كراهية اميركا واقعة لا جدال فيها. أسبابها عديدة ومعقدة يختلط فيها المعقول باللامعقول وليست دائماً مبررة إلا بسبب واحد هو: السياسة الخارجية الأميركية. لئن كانت السياسة الداخلية الأميركية ديموقراطية، والنقاش حر، والمعارضة مقدسة والرأي العام مسموع الكلمة، فإن سياسة أميركا الخارجية ديكتاتورية ترفض في الخارج ما تقبله في الداخل من مبادئ تعتبرها مفخرتها وسبب وجودها. اميركا المنفتحة، المسامحة، الشفافة والمتقيدة بالشرعية القانونية في الداخل لا علاقة لها بأميركا الأخرى خارج حدودها التي لا تتردد في انتهاك الشرعية الدولية أو السكوت عن انتهاك حلفائها مثل اسرائيل. اذا كانت اسرائيل تتصرف مع الفلسطينيين تصرف القاتل مع القتيل دونما اهتمام بادانة الشرعية الدولية لها فذلك لأن الفيتو الأميركي يحمي ظهرها. تاريخياً هذا التناقض بين السياسة الداخلية والخارجية عريق وعميق في الثقافة السياسية الغربية. مثلا التعذيب وتزوير الانتخابات تعلمتهما نخب الدول المستقلة من حكام المستعمرات عندما كانوا يأمرون بتعذيب المساجين السياسيين ويزوّرون الانتخابات خوفاً من برلمانات تمثل حقاً إرادة السكان في الاستقلال. مأساة 11 أيلول التي لا تسعفني المعاجم بالكلمات المناسبة لادانتها فرصة سانحة لمساءلة هذا التناقض الصارخ بين السياستين الداخلية والخارجية. عسى أن تتمكن النخبة الأميركية من طرح الأسئلة الصعبة على نفسها والتي تجاهلتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية: لماذا لا تكون السياسة الخارجية استلهاماً للسياسة الداخلية؟ لماذا لا تستجيب لتوقعات الرأي العام الخارجي مثلما تستجيب لتوقعات الرأي العام الداخلي؟ لماذا لا تتقيد بالشرعية الدولية كما تتقيد بالشرعية الدستورية الأميركية؟ في انتظار أن يفعل صناع القرار الأميركي ذلك بامكان ضحايا سياستهم الخارجية أن يذكّروهم بأن سياستهم الداخلية تستلهم الشرعية القانونية فيما لا تأتمر سياستهم الخارجية إلا بقوانين موازين القوى التي لا تختلف نوعياً عن قوانين الغاب. عندما يكون الفاعلون السياسيون الدوليون متساوين في القوة فإنهم يحيّدون بعضهم بعضاً، وهكذا يصلون الى توازن الرعب الذي كان أساس التوازن العالمي منذ بداية الحرب الباردة. بنهاية هذه الحرب لم يعد بامكان أية قوة ان توازن قوة الولاياتالمتحدة. وهي اليوم سعيدة بالحفاظ على الوضع القائم المقيّض لها. بل هي تعد له كل يوم أكثر لصالحها على حساب مصالح ومشاريع الشعوب الأخرى التي يُنظر اليها في واشنطن ككمّ مهمل لا يزن في موازين القوى حبة خردل. الهجوم الرباعي على رموز القوة الأميركية في نيويوركوواشنطن عبّأ مشاعر الثأر لدى الرأي العام الأميركي والغربي وراء صقور الادارة الأميركية الذين ازدادت شهيتهم ليلعبوا في الحلبة السياسية الدولية دور الفارس المنفرد بضبط "فوضى العالم" كما يقول بريجنسكي. وهكذا مَكرَ التاريخ كعادته بالارهابيين فجعلهم يحققون بعملياتهم الانتحارية عكس ما توقعوه منها. وبامكان رايس، رئيسة مجلس الأمن القومي، ان تقول لو لم يكن الارهاب موجوداً لكان لا بد من ايجاده عسى أن تحكم واشنطن العالم بلا منافس جدي. بعد 11 أيلول لم يعد أمام دول العالم، خاصة الصغيرة أو الفقيرة، من خيار آخر سوى خيار الوقوف مع أميركا أو مع الارهاب كما قال بوش، أي ان معارضة السياسة الأميركية باتت مرادفة للانتصار للارهاب! هذه المانوية اللاديموقراطية التي ظن البعض انها انتهت بسقوط جدار برلين هي الخيط الناظم للسياسة الأميركية منذ الخمسينات عندما كان وزير الخارجية فوستر دالاس يعتبر الحياد بين الشرق الغرب "حياداً أمام الجريمة". هذه السياسة الخارجية الديكتاتورية قد تنجح في استتباع معظم دول العالم إذا نجحت - وفقط إذا نجحت - في استئصال شأفة الارهاب لتصبح دركي العالم كما كانت انكلترا منذ القرن 18 حتى الحرب العالمية الأولى. وقد تضع أميركا حداً للارهاب لكن ذلك لن يضع حداً للمناخ السياسي، الاجتماعي والسيكولوجي الذي فرّخه وجعل جمهوراً واسعاً يتعاطف معه. مناخ الارهاب هو الاحباط واليأس اللذان زرعتهما السياسة الخارجية الأميركية في نفوس ورؤوس غالبية سكان العالم من خلال سياسة الإملاء وانتهاك، أو التواطؤ مع، انتهاك اسرائيل للشرعية الدولية، ومعاقبة لعراقيين التعساء بجريمة حكام لم ينتخبوهم، والتشبث بأنانية اقتصادية اسطورية إزاء بؤس العالم تستوحي فلسفتها من داروينية اجتماعية ماهت بين انتخاب قوانين السوق وقانون الانتخاب الطبيعي. إذاً مأساة 11 أيلول الفظيعة لم تأت فقط من كراهية الاسلاميين لنمط الحياة الأميركي وللديموقراطية الأميركية. بل ايضاً وربما خصوصاً من سياستها الخارجية اللاديموقراطية التي تتحكم إرادة القوة في معاييرها وأهدافها. هذا هو الدرس الأساسي من مأساة نيويوركوواشنطن والذي قد يساعد أميركا على قيادة العالم ديموقراطياً. أي برضا غالبية بلدانه من خلال شراكة حقيقية اقليمية ودولية. قطعاً هذا قد يبدو وهماً لأنه لم يحدث قط في تاريخ الدول انها تصرفت في سياستها الخارجية بغير متطلبات موازين القوى، أي سعي كل دولة لمراكمة عناصر القوة على حساب باقي الدول. لكن هذا الاعتراض يتناسى أمراً جديداً تماماً هو ميلاد ثقافة سياسية سائدة في الرأي العام العالمي هي: ثقافة الحوار وإدانة جلوس شعب على شعب وإذلال واستقلال واحتلال أمة لأخرى والاستهتار بالشرعية الدولية والافراط في استخدام القوة والاحتكام حصراً لموازين القوى. ويخطىء صناع القرار الأميركي في حق شعبهم إذا لم يدمجوا هذا الواقع الجديد في عناصر صنع سياستهم الخارجية. وقائع التاريخ السياسي منذ نهاية الحرب الباردة تشهد على أن غياب الديموقراطية في العلاقات الدولية وانتهاك قوانين الأممالمتحدة ساعدا على استشراء الفوضى الدولية، بدلا من قيام توازن دولي يعطي الأولوية للحفاظ على التوازن البنيوي بين مصالح جميع البلدان، بعيداً عن اعتبارات موازين القوى حتى لا يلجأ الطرف الأضعف الى سلاح الضعفاء، الارهاب السياسي، للتشويش على توازن لا مصلحة له في استقراره. مصدر التشويش هو دول الجنوب المتضررة من سقوط نظام القطبين. لقد كانت تساوم على بيع تبعيتها لاحدى الكتلتين بثمن معقول. وكلما ضاقت ذرعاً بكتلة باعت خدماتها للكتلة المنافسة لها. أما اليوم فخيارها الوحيد هو تقديم خدماتها مجاناً للسيد الأميركي والا اعتبرها مارقة. معنى ذلك ان التوازن الدولي الذي هو قيد المخاض لن يستقر له قرار إذا قام على أنانية القوة العظمى الوحيدة بدلاً من قيامه على التضامن الوظيفي مع بلدان الجنوب. لم يخطىء افلاطون عندما اعتبر البؤس سبباً أساسياً لتقويض السلام بين الدول، إذ ان "جياع بلد، كما يقول، يغزون بلداً آخر كي لا يموتوا جوعاً". الهجرة السرية الحاشدة وما يرافقها من جنوح وارهاب هي اليوم الشكل المعاصر لغزو الجنوب الجائع للشمال المتخم. شرط استقرار التوازن الدولي المأمول يفترض مواجهة مآسي الجنوب بتضامن عالمي فعال، بتنمية مستديمة، بتحديد النسل، بتحرير المرأة، بتحديث التعليم وباصلاح ديني يصالح الاسلام مع العصر... والشرط الآخر احترام الحضارة الغربية لقيمها الديموقراطية في الداخل والخارج لأنها عندما تنتهك هي نفسها قيمها كلما اقتضت موازين القوى ذلك، فتكيل بمكيالين مثلا في السياسة الخارجية، فبأي حق تطالب أتباع الثقافات الأخرى المشبعة برواسب العصور الوسطى باحترام قيم فقدت شرعيتها في أرض ميلادها؟ كثيراً ما يقال ان البورجوازية الغربية تستلهم منذ تأسيس عصبة الأمم ثم وريثتها الأممالمتحدة كتاب كانط "مشروع سلام أبدي". لكنها لم تتشرب المبدأ الأساسي في هذا الكتاب: "مصالحة الاخلاق مع السياسة" عبر دستور عالمي ينظم علاقات الأمم ببعضها ويجعل مصلحة كل بلد محدودة بمصالح البلدان الأخرى ومتكاملة معها. فهل تستطيع أميركا القيام بثورة ثقافية، أي بقطيعة خلاقة مع سياستها الخارجية اللاديموقراطية واللااخلاقية لتتطابق سياستاها الخارجية والداخلية؟ السعي الجدي الى تسوية النزاعات العالمية القائمة، رفع الحظر عن الشعب العراقي، عقد مؤتمر دولي لحل الصراع الاسرائيلي - العربي على أساس العدل لا على أساس موازين القوى الملائمة كلياً للطرف الاسرائيلي الذي استثمر اخطاء القيادات الفلسطينية اللاواقعية، واعداد مشروع مارشال لتنمية الشرق الأوسط الذي لم يعرف السلام في كل تاريخه الا خلال فترات الازدهار الاقتصادي، ستكون جميعاً اشارة قوية على أن واشنطن استوعبت درس 11 أيلول الأسود