أنسي الحاج سلاماً... افترض انك ذاهب الآن الى السوق أو الى مقر الصحيفة، وأفترض أن الوقت صباح والشمس تتسكع في السماء، وان حقيبتك ما زالت خاوية، وانه يجوز لي أن أحكي، وأن أستهل. كنت أتطلّع للدخول على ليليان بابتسامة ما، كان اسمها ليليان، عرفت مصادفة انها صانعة الطقس في الفترة التي تتلو خروجي من مصعد البناية العالية وحتى عودتي اليه. غالباً أجلس فور انفتاح باب المركز على أول كرسي يصادفني في البهو، وهناك داخل ركن مخصوص تتحكم ليليان بفستانها الأسود وأطرافها الهادئة في الآونة والمواعيد والانتظار والضبط، تتحكّم في كل شيء. أنتظر أن تراني وتسجل اسمي، وهذا الفعل يرغمني أن أتحذلق وأبدو مثل سارق البريد الذي يصفها بأنها أجمل من نساء مودلياني، لأنها لم تكن نحيفة مثلهن. وأجمل أيضاً من نساء روبنز فهي ليست بدينة مثلهن، وطباعها متميزة عن طبائع الكائنات. طوال الوقت الذي أمكثه كانت تعمل على طابعة جهاز الكومبيوتر، أو تفتش عن معلومات قريبة المنال أو تتحرك الى الحجرات المختلفة، وتدخِّر نظرات طويلة لوقت غير معلوم. في كل مرة، ما عدا المرة الأولى، ذهبتُ ومعي كتاب، أفتحه وأنظر الى كلماته وأشردُ، لأنه لا يُفلح أبداً في أن يشغلني عن كثافة، وجود ليليان. أحسب انني في المرة قبل السابقة، ذهبت ومعي كتابك "ماضي الأيام الآتية"، فتحته فوجدته يدعوني الى الحلم. وبعد أن قرأتُ الإهداء إليّ وقبل أن أدخل "العاصفة"، رأيت انني أفتح غرفة ليليان، وخزانتها، أفتح فمها وعينيها وبشرتها، وافتح دولاب الزينة. الغريب انني قابلت فوجاً من النساء، أعرفهن جميعاً، كن يجلسن على قاعدة الصفحة البيضاء المقابلة لصفحة "العاصفة"، كانت الواحدة منهن تخلعُ فستانها وحذاءها وتركض في اتجاه طريق محاذية لحوافِّ الصفحة وعلى جانبيها صحراء وبحرٌ، ثم تختفي قرب نقطة النور البعيدة. لن أنسى، كانت الطريق مندَّاة ولا نهائية، رأيت عائشة بنت طلحة وكيم نوفاك واليزابيث تايلور، وفيروز وسعاد حسني ونجاة الصغيرة وفرجينيا وولف وسيمون دوبوفوار وأناييس نن وخالدة سعيد وليلى بعلبكي وحنان الشيخ وهدى بركات ومها بيرقدار ونجاح طاهر وماري، ثم رأيت ليليان. انطلقت خلفها، أمسكتها من ذراعها وجذبتها، لكنها استغنت عن الذراع وتركتها بين يدي، وأكملت ركضها، أمسكتها من الذراع الثانية، تركتها أيضاً، حضنت جذعها، تركته، خفتُ أن أواصل، اكتفيت بالسعي خلفها، وصلنا معاً الى ميدان أبيض، تنبعُ منه طريقان، عندما درنا حول الميدان رأيتها تنقسم، ساقها اليمنى ذهبت باتجاه الطريق اليمنى، وساقها اليسرى ذهبت في الاتجاه الأيسر. وقفتُ وترجرجتُ وخفتُ من آخر صفحات الكتاب وأغلقته ورجعتُ. في الزيارة التالية، كانت ليليان كاملة كما هي، بفستانها الأسود، ونظراتها المؤجلة تجلس أمام الكومبيوتر، وكنت أحمل معي كتاب أحلامي، "ماضي الأيام الآتية". فكرت أن أطلب معونة داناي، لأنني أعرف أن "داناي" امرأة كان لها دور في كل من عاش، في كل من عاش