الحلاق في الحي الشعبي البيروتي حوّل دكانه مكتباً انتخابياً. فعائدات المكتب في شهر الانتخابات تتفاوت بين ألفي دولار أميركي وأربعة آلاف، اضافة الى البراد والغاز اللذين تزوده اياهما الماكينة الانتخابية، ومن المرجح ألا تستعيدهما بعد الانتخاب، في حين لن تزيد عائدات الحلاقة على ألف دولار بكثير، والحلاق الذي استفرد بزبون في زاوية من الحي وشرع يعتذر له عن اقفال المحل، طالباً منه تأجيل حلاقة شعره أسابيع قليلة ريثما يعود الى عمله المعتاد بعد الانتخابات، لم يتحفظ على اشهار الأسباب المعيشية التي تقف وراء تحويله المحل، إذ شرع يشرح تقنيات وآليات ذلك التعاقد الذي يجريه أصحاب المحال مع الماكينات الانتخابية لجعل متاجرهم ومقاهيهم مكاتب انتخابية. فمن غير الضروري أن تجري الماكينة انتقاءً لهؤلاء، وفي معظم الأحيان يبادر أصحاب المحال بالاتصال بالماكينات عارضين عليها رغباتهم في أن تكون محالهم أو منازلهم مكاتب انتخابية. وفي معظم الأحيان أيضاً يوافق مسؤولو الماكينات على هذه الطلبات فيرسلون المعدات براد وغاز والقرطاسية، أي صور المرشحين ولوائح الشطب في الحي. والأحاديث في الأحياء التي يمكن أن يلتقطها العابر بين المحال التجارية تشكل سياقاً كاملاً لدراما الانتخابات النيابية في لبنان. فبائع الخضر الذي يتندر على جاره مدير المكتب الانتخابي، يروي أن مرشحاً منافساً جاء بالأمس وعرض مبلغاً مضاعفاً، في مقابل تحويل المكتب اليه، فرفض الجار لأنه "أعطى كلمة". والروايات عن وظائف المكاتب مثقلة بدلالات انتخابية وغير انتخابية. فالطعام حين يطلبه مدير المكتب من الماكينة الانتخابية، للجالسين على الكراسي البيض داخله، وقد زينت جدرانه بالوجوه الواسعة لمرشحي اللائحة، تخضع كمياته لرقابة سرية من الماكينة إذ يمر من أمام المكتب مراقبون "سريون" يقومون باحصاء سريع لعدد الجالسين لمطابقته مع الكمية المطلوبة من السندويشات، وترسل الكمية تبعاً لإحصاء هذا المخبر. وفي الأحياء أيضاً تزول العواقب من أمام العروض المباشرة التي تقدم في مقابل الأصوات. إذ يبدو أن معرفة مديري المكاتب الانتخابية بأبناء أحيائهم تسهل مهمة كهذه. لكن السهولة في هذه الدورة تخطت حواجز كثيرة وأصبحت علامة هذه الانتخابات. فالناس يتحدثون علناً عن عروض المرشحين المالية، وهم متجاوبون معها، وفي موازاة كلامهم على الانقسامات وانحيازهم الحاد الى اللوائح والمرشحين، يقرنون حماستهم هذه، باستفادتهم من اللائحة. وتتفاوت أرقام شراء الأصوات بين مئة دولار ومئتين، ثم ان من المفضل أن يكون الدفع مسبقاً، خصوصاً أن كثراً سبق أن وعدوا في انتخابات سابقة، فأدلوا بأصواتهم وتهربت الماكينات من تسديد ما وعدت به. الحلاق يقول "انه موسم وعلينا أن نستفيد منه"، وهو يعيد هذه العبارة من غير تردد. الشبان المتجمعون حتى ساعات الصباح الأولى في المكاتب الانتخابية المحدثة في أحياء بيروت الشعبية، يشبه جلوسهم الى الطاولات، جلوسهم في المقاهي، وهم طالما