الأماكن العامة في بيروت قليلة جداً، وربما يرجع ذلك الى ان المدينة بحد ذاتها ضيقة وصغيرة. وربما كان علينا ان "نضحك في سرّنا" لوجود أماكن مثل حديقة الصنائع او كورنيش المنارة. أماكن صغيرة أيضاً وضيقة بزوارها احياناً كثيرة، ولذلك، ليس من المستغرب ان يضجر منها الشباب الذين يمضون اوقاتاً كثيرة وهم يتنزهون فيها حتى تصبح خطواتهم اثقل من ركود المكان ورتابته. قد يضجرون منها ولكنهم يعودون اليها لأنهم في الغالب "مفلسون" والسهر في اماكن اخرى قد يكلفهم الكثير. يعودون فيغلقون على هذه الأماكن ضجرهم وخيبتهم، وكثيراً ما تراهم في جلساتهم "المتثاقلة" يشبهون الأكبر سناً منهم في صمتهم او اصواتهم الخفيضة وبطء حركاتهم والتفاتاتهم. يتحول المكان حولهم الى فسحة غريبة عنهم، فلا يعود يشبههم ولا يشبه غيرهم، بل يرجع الى حيزه "العام" الذي لا يستثيغه أحد من زائريه الموقتين او الدائمين. مكان عام بكل ما في الكلمة من معنى. عام الى درجة الغربة وإلى حد الضجر، فتنتفي عنه الألفة والطمأنينة لغياب الخصوصية التي هي من صنع الأشخاص أنفسهم، إذ فشلوا في توليفها من حولهم، فغابت عن زوايا الكورنيش البحري، وعن أفياء الأشجار في حديقة الصنائع العامة. ولم يدفعهم غياب الأماكن العامة الواسعة الى التأقلم مع ما توافر لهم، واختاروا اماكنهم "العامة الخاصة". اختاروا زوايا صغيرة في مدينة اصغر من خطواتهم. اختاروها تشبههم فصارت بالنسبة اليهم اوسع من المدينة نفسها وأكثر "ألفة" من بيوتهم. اختاروها لأنها تشبه الأماكن الخاصة التي يزورونها من وقت الى آخر، وحين تسمح جيوبهم بذلك. فبعضهم يفضل السهر في شارع الحمراء ولكنهم لا يريدون "هدر" اموالهم المحدودة في مقاهي الحمراء كل ليلة، فاختاروا زاوية تواجه كلاً من المودكا والويمبي، تكشف "الأجواء" كلها، وفي امكانهم ان يحيّوا جماهير المقهيين في الوقت نفسه. يجلسون على الدرجات القليلة المخصصة لمحل تجاري يبيع "البياضات"، يجلبون معهم مشروباتهم التي تبيعها المقاهي المواجهة بأسعار أعلى بكثير من كلفتها، ويجلسون على تلك الدرجات، فاكتسب المكان لغتهم وصارت تسمى هذه الزاوية "زاوية الدومتكس"، وهو اسم المحل التجاري الذي تؤدي إليه هذه الدرجات. كانوا يسدّون مداخله بأعدادهم الكبيرة خلال النهار، فطلب منهم صاحب المحل ألاّ يجلسوا هناك لأنه "باب رزق"، فصاروا يجيئون في الليل ولا يتركونه إلا في وقت متأخر. طاب لهم السهر على "الدومتكس" فهو "أريح" و"أرخص"، فصاروا يدعون اصحابهم وأصحاب اصحابهم، حتى قرروا ان يقيموا حفلة رأس السنة هناك ايضاً. وكانت التحضيرات كبيرة ومنظمة لدرجة ان تجمّعهم هناك ليلة رأس السنة لفت انظار "الأمن" الذي تخوف من "تجمع سياسي" او مظاهرة، كما هي الحال عادة، فحضر الدرك ومنعهم من تمضية سهرتهم "البريئة" على زاوية "الدومتكس"، فما كان منهم إلا ان تبعثروا فابتلعتهم المدينة من جديد. بعض الدرجات الصغيرة