في قلب الذي جاء واحداً بعد آخر. أرشدتني داناي الى الكتاب ثانية، سوف أفكر كيف أقرأه، كيف أنسلُّ الى أعماقه أم انه سيلتفُّ حولي، ويدفعني بعيداً، يدفعني نحو حدودي، فأنذهلُ، وآمل أن أعبرها، وأهتف في نفسي كأنني أرفع غِطاءها: "ها أنا لا أشمُّ الحياة". أتصور أن الشاعر شللي كان يقولها بكذب مشبوب: "ها أنا أشمُّ الحياة" أعود الى ماضي الأيام، وأعود الى نفسي، وأنوي أن أشرع في وصف حالي، أن أحتاط من أخيلتي وتصوراتي، تنصحني داناي ألاّ أهتم بترابط أفكاري، ألاّ أهتم بالسياق والمنطق وبقية المعارف النافعة. ثمة شخص من أشخاص نجيب محفوظ يقبع في غرفة مظلمة، في تكية دراويش، تشرف واجهتها على جرف، وفناؤها الخلفي على جرفٍ ثانٍ، ومع ذلك يتعقبني، هداياه ثقيلة وبلا رائحة، ولذا أشعر أن جسدي راكد بفعل انعدام الرائحة، أو ربما بفعل رائحة مخزونة ومسدودة صنابيرها. كنت أخشى كشف السر، وما من أجله خشيت الكشف ها هو يتحقق الآن. فردٌ معزولٌ في قطيع مكوَّنٍ من أفراد معزولين، يظهرون لعين الرائي العجول وكأنهم كتلة متضامّة متراصّة متضامنة. النفور غريزي لا يعبِّر عن كراهية للآخر، ولا عن حبٍّ للذات، ولكنه يعبِّر عن عدم قدرة، لا يعبِّر عن تضادٍّ أو تفاوتٍ، ولكنه يعبِّر عن تورط، تورط في الوجود، وكذا يعبِّر عن غياب أي هدف، حتى ولو كان هدفاً شخصياً. فالهدف الشخصي يقرِّبُ الآخر ولا يلغيه تماماً. نجلس، نتبارز، نتشاتم، نتراصُّ، نتباسط، نتحابُّ، نتوادد، نتندر، ننكمش، نتسع، نعلو، نهبط، نستوي، نبوح، نُخفي، نشكو، نتعذب، نسفُّ، نتأنسنُ، نتحيون، نتسامى، نتأرضن، نفعل كل هذا وفي يد كلٍّ منا كرته الرخوة التي احتفظت بشكلها الهلاميّ، وتأبى أن تغيّره، فتصبح أفعالنا كلها أفعالاً صادقة، أفعالنا كلها كاذبة، صادقة حين تروى، كاذبة حين تستكشف، صادقة بزمنها الضائع، كاذبة بزمنها المقبل، والنسيج هذا يحتمل الغزلَ بإبرتين، يكفي أن يكون سطحه ناعماً أليفاً، أما قفاه فقد يمتلئ بالعُقَدِ، الشِّعرُ وسط هذا الرعب، وعلى قبّة المدرّج، إبريقٌ صافٍ، مثقوبٌ، يحملُه كاهنٌ طاعنٌ في السّنّ، ويستقطره الظمآنُ، وإذا لم يجد بغيته، اشتغل في صناعة السراب، وهي صناعة رائجة، قامت عليها مؤسسات المتكلِّمين وشركات الساسة، وكانت ذات نفع عندما كان هناك مموِّلون، لكن، وقد أفلسوا، فقد اشتغلت كل المؤسسات والشركات من دون رساميل، إلا قلوب السادة الأماجد الأفاضل الاشراف من ذوي النيات الطيبة، وهي رساميل على وشك النفاد. لنجلس جميعاً في النهاية على أعلى تلولها، الذي يدهشني هو ذلك الزهو، تخيّل أيها المبجّل، تخيّل قدماً تنفصل عن جسدها، ثم تمشي هكذا، وحيدة، ومزهوة، ان الجسد يختلف بالتأكيد. عن القطيع، في القطيع الكلُّ يفعل الشيء نفسه، الكل يأكل العشب، الكل يشرب الماء، الكل يحارب، الكل ينتصر أو يستسلم، إنها عائلة الأرابيسك والروبوت. القطيع زخرفة عربية انزلقت من الجدران، وامتدت الى عيون الناظرين. الجسد وحدة