يرددون ان هذه المكاتب أتاحت لهم امكان اللقاء وتناول القهوة والمرطبات مجاناً. وقد تضيف حماوة الانتخابات الى جلسات هؤلاء الشبيبة حماوة، تسخن بعض الضجر الذي يتخلل جلسات لعب الورق الشدة التقليدية. فالحديث عن الانتخابات يتصاعد كلما أنهوا شوطاً في اللعب ثم يعود ويخمد ما إن يبدأ الشوط الثاني، والماكينات المطمئنة الى ركون هؤلاء الشبان في مكاتبها، تتصرف حيالهم كأنهم رصيدها البصري الذي يؤكد للعابرين أمام المكاتب قوة المرشح أو اللائحة، تتوج برقم المكتب الذي كثيراً ما يكون فوق المئة. لا شك في أن الشبان في أحيائهم يقضون أوقاتاً ممتعة في المكاتب الانتخابية، فهي توفر لهم أمرين: أولاً الشعور بالجلوس في مكان عام بين رفقة الحي، وثانياً قرباً من منازلهم التي يصل دفئها اليهم في المكتب، فيصير الرواح الى المنزل والعودة منه الى المكتب، أمراً متاحاً في أي وقت، ثم ان الأحياء الشعبية لا تتيح لقاءات إلا في زوايا الشوارع ومواقف السيارات، فيكون المكتب الانتخابي فرصة لنوعٍ آخر من اللهو وتقطيع الوقت. ثمة أمكنة من نوعٍ آخر للتجمعات الانتخابية تتقاطع فيها ثقافة الانتخابات ومشاهدها. انها تلك الخيم الواسعة التي يقيمها المتمكنون من المرشحين. وهي أشبه بمقاهٍ واسعة مجانية، تقدم فيها المرطبات والمأكولات مجاناً. المرشح فؤاد المخزومي أقام خيمة كبيرة في منطقة بئر حسن. قبل دخولها تصل اليك روائح "الشاورما" المنبعثة من زوايا تفصل الخيمة عن ساحة صغيرة خصصت لسيارات الزائرين من غير "أفراد الشعب". ولن تعدم أن ترى حتى في ساعات الليل المتقدمة أطفالاً متجمعين حول "سيخ الشاورما" تقف وراءهم أمهاتهم اللواتي قدمن معهم. داخل الخيمة الواسعة التي وُضع في زاويتها تلفزيون يبث مقابلة سابقة مع المرشح المخزومي، يجلس الناس القليلون أيضاً عائلات على المقاعد البيض. انهم ثلاث عائلات أو أربع يتوزع أفرادها على أركان مختلفة، ويجلس الرجال قبالة النساء، وحولهم الأطفال، فينهمكون في "طقس الشاورما" الذي يفترض ابعاد السندويش عن الجسم خوفاً من تساقط السوائل الدهنية على الثياب، ومد الرأس على شكل جسر بين الجسم والسندويش. أما الأطفال فيدورون حول الطاولة التي تزيد من بياضها اضاءة لمبة "النيون" الزرقاء، ملتصقين بسندويشاتهم وقناني المرطبات البرتقالية. العائلات الجالسة على الطاولات المتباعدة، يبدو الفقر واضحاً عليها، وأفرادها لا يخفون فضائل المرشحين المالية على فقراء بيروت في هذه الموسم. وفي زاوية أخرى من الخيمة تجلس أربع نساء منقبات ومتفاوتات في الأعمار، صامتات وغير محدقات في وجوه بعضهن بعضاً. فالنسوة الأربع ساهمات وحزينات، ويبدو أنهن ضجرات من الساعات الطويلة التي قضينها وجهاً لوجه، وحين تتقدم منهن لا يبدين حماسة ولا امتعاضاً، لكن قدومك قد يعيد الى وجوههن تماسكاً وانعقاداً حول نقطة نظر مشتركة على الأقل. انهن من عائلة العكاوي في شارع حمد، وجئن الى خيمة المخزومي بعد سماعهن عنها من ابنة المرأة الثالثة