أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    كوريا الجنوبية تهزم الكويت بثلاثية    تبرعات السعوديين للحملة السعودية لإغاثة غزة تتجاوز 701 مليون ريال    حسابات منتخب السعودية للوصول إلى كأس العالم 2026    القبض على 3 إثيوبيين في نجران لتهريبهم 29,1 كجم "حشيش"    إجتماع مجلس إدارة اللجنة الأولمبية والبارالمبية السعودية    الحقيل يلتقي في معرض سيتي سكيب العالمي 2024 وزيرة الإسكان والتخطيط الحضري البحرينية    «الداخلية» تعلن عن كشف وضبط شبكة إجرامية لتهريب المخدرات إلى المملكة    وزير الإعلام يلتقي في بكين مديرَ مكتب الإعلام بمجلس الدولة الصيني    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة إلى 43736 شهيدًا    مركز الاتصال لشركة نجم الأفضل في تجربة العميل السعودية يستقبل أكثر من 3 مليون اتصال سنوياً    «محمد الحبيب العقارية» تدخل موسوعة غينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    المروعي.. رئيسة للاتحاد الآسيوي لرياضات اليوغا    أمير الرياض يستقبل أمين المنطقة    أمير المدينة يلتقي الأهالي ويتفقد حرس الحدود ويدشن مشروعات طبية بينبع    الذهب يتراجع لأدنى مستوى في شهرين مع قوة الدولار والتركيز على البيانات الأمريكية    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    الأمير عبدالعزيز بن سعود يرأس اجتماع الدورة الخمسين للمجلس الأعلى لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام بيع 100 مليون سهم في «stc»    «هيئة الإحصاء»: معدل التضخم في السعودية يصل إلى 1.9% في أكتوبر 2024    البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت    اختتام مؤتمر شبكة الروابط العائلية للهلال الأحمر بالشرق الأدنى والأوسط    وزير الخارجية يصل لباريس للمشاركة في اجتماع تطوير مشروع العلا    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    أفراح النوب والجش    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    استعادة التنوع الأحيائي    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    أجواء شتوية    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    الذاكرة.. وحاسة الشم    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    تكريم الفائزين بجائزة الأمير سلطان العالمية للمياه في فيينا    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب منتصر الزيات : "الظواهري كما عرفته". إعدام ابن أحد القريبين واستدراج قيادي في التنظيم وتصفيته ... ومسرحية "الاستقالة" من زعامة تنظيم "الجهاد" الحلقة السابعة
نشر في الحياة يوم 16 - 01 - 2002

ظلت كل الخيوط داخل "جماعة الجهاد" منذ أسسها الدكتور أيمن الظواهري تنتهي عنده هو من دون أي أحد آخر. فكل خيط تنظيمي انيط نسجه لأحد قادة الجماعة كان يختفي دائماً عند نقطة معينة حتى بالنسبة الى من نسجه، فهو لن يعرف أبداً سوى أن نهاية الخيط ستكون في حوزة الدكتور "عبدالمعز"، وهو الاسم الذي كان قادة التنظيم ينادون به الظواهري. وتكونت "جماعة الجهاد" من لجان عدة تضم في عضويتها القادة البارزين للجماعة ويتولى المسؤولية عن كل لجنة واحد من أقرب المقربين للظواهري، ويدل اسم كل لجنة على طبيعة عملها، ف"اللجنة المالية" هي التي تتولى تدبير موارد التنظيم وفتح قنوات جديدة لتدفق الأموال لتصب في النهاية لصالح خدمة أهداف الجماعة، كما تتولى أيضاً مسألة الإنفاق وتحديد السبل التي تتجه إليها الأموال. و"لجنة التنظيم المدني" تتولى العمل التنظيمي داخل الجماعة بدءاً من تجنيد الأعضاء ورعايتهم وتصنيفهم وانتهاء بتحديد طرق الاتصال بهم.
أما "لجنة العمل العسكري" فمهمتها تجنيد عناصر من الجيش وربطهم بقادة التنظيم، و"اللجنة الشرعية" تتولى إعداد الأبحاث والدراسات وإصدار الفتاوى والأحكام الشرعية. وينشط عمل تلك اللجنة عادة كلما زاد النشاط العسكري للتنظيم، إذ يتعين عليها في ظل تلك الظروف إعلان الأسس الشرعية التي استندت إليها كل عملية والرد على انتقادات وسائل الإعلام والقوى السياسية المناهضة.