تحفظ لكلِّ عضو مجاله الخاص، فلا تجعل عضواً يكرِّرُ مهمات عضو آخر، ولا يكرر حياته. العضو حرٌّ في حدود عدم قدرته الانفصال عن الجسد، حرية وضرورة وعدم زهو. الذي يدهشني حقاً هو ذلك الزهو، السؤال نفسه يتكرّر، وكأنه إيقاعٌ رتيب، كيف نواجه عالمنا، كيف نتحاشى أقدامه. الصدمات تؤكد لنا فداحة تخلّفنا عنه، وعلى رغم ذلك ينشع الزهو من جرّة حضارة قديمة، من جرار حضارات قديمة، وكأن الزمن كرة، قد تلتقي على سطحها بما فاتك يوماً ما، تلزمك فقط شروط القبول، شروط توفير طقوس الاستعادة، بإقامة التعاويذ، وتدبير الأرواح، واستحضار البلاغة والشهادة والعبادة والموت والاستبداد، وإبطال اللغة وإبطال الخيال في ما عدا الخيالات الميتة، خيالات المآتة. عليك أن تفعل كل هذا بزهو، وإلا أصبحت جسماً طرياً سريع الإراقة، ناقص الإيمان، مجروح الهوية. والهوية تسابق من يجري وراءها، وتسبقه، ثم تخفُّ لانتشاله عندما ينكفئ على وجهه، وتزيل عنه التراب، وتمسح جبينه، وتسوِّي ملابسه، وتهندمه، ثم تعود لتسابقه وتسبقه، وهكذا. والذي لا يجري وراءها تظن انه سيلعق أصابعه، يلعقها حتى تتآكل، فلا يقدر على الكتابة، أو بالتالي لا يقدر على التفكير، لأن التفكير عندها فعل يدوي، وصناعة دارجة مثل صناعة الحصير، وخضِّ اللبن الرائب، وإنشاد الشعر وتحقيق الحديث والنوم تحت الألحفة، لذا سأفكر كيف أقرأ ثانية "ماضي الأيام الآتية"، كيف أنسلُّ الى أعماقه، أم أنه سيلتف حولي، ويدفعني بعيداً، يدفعني خلف حدودي. فأرى في ما يرى اليقظان ليليان وداناي تجلسان معي. وأرى في ما يرى النائم الشاعرين الاثنين: الشاعر الوحشي والشاعر المستأنس. هل تسمح اللغة بأن أقول الشاعر الأليف أم انها تفضِّل أن تصفه هكذا، ومرتين متتاليتين: الشاعر الداجن الشاعر الداجن، لأنه سيكفيك معه الإلمام بالعناصر، والإحاطة بها، يكفيك معه معرفة أسس الدرس ومقومات الاستجابة، فأنت ستنشغل بظاهر اللغة، صحتها وخطيئتها، وتنشغل بالصورة، مناسبتها وعدم مناسبتها، وستسحب خطواتك فوق الايقاع رخواً أو مستعجلاً، وتنتهي بأن تخبر محبوبتك: هذا المساء يا عزيزتي جميل، فتجيب وتنصرف: نعم. وستدخل من هذا كله في ديوان الموضوع لتكشف عن التناسب بين الأجزاء بعضها بعضاً من جهة، وبينها كلّها والعالم المعيش من جهة أخرى. وستطمئن لأنك امتلكت بفتح الميم وليس بضمِّها، لأنك امتلكت العناصر، كل العناصر، والشاعر المستأنس الذي يحفظ العناصر لا يشذ عن الشاعر الوحشي في حفظ العناصر. غير ان الأول ينظر الى قدميه خطوة بعد خطوة، خشية التعثر، هدفه خطواته، ومخافته ارتباكها وتأرجحها، أما الثاني، الشاعر الوحشي، فخطواته فطرية، أو هكذا تبدو، إذا نظر اليها توقف، لأن نظرته مشدودة الى ما بعدها، وما بعدها هو البرزخ، هو الهاوية، وفي رواية أخرى هو: "لن" و"الرأس المقطوع" و"ماذا صنعت بالذهب" و"ماذا فعلت بالوردة" و"الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" و"الوليمة" و"الخواتم". يرغب