التي يبدو انها الوحيدة المتزوجة بينهن. فالابنة درست في معهد مجاني لتعليم اللغة الانكليزية أقامه المخزومي، والسيدات الأربع سينتخبن المخزومي على رغم تأييدهن الرئيس رفيق الحريري ولائحته، وهن شرعن يطلقن الدعوات بالتوفيق لكل فاعل خير. وفي موازاة هذه الأجواء العائلية التي يختلط فيها الطعام بالتأييد المباشر للمرشح، والأطفال الذين ينفصلون عن المشهد والى جوارها، ثمة أجواء أخرى في الخيمة، انها أجواء الرجال الذين يتداولون بأسماء المرشحين، وثمة ريبة يمكن أن تكشف ذلك الغموض الذي يثيره الحديث عن التشطيب والأجهزة. فرجال الخيم الانتخابية هم من يلتقطون الاشارات المتقاطعة التي يرسلها اليهم المشتغلون في اللوائح. وعبارة الأجهزة والأشباح تصبح واضحة إذا أطال المراقب النظر والتفكير في ما يقوله الرجال. فإلى أيديهم تصل البيانات المغفلة التي توزع في الليل ضد المرشحين، وذلك الصمت المرتسم على الوجوه السمراء المقفلة، يوحي أن أصحابها يعرفون أموراً أخرى، وان اللوائح الظاهرة غير تلك المعدّة التي تسلم في اللحظات الأخيرة للناخبين، فيختلط تأييد الحريري بتأييد المخزومي، مع عبارات تعني إذا أعدنا تأويلها أن ثمة لاعبين آخرين خلف جدران الخيمة، وكل هذا يحصل وسط لهو الأطفال وانشغال النسوة بملاحقتهم. وربما كانت الخيمة الأخرى في منطقة الظريف أكثر تظهيراً للحقائق المعقدة التي يخفيها تقليد الخيم الانتخابية. فالخيمة التي أقامها مناصرون للرئيس الحريري وخصصت للرجال فقط، يوزع فيها ما يوزع في الخيم الأخرى باستثناء الشاورما، وهذا ليس من باب التقتير. ففي الانتخابات الفائتة شهدت هذه الخيمة أسياخاً مضاعفة من الشاورما، ولكن صودف في هذا الموسم ان فتح بيروتي مطعماً للشاورما مقابلاً للخيمة... وقطع الأرزاق من قطع الأعناق. الخيمة التي أطلق عليها اسم "ديوانية بيروت" غير تابعة للماكينة الانتخابية الرسمية للرئيس الحريري، وهي إذ ترفع صوره ويعلن رجالها ولاءهم المطلق له تستقبل مرشحين من غير لائحته، من دون أن تعدهم بشيء. لكن الخيمة التي يقصدها شبان ورجال من أعمار ومنابت بيروتية متفاوتة، هي مكان يمكن أن يرصد المرء فيه الأحداث والوقائع الانتخابية الفعلية المختلفة عن تلك التي تدور على سطح المدينة الظاهر. الشبان الجالسون الى الطاولات معظمهم من فئات اجتماعية متوسطة وما فوق، يأتون بسياراتهم الجديدة التي يدفعون أقساطها، ويركنونها في الأزقة المحيطة. وخيمة الظريف هذه أكثر وجاهة من غيرها، إذ يتوزع فيها الوسطاء الانتخابيون، ويتحدثون عن أدوارهم. فهم مثلاً يثبتون صورة المرشح على لائحة الحريري، ناصر قنديل، في أذهان البيروتيين، لأنها تعاني وهناً تبذل جهود كثيفة لعلاجه. ويتيح عدم انتماء الخيمة الى الماكينة الرسمية للحريري امكان التفلت من التوجيهات، فيتبنى مرشحين من خارج اللائحة. وهذه الاتاحة قد تتسع لتصبح نافذة لمتسللين كثر، وفي ساعات الليل المتقادمة تتحول هذه النافذة باباً يدخل منه كل من تسعى