وبالطبع فإن الإمعان في السرية داخل تنظيم مثل "جماعة الجهاد" يكون أمراً مفهوماً نظراً الى طبيعة عمل التنظيمات الإسلامية التي تسعى إلى تحقيق أهداف تصطدم بسطوة الأنظمة والحكومات، كما أن احتمال وقوع واحد أو أكثر من أعضاء وقادة التنظيم في قبضة السلطات يظل أمراً وارداً، وبالتالي فإن تعرضه للتعذيب لانتزاع ما لديه من معلومات سواء تلك التي تتعلق بنشاط التنظيم أو خططه أو هيكله القيادي يظل وارداً أيضاً، وبالتالي فإن كل عضو يجب ألا يعلم عن نشاط الجماعة إلا ما يتعلق بموقعه التنظيمي. وحين يؤدي العضو الجديد قَسم الولاء والطاعة لأمير الجماعة فإنه يعي جيداً تلك الأمور، ونادراً ما يسأل العضو أو حتى القيادي عن شيء لا علاقة له به. أما بعض الفضوليين الذين يغلب طابعهم عليهم فإنهم يظلون دائماً تحت المجهر من جانب قادة الجماعة خشية أن تصل إليهم معلومات تضر بالجماعة، وكثيراً ما استبعد عن عضوية الجماعة أشخاص من ذوي الكفاءات العالية والمهارات الخاصة لأن نهمهم إلى معرفة بواطن الأمور والشكوك التي تثار حولهم تحول دون قبولهم كأعضاء في الجماعة، وبالتالي تطاح آمالهم في الانضمام إلى التنظيم.
وعلى ذلك يمكن تفسير استمرار عمل الجماعة وربما اتساع رقعة نشاطها على رغم تعرضها لضربات أمنية موجعة خلال السنوات الماضية، بدءاً بسقوط العشرات من الأعضاء في قضايا "طلائع الفتح"، مروراً بالقبض على خلية "البانيا" وانتهاء بسقوط أحمد سلامة مبروك والقبض علىه في أذربيجان وترحيله إلى مصر. فالجماعة قادرة دائماً على أن تفرز قيادات بديلة، أما المعلومات التي أدلى بها من تم تسليمهم فإنها لا تؤثر كثيراً بالسلب على نشاط الجماعة أو على أمن عناصرها. فالظواهري ومساعدوه كانوا يسارعون بمجرد سقوط أحد العناصر الى تعديل الخطط وتغيير الأساليب قبل أن تتمكن أجهزة الأمن من القبض على آخرين.
والحقيقة أن الظواهري، مثل غيره من البشر، كان يقع في أخطاء ربما كان السبب الرئيسي وراءها الظروف غير الطبيعية التي كان يعيش فيها منذ خروجه من مصر. فالمطاردات والملاحقات الأمنية والانتقال من مكان إلى آخر ومحاولة اختراق الحدود والحواجز والدخول في صدامات مع آخرين والعيش في بيئة غير طبيعية، كلها أمور تجعل وقوعه في خطأ وراء آخر أمراً طبيعياً، غير أن اعتداد الظواهري بنفسه رغم تواضعه وتمسكه برأيه ورغم ثقة إخوانه به وجنوحه الى الصدام مع من لا يتفقون معه في الرأي رغم تسامحه، كلها أيضاً عوامل أفضت إلى وقوع تجاوزات خطيرة داخل التنظيم.
ولأن الظواهري نكأ في كتابه "فرسان تحت راية النبي" كثيراً من الجراح وفتح ملفات ظلت مغلقة وتطرق إلى قضايا ظلت عالقة وغاص في ملفات شائكة من دون أن يتناول جراحاً وملفات وقضايا أخرى، فإن كتابه لم يُظهر الصورة كاملة بل بدت مشوهة غير واضحة المعالم. وقد اعتدنا في الحركة الإسلامية دائماً الفصل بين خلافاتنا الشخصية أو التنظيمية وبين الكشف عن وقائع أو معلومات قد تضرّ بآخرين أو توقعهم في الحرج أو تسبب ضرراًَ لصورة الإسلاميين أو تضعف موقفهم أمام أي قوى أخرى، فأبناء الحركة الإسلامية كانوا دائماً حريصين على مستقبل الحركة التي تتعرض دائماً لمخاطر جمة، ولكن ما دام الظواهري آثر أن يفتح الملف فإنني سأكتفي هنا بالحديث عن ثلاث وقائع ظلت المعلومات عنها غير واضحة، وتتعلق اثنتان منها بعمل اللجنة الأمنية ل"جماعة الجهاد"، أما الثالثة فإنها تتعلق بالظواهري نفسه.
إعدام صبي
ظل الإسلاميون وأنا معهم، يشكون إلى الله أحكام الإعدام التي تصدرها المحاكم المدنية والعسكرية ضد إخواننا، وكنا ولا نزال نحرض المنظمات الحقوقية على الضغط على الحكومة المصرية لوقف نزيف دماء الإسلاميين. وكم تداول القضاء من دعاوى اقمناها لمحاولة ضمان محاكمة عادلة لأبناء الحركات الإسلامية. وكثيراً ما هاجم الظواهري، سواء في مقالاته أو من خلال كتبه أو في بيانات الجماعة ونشراتها، المحاكم العسكرية والمدنية التي قضت بإعدام عناصره. ومع ذلك فإن الظواهري أقدم تحت وطأة القسوة التي غلفت تصرفاته وسياساته، على قتل صبي هو ابن أحد المقربين إليه من قادة الجماعة أمام عيني والده لأن الصبي دانته "محكمة شرعية" شكلها الظواهري بالإضرار بالجماعة والتجسس عليها ونقل أخبارها إلى السلطات المصرية. وأذكر أنني حين علمت بما جرى لم أصدق واتهمت من أبلغني بالأمر أولاً بأنه يضمر حقداً للظواهري ويسعى إلى تشويه صورته والإساءة إلى تاريخه والاقلال من مكانته، لكن للأسف تبين لي أن القصة حقيقية وأن الصبي قتل بالفعل أو أعدم أمام حشد من قادة الجماعة وعناصرها ليكون عبرة لكل من تسول له نفسه تكرار ما ارتكبه من جريمة رأى الظواهري أنها لا تغتفر.
تكفلت اللجنة الأمنية في "جماعة الجهاد" بالقضية فهي التي تتولى تأمين الجماعة وعناصرها وكشف كل ما يمكن أن يسبب الضرر لهم. وكانت اللجنة لاحظت أثناء إقامة الظواهري مع بن لادن وعشرات وربما مئات من قادة وعناصر التنظيم في السودان ان أخباراً ومعلومات تسربت إلى أجهزة الأمن المصرية عن نشاط التنظيم والأماكن التي يتردد اليها الظواهري ورجاله، ولاحظ أعضاء في اللجنة فجأة أن المنزل الذي كان يقيم فيه الظواهري في العاصمة الخرطوم تم رصده بواسطة رجال أمن مصريين، واجهضت الجماعة محاولة لاغتيال الظواهري بواسطة عبوة ناسفة وضعت في مدخل مستشفى كان يتردد عليه بانتظام بحكم مهنته الأساسية وهي الطب. وبعد تحريات ومراقبات وتحقيقات خلصت اللجنة إلى أن أجهزة الأمن المصرية تمكنت من اختراق الهيكل التنظيمي للجماعة إلى درجة الاطلاع على ما يدور في اجتماعات المستويات العليا في السلم التنظيمي، وأنها تمكنت من تجنيد نجل القيادي البارز في الجماعة محمد شرف بعدما تمكنت من الضغط عليه بواسطة صور فوتوغرافية التقطت له في أوضاع مخلة بالآداب.
كان ذلك في غضون العام 1994، أي بعدما ترك الظواهري أفغانستان واتجه للإقامة في السودان، ولم يكن الصبي يبلغ من العمر سوى 15 سنة، وتبين أن الاستخبارات السودانية لعبت دوراً في القصة فالخيط الأول للإيقاع بالصبي الصغير جاء من عندها، اذ كانت الحكومة السودانية تعلم في تلك الفترة بنشاط الاستخبارات المصرية على أراضيها ولم تكن لتكشف ذلك النشاط على الملأ نظراً الى حساسية العلاقة بين البلدين، وابلغ مسؤول في الحكومة السودانية الظواهري بالأمر فأحال القضية على اللجنة الأمنية التي أكملت الملف حتى نهايته.
