطور التعاون القائم بين الجزائر ومنظمة حلف شمال الأطلسي منذ منتصف العام 1999، سيفضي هو الآخر الى توقيع اتفاق أمني خلال شهر كانون الثاني يناير المقبل. وما تعمد الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة زيارة مقر المنظمة - الأولى لرئيس دولة عربية - خلال وجوده في العاصمة البلجيكية، سوى اشارة واضحة لقرب الاعلان عن هذا الحدث. كذلك، التأكيد لمن يهمه الأمر من مراقبين سياسيين واعلاميين، أجانب وجزائريين، بأن "قصر المرادية" شريك أساسي في صوغ القرار مع المؤسسة العسكرية المتعارف على وصفها على الدوام ب"السلطة الفعلية" في البلاد. فبتوقيعها المرتقب على هذا الاتفاق الأمني، تلحق الجزائر بركب ست دول أخرى المغرب، تونس، موريتانيا، مصر، اسرائيل والأردن تمثل منطقتي جنوب وشرق المتوسط، التزمت بإنشاء علاقات من هذا النوع مع المنظمة الأطلسية. الآن وبعد أن حسمت الأمور في هذا الاتجاه، يمكن القول إن الأشياء الجدية بدأت بين الطرفين، بكل ما يترتب عليها من واجبات وحقوق جغرا - سياسية، ستفرض نفسها بقوة في المستقبل القريب، خصوصاً بعد تداعيات ضربة 11 أيلول سبتمبر. وهكذا، تكون الجزائر انضمت، بعد تردد، مَثَلُها في ذلك مثل دول الجوار المغاربية الثلاث، الى عائلة المنظمة على رغم خلافاتها الأساسية مع البعض، وتبايناتها الظرفية مع البعض الآخر. فداخل الحلف الأطلسي، لن تستطيع القيادة الجزائرية بعد الآن المطالبة بمعاملة متميزة نظراً الى كونها تشكل "قوة اقليمية رائدة"، مالكة للثروات الطبيعية الأكبر في محيطها، الأمر الذي يجب أن يؤخذ في الحساب. إذاً ستضطر الجزائر، عاجلاً أم آجلاً، "بمساعدة وتفهم" المنظمة الأطلسية، الى ايجاد القواسم المشتركة مع الشركاء وحل النزاعات ضمن صيغ تكاملية تحفظ حقوق الجميع حتى ولو تمت التضحية بالمبادئ بما فيها حق تقرير المصير للشعب الصحراوي، الذي طالما نادت به ووضعته شرطاً غير مباشر لتطبيع علاقاتها مع الجار المغربي. بناء عليه، يتوقع المحللون السياسيون، المختصون بشؤون منطقة المغرب العربي حدوث تحولات مع التوقيع على الاتفاق الأمني المنشود. مراحل الجد في كسب الود كما سبق وذكرت، فإن الاتصالات الرسمية الأولية - التي بقيت سرية لفترة - بدأت خلال سنة 1999 بين خبراء ومسؤولين عسكريين رفيعي المستوى من الجانبين. وسبق هذه اللقاءات المباشرة، اعداد مدروس قام به ديبلوماسيون لتذليل العقبات وإزالة التساؤلات الموجودة من خلال شرح الأبعاد السياسية لمستقبل العلاقات وأهداف وطموحات كل طرف من وراء التوصل الى اتفاق تعاون أمني مشترك. فمنظمة الحلف الأطلسي تطرح نفسها منذ نهاية الحرب الباردة على أنها مؤسسة تبذل جهوداً من أجل الدفاع عن السلام واستشفاف حدوث النزاعات وادارة الأزمات وتسهيل ايصال المساعدات الانسانية للمنظمات غير الحكومية التي تجد صعوبة بسبب أوضاع الحرب والعنف للمحتاجين لها. كذلك تطوير خطة بحث علمي وتأهيل مدني. باختصار، حاول المسؤولون في الحلف إفهام محاوريهم بأن المنظمة أصبحت احدى المؤسسات الاساسية بل الرئيسة لضمان الأمن في أوروبا. وبما أن الاتحاد الأوروبي أطلق في تشرين الثاني نوفمبر من العام 1995 عملية برشلونة اليورو - متوسطية بهدف بناء منطقة تبادل حر اقتصادية وخصوصاً منطقة سلام وأمن في المتوسط، فإن الجزائر أصبحت بحكم الواقع الجغرا - السياسي معنية بهذه الأولوية الأمنية. وبالتالي، عليها التفكير من الآن وصاعداً بجدية في كيفية الشروع بحوار يؤدي لانضمامها