اليوم عرسك    رياح مثيرة للأتربة والغبار على الشرقية والرياض والمدينة    "المركزي الروسي" يرفع سعر الروبل مقابل العملات الرئيسية    إتاحة تخصيص عقارات الدولة لأكثر من جهة حكومية    السجن مدى الحياة ل«مغتصب التلميذات» في جنوب أفريقيا    خوفاً من الورثة.. مغربية تحتفظ بجثة والدتها !    6 توصيات لتعزيز الهوية الثقافية ودعم الاستثمار في تعليم اللغة العربية محلياً و دولياً    إسرائيل تقصف الضاحية.. مصير خليفة نصر الله غامض    ترامب: على إسرائيل ضرب المنشآت النووية الإيرانية    هل أوقف الاتحاد الدولي المُلاكمة الجزائرية إيمان خليف وجردها من ألقابها ؟    الفتح يختتم تحضيراته لمواجهة التعاون    في مباراة الفريق أمام الرياض .. القادسية يحتفي بوزير الإعلام "الدوسري"    عبدالعزيز بن سلمان يشارك في اجتماعات مجموعة العمل الخاصة بالتحولات في مجال الطاقة    الخليج يعبر الخلود بهدف في دوري روشن السعودي للمحترفين    ميندي يوجه رسالة لجماهير الأهلي    مدرب القادسية يُفسر الخسارة أمام الرياض    الشباب يتعرض للخسارة أمام ضمك    الجيش الأميركي يعلن قصف 15 هدفا للحوثيين في اليمن    محافظ الطائف يعزي أسرة الحميدي في فقيدهم    مسؤولون وأعيان يواسون أسرتي القاضي وآغا في فقيدتهم    جمعية الأدب تعتمد 80 سفيراً في 30 مدينة    الهيئة السعودية للسياحة تطلق تقويم فعاليات «شتاء السعودية»    تعليم مكة : 1485 مدرسة تحتفي بأكثر من 30 ألف معلم ومعلمة في يوم المعلم    لوحة «ص ق ر 2024» لمركبة «المرور» تلفت أنظار زوار «الداخلية» في معرض الصقور والصيد    القبض على (4) يمنيين في جازان لتهريبهم (120) كجم "قات"    الجيش الإسرائيلي يستعد لتوسيع عملياته البرية في جنوب لبنان    رصد طائر «سمنة الصخور الزرقاء» في الحدود الشمالية    الوطنية للإسكان NHC تكشف مزايا ومكونات حديقة خزام الكبرى شمال الرياض    انطلاق حملة الحي يحييك للاحياء السكنية بالمنطقة الشرقية    تعرف على غيابات الأهلي عن الكلاسيكو أمام الهلال    ب 3 مناطق.. مركز «911» يتلقى 98 ألف مكالمة خلال 24 ساعة    تجمع الرياض الصحي الأول يكرم 14 استشارياً    إمام المسجد النبوي: آية ((إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )) تحمل في طياتها معاني عميقة    وفاة 866 شخصًا بمرض جدري القردة في أفريقيا    "الصحة العالمية"تستعدّ للقيام بالجولة الثانية لتلقيح أطفال غزة ضدّ شلل الأطفال    أثر الشخصية واللغة والأمكنة في رواية «الصريم» لأحمد السماري    أحلام على قارعة الطريق!    «زلزال الضاحية».. ومصير حزب الله    الشاهي للنساء!    غريبٌ.. كأنّي أنا..!    كتب الأندية الأدبية تفتقر إلى الرواج لضعف التسويق    محافظ الطائف يلتقي مدير جمعية الثقافة والفنون    90 مبادرة لأمانة الطائف تعزز الوعي البيئي وتدعم الاستدامة الخضراء    أمانة الطائف توقع عقد إنشاء مشروع (قبة الفراشات) بمساحة ٣٣ ألف م٢    الأمير سعود بن نهار يعزي أسرة الحميدي    معالي وزير العدل    اختتام مشاركة الهلال الأحمر في المعرض التفاعلي الأول للتصلب    مدير تعليم الطائف يطلق مبادرة غراس لتعزيز السلوك الصحي    2238 مصابا