ورغم أن بعض المقربين من الظواهري أكدوا أنه كان متأثراً جداً بالموضوع، وأنه تحدث طويلاً مع والد الصبي ليخفف عنه آلام الصدمة، فإن آخرين أكدوا أيضاً أن الحادثة كانت سبباً في انفصال شرف عن التنظيم وابتعاده نهائياً عن العمل ضمن "جماعة الجهاد". وما أقسى ما مر به الرجل، فوضعه التنظيمي كان يستوجب حضوره عملية إعدام ابنه رمياً بالرصاص أمام عينيه، بل إن الظواهري طلب منه ما هو أصعب من ذلك إذ عهد إليه مهمة معالجة تداعيات الأمر مع السلطات السودانية بعدما عبر مسؤولون سودانيون عن غضبهم الشديد من جراء إقدام الظواهري على تشكيل "محكمته الشرعية" وتنفيذ قانونه الخاص على الأراضي السودانية. كما أن السودانيين خشوا أيضاً من إقدام الحكومة المصرية على تنفيذ عمل انتقامي بعد إعدام عميلها الصغير.
عكست الحادثة إلى أي مدى تمكنت الحياة القاسية التي عاشها الظواهري في شخصيته وإلى أي مدى كان تحول التنظيم لدى الرجل إلى هدف وليس وسيلة لتحقيق الهدف الذي أنشئ من أجله، وأن الرغبة في تحقيق الانضباط التنظيمي لدى الظواهري واعتقاده بأن إعدام الصبي كفيل بعدم تكرار الأمر فاق أي عوامل إنسانية أخرى أو حتى حرصه على بقاء شرف ضمن الهيكل التنظيمي للجماعة.
استدراج "أبو خديجة" وقتله
عرضنا سابقاً لواقعة إفشاء الظواهري تحت وطأة التعذيب الذي تعرض له بعد القبض عليه إثر حادثة المنصة عن مكان الشهيد عصام القمري، ما مكن السلطات المصرية من القبض عليه. وأشرنا إلى أن ذلك الأمر ظل يمثل عبئاً ثقيلاً على نفس الظواهري الذي كانت العلاقة بينه وبين القمري تفوق العلاقة بينه بين أيٍ من رموز الحركة الإسلامية في مصر لسنوات طويلة. ولم نفكر جميعاً، بمن فينا القمري نفسه، يوماً في توجيه لوم إلى الظواهري لأننا كنا نعلم أنه أقرّ بمكان القمري نتيجة التعذيب الرهيب الذي تعرض له بل إننا كنا نتجاهل عمداً أثناء أحاديثنا عن قضية السادات وحادثة المنصة الإشارة إلى الظروف التي أفضت إلى القبض على القمري مراعاة لمشاعر الظواهري وأحاسيسه. وأشعر بأسف شديد حين أتذكر تصرف الظواهري بصورة مغايرة تماماً تجاه واحد من أبرز ابناء الحركة الجهادية لم يتأكد أنه - تحت وطأة التعذيب أيضاً - أقر بمكان زميل له فمكن أجهزة الأمن المصرية من القبض عليه. كان محمد عبد العليم رحمه الله، وهو عرف في أوساط الإسلاميين المصريين باسم "أبو خديجة"، واحداً من أكثر أعضاء "جماعة الجهاد" وفاءً للتنظيم وأكثرهم خدمة لأهدافه، وظل طوال عقد الثمانينات يحظى بمكانة خاصة بيننا لدماثة خلقه وتفضيله إخوانه دائماً حتى على نفسه، وارتباطه بالحركة الإسلامية الجهادية في سن مبكرة. وقبل أن يلحق بعضوية "جماعة الجهاد" ويعمل مع الظواهري في أفغانستان، كان ارتبط في مصر بأبو عبيدة البنشيري علي الرشيدي، وزادت الصلة بينهما علماً بأن الرشيدي لم يكن وقتها يفضل أن يعمل ضمن إطار تنظيم بعينه ويسعى إلى خدمة الحركة الإسلامية عموماً، ولذلك انضم مباشرة بعدما سافر إلى أفغانستان إلى اسامة بن لادن وعمل ضمن تنظيم القاعدة، حتى صار القائد العسكري للتنظيم قبل أن يستشهد غرقاً في بحيرة فيكتوريا. كان ارتباط أبو خديجة بالرشيدي شديداً، وهو سافر قبله إلى أفغانستان، بل أن الرشيدي هو الذي دبر له ترتيبات السفر، وفي افغانستان التحق أبو