الى هذا الفضاء الأمني الذي من أولوياته ايجاد حال من الاستقرار في منطقة المغرب العربي. هكذا، وفي شكل موازٍ مع استئناف المفاوضات بين الجزائر والاتحاد الأوروبي - التي انطلقت في العام 1995 - بهدف توقيع اتفاق الشراكة الاقتصادية، بدأت الاتصالات العلنية بين الجزائر ومنظمة الحلف الأطلسي بزيارة قائد الاسطول السادس الاميركي المتمركز في المتوسط الأميرال كلارك تبعها تعيين ضابط كبير برتبة جنرال - ماجور في المكتب العسكري الجزائريببروكسيل للتنسيق، كذلك توقيع معاهدة تقضي بتأهيل عدد من العسكريين الجزائريين في مجال التكنولوجيا المتقدمة. وتزامنت هذه المبادرات أيضاً مع زيارة قائد الأسطول السادس، الأميرال المساعد، دانييل مورفي الى الجزائر في أيلول 1999 حين أعلن: "أن الخيار ليس من قبيل المصادفة، لكنه نتيجة مباشرة للتغييرات الايجابية والملفتة الجارية في الجزائر". وعلى الصعيد السياسي، دخلت الجزائر في شراكة مع المنظمة عبر مجال الحوار السياسي المتعلق بمنطقة البحر المتوسط والانفتاح التدريجي فيه ووضعية الأحزاب والتحرك النشط لهيئات المجتمع المدني. الأهم في كل ذلك، ان هذه الخطوات والزيارات لم تأت من فراغ، لأنها تشكل جزءاً من الاستراتيجية الأميركية للأمن القومي في الألفية الثالثة. ففي الخامس من شهر كانون الثاني من عام 2000، أشار التقرير الخاص بهذه الاستراتيجية الذي قدمه الرئيس بيل كلينتون للكونغرس، الخصوصية التي توليها الولاياتالمتحدة للاستقرار والازدهار في منطقة شمال افريقيا التي، كما وصفها، تشهد حالياً تغييرات على جانب كبير من الأهمية. وشدد التقرير على ضرورة تعزيز العلاقات مع ثلاثة بلدان مغاربية هي: الجزائر والمغرب وتونس - مستثنياً ليبيا وموريتانيا - وتشجيع الاصلاحات السياسية والاقتصادية فيها وترويج الديموقراطية التي تشكل إضافة الى ذلك، هدفاً بالنسبة الى القارة الافريقية. لذلك إن واشنطن تجنح نحو اقامة حوار بناء مع هذه الدول. فمنذ نشر هذا التقرير، والتقارب الجزائري - الأطلسي يشهد قفزات نوعية على الأصعدة كلها. في هذا السياق، قام رئيس الأركان، الجنرال محمد لعماري، في 27 شباط فبراير 2001، على رأس وفد رفيع المستوى من وزارة الدفاع الجزائرية بزيارة عمل الى مقر قيادة القوات الاميركية في شتوتغارت في المانيا، تلبية لدعوة من الجنرال سي فولفورد التي تندرج في اطار تنمية علاقات التعاون بين القوات الاميركية والجيش الوطني الشعبي الجزائري. ويشار الى أن العلاقات بين الجيشين قطعت اشواطاً عملية منذ سنوات - تخلل ذلك زيارات متعددة للجنرال لعماري الى واشنطن - من خلال المناورات العسكرية المشتركة التي كانت تجرى بانتظام. آخر هذه المناورات في شهر شباط الماضي. وتضمنت المناورات عمليات عدة خصصت لمواجهة اختراقات الغواصات. وكانت بارجة من الاسطول السادس الاميركي يو - إس - غراسب شاركت في مناورات بحرية مع وحدات جزائرية في جنوب المتوسط في الثاني عشر من آب اغسطس 2000. وفي الخامس عشر من آذار مارس 2001، قام وفد برلماني يمثل منظمة الحلف الاطلسي للمرة الأولى بزيارة الجزائر والتقى الجنرال لعماري وبحث معه الأوضاع "السياسية" في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، تلاها بعد أيام زيارة الأمين العام المساعد للمنظمة كلوس بيتر - كليبر للغاية نفسها تقريباً. تبعات دخول النادي الأطلسي يشترط الاتفاق الأمني العتيد المتوقع قريباً بين الجزائر ومنظمة الأطلسي وجود ثقة مطلقة بين الطرفين