تقابلا صدفة كالعادة. تمتد الاعوام وهما على هذه الحال، يسكنان الحي نفسه، لا يفصل بينهما سوى شارع واحد، وجفوة تراكمت عبر الايام، بعد صداقة دامت طويلاً. قال الاول: أنا عَزلت بقالي أيام. - يا راجل!! - آه والله، من كام يوم كده. تطلع الثاني حوله بعيون زائغة، ثم حدق إليه وقال: - ماخدتش بالي!! - أصل بقالنا كتير ماتقابلناش. - للدرجة دي؟! - أنت مش هنا خالص!! راح الثاني يعبث في جيوبه على نحو غامض، وينظر عند حذاء صديقه القديم، ثم قال: - جايب مانجه؟ - العيال كل يوم عايزين مانجه - أنا كمان العيال عندي..!! توقف فجأة وقد تذكر شيئاً، مبحلقاً الى كيس المانغو. - بس احنا أصحاب يا أخي!! -.. .. . . . . . . . . - من واحنا عيال. انتظره حتى يكمل جملته، بينما عاد يتوقف من جديد وبخشونة تصعد الى رأسه، في ما يشبه الغضب، أشاح بوجهه بعيداً، وشبح ابتسامة يعبره ويختفي: يعني مش هاعرف اشوفك!! - إزاي! - كده - ما انت شفتني آهه. - صدفة!! - بقالنا سنين على كده. فكر كما لو أنه يدرك للمرة الاولى، ان كلاً منهما لم يسع للقاء الآخر، منذ وقت طويل. قال فجأة: كنت بشوفك من البلكونة. -.. . . . . . . . - هي بعيدة، بس بعرف انه انت اللي واقف. - هي المانجه دي إيه؟ - هندي. - انا كمان العيال بيحبوا الهندي. - صحيح. - آه والله - فكرتني بالمانجه اللي كنا بنسرقها من الفيللا اللي هناك. - .. .. . . - الواحد بيتهيأ له انها كانت أحلى مانجه، في الدنيا. - ما تاخد واحدة. - هانكلها ازاي. - كُلها وخلاص. أخرجا حبتين، وراحا يمتصانها كما كان يحدث قديماً. قال الثاني فجأة: كنت بتشوفني من البلكونه عندك؟ - مش عارف بيتهيأ لي. شعر بذلك الشيء يصعد من جديد الى رأسه، استطرد بصوت متحشرج: - ما انتش فاكر؟! - بيتهيأ لي. - يعني ازاي؟! - مش فاكر. - مش فاكر!! نظر الاول في عين صاحبه، وقال ضاحكاً: المانجه وصلت لصدرك. راح يمسح صدره من تحت القميص بضيق: هندي ازاي ومليانه ميه كده. - ميه ايه؟ طول عمرك ماتعرفش في الفاكهة. - أنا؟ - أمال أنا. وراح يضحك من جديد. قال الثاني: انا باخد بالي جداً. - ما هو باين. حاول ان يرد عليه، لكنه أخذ يتلفت حوله، وأفكار تهيم في رأسه، حول صداقتهما القديمة، الغالية، يحاول أن يتذكر أسباب القطيعة، من دون أن يمسك بشيء واحد، لكنه فكر بوضوح، أن صديقه لم يعد موجوداً في الحي. - هاتبيعوا بقه الشقة. - مش عارف. - انا بعدّي من هناك كل يوم. - وانت جاي من الشغل؟ - وانا جاي. - طب يا أخي، كنت اطلع مرة كده. - كل يوم كنت اقول هاطلع، وتحصل حاجه. - . . . . . . . - فكرت آجي كتير، بالليل، اقول خطوتين وابقى هناك، كان لازم تقولي انك هاتعزل. عاد صديقه للضحك، وهو يعتصر المانجو، ثم شعر بارتباك على نحو مفاجئ، أعقبه غَصهَ في الصدر. - باينها مش هندي. - شفت. - خد جرب دي. أعطاه حبة أخرى، نظر الثاني في الساعة، سأله صاحبه: - كام؟ - اثنين ونصف. - ياه. مرر الأول نظراته فوق شعرات بيضاء برأس الثاني، ثم تلفت حوله: أنا فعلاً مرة شفتك في البلكونه. -.. .. .. . . . - كنت واقف وبتشرب حاجه. - لازم بالليل. - النور عندكم باين. - عندي لمبه في البلكونه، لمبه كبيره. - الظاهر كده. نظر عند قميص صاحبه من عند الصدر وقال: ما تيجي نرّجع المانجه. - ينفع دلوقتي؟ - دلوقتي. سارا في الشارع الطويل بخفة، واضواء من سيارات قادمة تخبط بوجهيهما، وكانا يتلفتان نحو البيوت الساكنة تحت رعشات ظلال بعيدة. * كاتبة مصرية