خديجة ب"جماعة الجهاد" وعمل مباشرة مع الظواهري. وفي الوقت نفسه التحق بالعمل في "دار للايتام" في مدينة بيشاور الباكستانية، وعلى رغم أنه لم يكن تجاوز الخامسة والعشرين وقتها إلا أنه كان دائب الحركة كثير النشاط فاضطلع بأدوار لم يكن لغيره أن يؤديها. كان "ابو خديجة" قد تزوج قبل أن يغادر مصر لكنه ترك زوجته وأولاده في مصر وظل اثناء الفترة التي قضاها في أفغانستان قلقاً تواقاً الى رؤية ابنائه وزوجته وفاتح الظواهري برغبته في السفر إلى مصر لرؤيتهم ومحاولة إخراجهم والعودة معهم مجدداً إلى أفغانستان. من جهته حاول الظواهري إثناءه عن تلك الفكرة وأبدى له خشيته من وقوعه في قبضة السلطات المصرية وأصر "أبو خديجة" ولم يكن ليؤثر فيه رأي الظواهري. المهم في الأمر أن "اللجنة الأمنية" لجماعة الجهاد وضعت خطة لإعادة أبو خديجة إلى مصر بجواز سفر مزور مروراً بدول عدة لتضليل أجهزة الأمن المصرية، ولكن المفاجأة حدثت ووجد "أبو خديجة" رجال الأمن المصريين في انتظاره واقتادوه إلى حيث خضع لتعذيب شديد اضطر على اثره الى الإدلاء بمعلومات عن نشاط "جماعة الجهاد" ودلّ رجال الأمن المصريين عن مكان القيادي البارز عصام عبد المجيد الذي كان تسلل إلى داخل الأراضي المصرية من دون أن تدري السلطات بأنه قيادي في التنظيم وأنه عاد لتنفيذ خطط بعينها، ومن دون قصده وتحت وطأة التعذيب تسبب "أبو خديجة" في الإيقاع بعبد المجيد الذي لا يزال رهن الاعتقال منذ ذلك الوقت حتى الآن. لم تنته القضية بعد، فما وقع بعدها كان الأفدح، اذ كانت طبيعة المرحلة التي تمر بها "جماعة الجهاد" وهي بصدد استغلال الأراضي الأفغانية لإكمال هياكلها التنظيمية وتعطش الظواهري وأعضاء اللجنة الأمنية لممارسة أساليب التحقيق وسعيهم الى ردع من تسول له نفسه اختراقهم جعلتهم يتصرفون بطريقة قاسية في واحدة من حالات الاشتباه. إذ لم تكشف أي وثيقة ولم تؤكد معلومات موثقة أن "أبو خديجة" كان السبب في القبض على عبد المجيد. وظل احتمال وقوع الأخير في قبضة السلطات المصرية بالصدفة أو نتيجة لتحريات أمنية أمراً وارداً.
وبعد فترة من الاعتقال اطلقت السلطات المصرية محمد عبد العليم وبعد جهد وإجراءات قضائية طويلة استرد جواز سفره وكان كعادته متسرعاً يرغب في السفر حيث كانت اسرته سبقته إلى السعودية. وكان عبدالعليم انتقل للإقامة بعد خروجه من المعتقل في حي بولاق الدكرور حيث كنت أقطن وقتئذ، والتقيت به كثيراً وقص عليّ القصص بما دار وكيف يجافيه "الإخوة" منذ خروجه من المعتقل وابدى خشيته من أن يكون ذلك بإيعاز من الظواهري، والحق أنه كان رحمه الله عنيداً وثرثاراً، وأخلصت له النصح بعدم السفر وأن يقوم باستدعاء زوجته واطفاله للعيش في مصر فترة حتى تهدأ النفوس وحتى يتأكد من أن الظواهري لا يحمل له أي ضغينة. ولكنه رحمه الله اصر على ما نوى عليه، فعاد إلى عائلته في السعودية وهناك قدّر الله له أن يلتقي الظواهري في الحرم الشريف واستسمحه وذكر له أنه كان تحت وطأة التعذيب ولم يقصد الاعتراف على الأخ عصام عبدالمجيد، لكن الظواهري عامله بجفاء شديد. وأصرّ عبدالعليم على السفر إلى أفغانستان وذهب إلى هناك ليعمل في دار الأيتام ذاتها، وبعد اسابيع سافر إلى إسلام أباد ونزل في مضافة الأنصار هناك وهو في طريقه للمغادرة