لناحية تبادل المعلومات السرية والخاصة، ذات الطابع العسكري وغيره من النوع الذي لا يمكن بأية حال من الأحوال الإفصاح عنها أو تسريبها تحت ظرف من الظروف. فتوقيع اتفاق بهذه الأهمية يشترط أن يكون نمو العلاقات قد بلغ درجات عالية من التنسيق والتعاون الميداني، مما يمنع بروز أخطاء أساسية أو هفوات ثانوية من كلا الجانبين. ويسمح الاتفاق بشموليته، على سبيل المثال، للجزائر، بالحصول على أسلحة متطورة من الدول الأعضاء في المنظمة. لكن الأمر يتطلب بادئ ذي بدء أن يحصن الجيش الوطني الشعبي الجزائري مستوياته الفنية والبشرية حتى تتماشى مع الجانب الاحترافي. بمعنى أن تتخلى قيادة الجيش عن إعطاء الأولية لمؤسسة الأمن العسكري، كما هو الحال الآن، الحامية الفعلية للنظام، وتتوجه لبناء جيش حديث متطور بالمفهوم المهني للكلمة. ويؤكد أحد الجنرالات من المحترفين الذين لم يتدخلوا يوماً في السياسة، والمتخرجين من إحدى الكليات العسكرية في الاتحاد السوفياتي السابق، أن السلطات المعنية تدرس جدياً هذا الخيار - النصيحة المقدمة من الحلفاء الغربيين الجدد، لكن المسألة ليست في هذه البساطة، بحسب قوله، لأنها أولاً مكلفة جداً، وثانياً لأن هنالك جملة من المصالح والنفوذ متشابكة الى حد تمنع اتخاذ أية قرارات بسرعة. ويعطي هذا الجنرال الذي طلب عدم ذكر اسمه، مثل هنغاريا، العضو السابق في حلف وارسو، اضطرت لإنفاق مبلغ ثلاثة بلايين دولار في فترة سنتين لتأهيل وتحديثه جيشها حتى يكون جاهزاً ومقبولاً للانضمام الى المنظمة الأطلسية. في ظل المعطيات الحالية، يمكن الجزم بأن الجزائر ليست في هذا الوارد، إذ أن أقصى ما تطمح اليه في المدى القصير وحتى المتوسط توقيع اتفاق تعاون دفاعي وأمني من دون الذهاب أبعد من ذلك والادعاء بالقدرة على لعب دور العضو والشريك الكامل الذي في استطاعته تحمل تبعات المهمات وأعبائها. في هذا الاطار، يبدو أن الأمور تسير في الشكل المرسوم، خصوصاً أن القيادة العسكرية الجزائرية - خلافاً للقيادة السياسية - تتعامل مع ما هو مطروح بكثير من الواقعية آخذة في الاعتبار الامكانات المتاحة والقدرات الفعلية. وتشير بعض الأوساط في بروكسيل، الى أن العسكريين أظهروا موضوعية لافتة أكثر من المدنيين خلال المفاوضات مع نظرائهم الأوروبيين، وبالتالي حظوا على ثقتهم. ولا تنفي هذه الأوساط، المعلومات التي رشحت عن دوائر أوروبية مفادها أن الشريكين نسقا بينهما أكثر من ثلاثين عملية ميدانية أمنية في العام الجاري. ما وصفه الخبراء بأنه فاق كل أشكال التنسيق والتعاون مع الشركاء الستة في منطقة المتوسط. وقدمت الأجهزة الأمنية والعسكرية الجزائرية للحلف معلومات فاقت التوقعات كونها غطت مجالات حيوية دقيقة عسكرية ومدنية تجاوزت حدود منطقة المغرب العربي لتشمل مشرقه وبعض افريقيا. على رغم ذلك، يصعب على الجزائر في ظل الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الحالي، حتى لو شاءت قيادتها ذلك، الاسهام مثلاً في ارسال قوات حفظ السلام ضمن التحالفات الدولية التي تقودها المنظمة في مناطق ساخنة عدة من العالم. ويقر الجزائريون بالواقع، وهو أن الانضمام الى منظمة حلف شمال الأطلسي ليس بالمهمة السهلة، لأن المرشح لدخول النادي يترتب عليه تبعات شتى، كما عليه احترام مقاييس عدة من بينها اعادة بناء وحداته العسكرية وفق تصور مهني محدد، ومستوى فني متقدم ومشاركة مالية كبيرة في موازنة المنظمة، يصعب على الجزائر حالياً الاضطلاع بها. * اقتصادي لبناني.