الشاعر الوحشي في أن يتأمل، يرغب في أن يشحذ آلته، وأن يعود الى نتاجه. يرغب في أن يطلعنا على أشكال صفحاته، وعلى تصفيف الكلمات فيها. الحقيقة، ليس للشاعر الوحشي عين واحدة إما مقلوبة الى الداخل أو مدلوقة على الخارج، فهكذا يكون الآخر، وبالطريقة هذه تروج تجارته، ويربح. الوحشي له عينان اثنتان مقلوبتان ومدلوقتان في آن واحد، في حركات يصعب رصدها، قد يرى ما نرى، قد يرى ما لا نرى. ويشد أوتاره بين الطرفين هذين، ما نرى وما لا نرى، فإذا احتبسناه عند الأول، تفلّت عند الآخر، وإذا تعبنا من ملاحقته فاجأنا بمجيئه وحضوره، هكذا هكذا، حتى نُمتلك بصيغة المبنى للمجهول. تمتلكنا الروح الغائرة الغامضة الواضحة مضافة اليها ثروة العناصر، والاستئناس كما تعلم طبع عام يوجب الكثرة، وإذا نقص عدد الشعراء المستأنسين، دلَّ ذلك على خلل كبير في الروح العامة للجماعة، وأصبحنا على حدود الذعر. والوحشية طبع فريد محصور بين أن توجد في ندرة، أو لا توجد، وغيابها المطلق يدل على خلل في روح الخلق لا بد أيضاً من أنه سيضعنا على حدود الذعر. والاستئناس بطبعه العام قابل للشيوع، ولا يملك أن ينتظر، فإن انتظر داسته الأقدام وعبرت فوقه وتجاوزته. انه يفرح بنجاحاته وبالكسب الاجتماعي الناجم عنها أو لا يقبل أقل من الانتصار الدائم. والوحشية بفرادتها مملوءة وسخية وقادرة على المكوث، غير انها تدرك ان الشاعر لا ينتصر. والاستئناس بطبعه العام وقابليته للشيوع يشدُّ اليه الأنظار، ويشدّ أكثر النقد، لأن أكثر النقد ينشغل كذلك بالوسط، بجمهرة التلقي، قدر انشغاله بالنص. ولأنه ينشغل أيضاً بالإبانة والإفصاح فوق انشغاله بالحضور والتجلي. والوحشية بفرادتها تهشُّ كل من يؤذيها، تهشه بمذبّةٍ حمقاء، فلا يقدر على الإقامة لديها إلا بعض الطيور التي هناك سوف تعشش وهناك سوف تبيض. هذه الثنائية، الشاعر الوحشي والشاعر المستأنس ليست عقيدة لأنها فاسدة في أحوال أخرى ومكابدات اخرى، انها طريقة فرضتها الروح التي هجمت كثيراً على ماضي الأيام الآتية. وأعلم، لأنها طريقة أولية وناقصة، ان الكتاب سيلتف حولي، ويدفعني بعيداً، في الجانب الآخر من حدودي، فأهتف في نفسي كأنني أرفع غطاءها: "ها أنا أشم الحياة" وأتصور ان الشاعر شللي كان يقولها بصدق مشبوب: "ها أنا أشم الحياة". فجأة، صارت داناي أمامي، ومعها زوس، وكل الذين ناموا معها أو يحلمون، أبو نواس وأبو تمام وابن الرومي والشريف الرضي والحلاج وشارلي شابلن وهنري ميشو وبرتولد بريخت وجبران ودافنشي وبروتون وجورج شحادة وفرعون وفان غوغ وشكسبير ورامبو، كل الذين ناموا معها من دون ذكر اليوم والشهر والسنة، كانوا جميعاً يخبرونني أن ليليان انصرفت وتركت النافذة مفتوحة وهكذا دخلت الريح وأطارت وبعثرت أوراق عصر النهضة وعصر الحداثة والعصور التالية، وها أنذا أطلب معونتك، لأنني أخاف من ليليان، أطلب معونتك أيها المبجل أنسي الحاج أيها المبجل جداً أنسي الحاج. * شاعر مصري.