عائداً إلى جدة لاصطحاب اسرته، لكنه اختفى في باكستان وروجت جماعة الجهاد معلومات تفيد بأنه توفي متأثراً بجروحه نتيجة حادث سيارة كان يستقلها في تنقله بين إسلام أباد وبيشاور. لكن كثيرين شككوا في هذه الرواية وأكدوا أن هذا الحادث لم يقع أصلاً، وأكد البعض أن مسؤولي "اللجنة الأمنية" في "جماعة الجهاد" استدرجوه وأخذوه من المضافة ربما لمقابلة شخص ما حيث اختفى بعد ذلك. ولم يخف بعض الإخوة أسفهم لأن الجماعة اقدمت على تصفية عبد العليم وقتله، وبقي الجدل مستمراً في شأن تلك الواقعة حتى الآن. وأذكر أن أخاً قيادياً بارزاً اتصل بي هاتفياً من خارج مصر وسألني سؤالاً مباشراً هل سافر عبدالعليم برعايتك من مصر وبوساطتك؟ فأجبته بالنفي. وشعرت بأن السائل كان يريد التيقن من أنني لم يكن لي دور في تصفية عبدالعليم الذي ترك اختفاؤه علامات استفهام لا تزال ماثلة حتى الآن.
"لعبة الاستقالة"
أما الواقعة الثالثة فتتعلق باستقالة الدكتور أيمن الظواهري من إمارة الجماعة بعدما أبدى عدد من قادة التنظيم اعتراضات على التحالف الذي أبرمه في شباط فبراير 1998 مع اسامة بن لادن، تحت لافتة "الجبهة الإسلامية لجهاد اليهود والصليبيين"، ولم تعرف الجماعات الإسلامية بمختلف مسمياتها وطوال تاريخها ذلك النوع من الضغوط التي يمارسها "الأمير" على إخوانه ليقبلوا بما قرره هو بغض النظر عن مواقفهم وآرائهم. وحكى لي بعض الإخوة أن الظواهري إنساق وراء بن لادن في أمر تلك الجبهة بغض النظر عن الاعتراضات التي ابداها معاونوه والتي تركزت في أن فتح النار على اميركا والدخول في مواجهة معها سيضرّان بالتنظيم وسيضربان القواعد التي كانت الجماعة أسستها في أكثر من دولة كما سيتسببان أساساً في الحد من نشاط الجماعة داخل مصر. وأكد المعترضون أن رغبة اسامة بن لادن في تصفية حساباته مع الاميركيين يجب ألا تنسحب على باقي الجماعات الإسلامية، وأن واجب النصرة لا يمكن أن يصل إلى حد إطاحة مستقبل التنظيم وتهديد أفراده. وقالوا لي إن الظواهري كان مصمماً على المضي في ذلك الطريق وأنه طرح لهم مبررات لم تقنعهم، بينها أن الاميركيين يخشون عادة الدخول في مواجهة مع أي جهة يمكن أن تسبب لهم الأذى حتى لو كان بسيطاً وأن الأمة الإسلامية ستدعم "الجبهة" التي أسست أيضاَ لفضح النظم العربية، وطمأنهم الى أن الهدف الأساسي الذي قامت من أجله الجماعة، وهو "إقامة الدولة الإسلامية"، سيكون سهل التحقيق من خلال الجبهة لأن الشعوب ستقتنع بأن الأنظمة الحاكمة تخضع لأميركا في حين أن الإسلاميين لا يخشون أميركا ويردون لها الصاع صاعين.
المهم في الأمر أن عدداً من قادة الجماعة جمدوا نشاطهم ولم تكن مسألة الاستقالة من جانب الظواهري سوى "لعبة" أجاد حبكها وعرف منذ البداية نتيجتها، كما أن الفشل المتتالي للعمليات داخل مصر والقبض على غالبية عناصر الجماعة تسببا في توقف التمويل الذي كان يأتي من الأعضاء وصارت الجماعة تعتمد فقط - تقريباً - على ما يقدمه لها بن لادن من أموال، وبالتالي فإن توقف ذلك المدد سيعني فقدان الجماعة المصدر الوحيد الباقي للاستمرار والبقاء. ووجد أعضاء التنظيم أنفسهم أمام خيار واحد وهو إعلانهم رفض استقالة الظواهري بل التمسك به فكان ما كان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.