أوهمت رجال الأمن بمظاهرة او ربما بانقلاب سياسي. درجات صغيرة ما زالت حتى الليلة مكاناً "خاصاً عاماً" يأوي إليه بعض الشباب فيصنعون من شيوعه ألفة ومن غربته طمأنينة. صار يشبههم وينتمي اليهم، حتى انه من الصعب على احد خارج اطار صحبتهم ان يجلس على هذه الدرجات من دون ان يشعر انه يقتحم مكاناً خاصاً، وكأنه يدخل بيتاً لا يعرف اصحابه ومن دون اذنهم. اسماؤهم صارت منقوشة على الدرجات وعلى الجدران المحيطة بالمكان، بعضهم كتب شعراً على الحائط وبعضهم رسم رسمة صغيرة يكاد لا يراها إلا الجالس هناك. لم يكتبوا او يرسموا شيئاً للمارين في الشارع او للجالسين في المقاهي. كتبوا ورسموا لأنفسهم فقط، ولكي يجعلوا من المكان منزلاً لأهوائهم وطيفاً لجلساتهم عندما يغادروها. زاوية اخرى هي حافة صغيرة مواجهة لملهى "شي اندريه" الليلي. ليست جزءاً من الشارع، بل انها تقع في مدخل مبنى تجاري حيث يحتل الملهى الليلي جزءاً منه. كثيراً ما يكتظ الملهى بزواره ولا يعود هناك من مكان شاغر لبعض الزوار الذين يأتون متأخرين. وبدلاً من الانتظار او ربما الذهاب الى مكان آخر، يطلبون مشروبهم ويخرجون الى حيث الحافة الصغيرة يمضون السهرة جالسين على الأرض المتسخة. والجلوس على الأرض اكثر راحة ومتعة من الجلوس على كراسي شي اندريه العالية والضيقة، وأكثر حميمية من الجلوس صفاً واحداً في مواجهة الملهى، فيعقدون الحلقات، يغنون ويحلمون بأعلى اصواتهم، بعيداً من احتمالات الملاهي الليلية المركبة. فالخارج بالنسبة اليهم اكثر حميمية وخصوصية من الداخل وأكثر شبهاً بمنازل افترضوها في خيالاتهم. وللأحياء الشعبية في المدينة زواياها الخاصة، ولكنها ليست مثل زوايا شارع الحمراء. فسكانها ذكور ولا تملك الفتيات اكثر من متعة المرور قربهم يفترشون الأرصفة ويراقبون الحي بسكانه وزائريه. فرحة المكان هناك هي فرحة الانتماء الى مجموعة اكثر منها الى مكان خاص. فعلى المجموعة ان تجد لنفسها نقطة تجمّع. وفي الأحياء الشعبية، تنحصر اماكن التجمعات في زوايا الأرصفة والشوارع المكتظة بالبشر والسيارات. يقفون في هذه الزوايا لساعات طويلة، وأحياناً يجلسون على حافات الأرصفة وأطراف الشوارع. لا يفعلون شيئاً، وأحياناً لا يتكلمون. يقفون فقط وينظرون الى كل شيء. الى منازل الحي، البشر المارين وسكان المنازل التي تقع ضمن مرمى نظرهم. شباب لا يملكون من نهارهم سوى تلك اللحظات. ملوك في زواياهم، يقتنصون منها صوراً لمحيطهم لا يملكها احد غيرهم، ويشهدون من تلك الزوايا متعة المراقبة والسأم وكأن الحياة في تلك الأحياء لا تعنيهم إلا كمشهد يملكونه كما يملك المصوّر الصورة التي يلتقطها. ليس من المسموح ان يعتدي احد غريب على هذا المشهد، فهو ملكهم وحدهم. مُلك المجموعة وينتمي إليها كما ينتمون هم الى بعضهم بعضاً. وهذا الانتماء ضروري لأنه من دونه يتحولون الى افراد تشلّهم الغربة في مدينة لا تشبههم ولا تتفاعل معهم.