الماكينة الفاعلة الى ادخاله. وعليك التقاط اشارات سريعة قد تساعدك على فهم وقائع ما يحدث، يوم الانتخاب. هذه الوقائع التي طالما تساءلت عن طريقة ترتيبها، وما معنى أن يُوحى بإعطاء فلانٍ أصواتاً أو بحجبها عن فلان، وآلية ايصال هذه الرسائل. ويبدو ان من يريد أن يكون مؤثراً، من وسطاء الانتخابات في بيروت، عليه أن يعلن انتماءه الى تيار الحريري، فعندها يمكنه أن يلتزم الخط العام للائحة، وأن يشتغل في شكل مغاير في مواقع موضعية فيها. وهذه المواقع الموضعية هي التي يستفيد منها ما أصبح يسمى ب"الأجهزة". فالشاب المتأنق الجالس الى طاولة وسط أصدقاء يقلون عنه قيافة وكلاماً، قال في الليلة التي تلت فوز جنبلاط في الشوف وعاليه وبعبدا، "ان فوزه جيد بالنسبة الينا نحن البيروتيين، ولكن في بيروت الأمر مختلف. فثمة من يريد تشطيب غازي العريضي، مرشح جنبلاط على لائحة الحريري". وهذا الشاب الذي ينقِّل نظراته مرتاباً ومدققاً في الجالسين معه الى الطاولة، ردد أكثر من مرة "ان الشباب البيروتي سينتخب ناصر قنديل، فأبو يوسف محمد يوسف بيضون كبر في العمر ويجب أن يتقاعد، اضافة الى أن قنديل يجيد الحديث عن عبدالناصر". ويبدو ان الناصرية، على ركاكتها وبهوتها، ستكون ذريعة لتجيير أصواتٍ وحجبها. فيقول وسيط آخر في الخيمة ان القوى الناصرية اجتمعت في بيروت وقررت التصويت للمرشح حسن صبرا بدلاً من المرشح محمد برجاوي حزب الله في الدائرة الثانية. ويضيف ان الثوابت في لائحته تمام سلام هي اضافة اليه المرشح الأرمني على لائحته، أما البرجاوي فليس ثابتاً. في دائرة بيروت الثالثة، يتحدث كثر من رواد الخيمة عن أحمد طبارة المرشح على لائحة رئيس الحكومة، سليم الحص، ثم يردفون بلهجة تبرر تبنيهم توقعات تخالف الحماسة المفترضة بمناصرين للائحة الحريري، ان "الجماعة الإسلامية" و"الأحباش" سيشطبون المرشحة غنوة جلول لائحة الحريري، وأثناء أحاديثهم يرددون أسماء ضباط بأسمائهم الرديفة "أبو فلان"، وهم حين يرددونها بشيء من المودة، تشعر بلغة أخرى مختلفة عن تلك التي تسمعها في مهرجان الانتخاب الثقيل، وتحس ان تلك الاحتقانات والحدة ليست سوى ديكور لوقائع أخرى تدور تحت سطح الكلام الرسمي. قد تشعر مثلاً من دون أن تمسك خيطاً واضحاً يؤدي الى شعورك هذا، ان المرشح المخزومي ينضح اسمه من بين الكلام الكثير، وان ثمة من يروج له في أوساط حريرية. كلام كثير تسمعه في الخيمة بعد الحادية عشرة ليلاً. كلام لا يوحي بصلة، بذلك الكلام الرسمي للماكينة. فصداقات القيمين على الخيمة كثيرة والذين يمونون كثيرون أيضاً. وكل ذلك يحصل في ظل الصورة العملاقة للحريري. ووسط ازدحام السيارات والصور واللافتات والأفواه التي ترشف قهوة وتنفث دخاناً لك أن تتيقن أن ما يبقى من الانتخابات في أذهان الناخبين والوسطاء، ليس نتائجها، وانما ذلك الدخان الكثيف، والكلام العابر الذي يتخلل اللقاءات، ودولارات قليلة تؤكد للفقراء والمسترزقين، ان هذه الصيغة هي باب العيش الوحيد.