بالناعور في 2023    تعيين عدد من الأئمة في الحرمين الشريفين    أول فريق نسائي من مفتشي البيئة في المملكة يتمم الدورية رقم 5 آلاف في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    بدء الاجتماع الطارئ لمجلس الجامعة على مستوى المندوبين لبحث التحرك العربي للتضامن مع لبنان    نيابة عن ولي العهد.. وزير الخارجية يشارك في القمة الثالثة لحوار التعاون الآسيوي    خادم الحرمين يهنئ رئيس غينيا بذكرى الاستقلال ويعزي رئيس نيبال في ضحايا الفيضانات    تثمين المواقع    مملكة العز والإباء في عامها الرابع والتسعين    وزير الداخلية يعزي ذوي شهيد الواجب أكرم الجهني    مفتي عام المملكة يستقبل مفوّض الإفتاء بمنطقة جازان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصراع العربي - الاسرائيلي في اطار حوار الحضارات . شارون يستغل حاجة الاميركيين الى مكافحة الإرهاب لتصفية حقوق الشعب الفلسطيني
نشر في الحياة يوم 28 - 12 - 2001

} استغلت اسرائيل ضربة 11 أيلول سبتمبر الماضي الى حدها الأقصى ولعبت على حاجة اميركا في حملتها لمكافحة "الارهاب" لتنشيط دورها الاقليمي فاندفعت قوات آرييل شارون الى عمق الأراضي الفلسطينية وعزلت المدن وقصفتها وأبدت استعدادها للمشاركة الى جانب القوات الاميركية في حربها ضد تنظيم "القاعدة" في أفغانستان. فاسرائيل لم تكتف بربط القضية الفلسطينية بشبكات الارهاب وتحويلها من مسألة سياسية الى مسألة أمنية، بل جرفت معها كل المبادرات الدولية والأميركية أيضاً التي تنص على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وبناء دولته، مستفيدة من مسايرة واشنطن لشارون في حربه الخاصة ضد السلطة الفلسطينية.
في المقابل تأرجح موقف الانتفاضة بين تفاؤل بوجود حل ما مضطرة له واشنطن لإرضاء الدول العربية وكسبها في الفترة المقبلة وبين تشاؤم عبرت عنه تصريحات اميركية رفضت الربط بين فلسطين ودولتها وأفغانستان وارهابها. وانتهى التأرجح الى تضييق حلقة الحصار على رئيس السلطة ياسر عرفات واعلان "حماس" و"الجهاد" عن وقف عملياتهما العسكرية حرصاً على وحدة الشعب الفلسطيني وقطعاً للطريق امام الهجمة الشارونية المدعومة اميركياً.
أعادت المأساة الفلسطينية فتح باب النقاش حول جدوى الحوار مع دولة تأسست سياستها على العدوان وكذلك ذكرت مجدداً بمخالفات اسرائيل للمواثيق الدولية ونجاحها الدائم في كسر الحصار العربي وتحويله الى سلاح عديم الفائدة.
كيف تم الأمر ولماذا النجاح هو نصيب المعتدي والفشل نصيب المعتدى عليه؟ هنا ملف يختصر مجموع المخالفات الاسرائيلية، وهو يضع مسألة "حوار الحضارات" أمام امتحان الوقائع ومدى صلاحية الحوار الصلح شرط ان تلتزم كل الأطراف بتوازن المصالح و"الشرعية الدولية".
هل يمكن استثناء الصراع العربي - الاسرائيلي من قاعدة حوار الحضارات؟ فلكل قاعدة استثناء وتشكل القضية الفلسطينية وتداعياتها، منذ قرن تقريباً، تلك الحال المختلفة عن قانون الحوار.
هذه النتيجة تحتاج الى برهان، وهو ما نجده ليس في التاريخ والجغرافيا وحقوق الإنسان فقط بل في مختلف الأوجه والمستويات الدولية والقانونية والخلقية.
اسرائيل في أساسها دولة مخالفة. فهي ادعت ملكية أرض لا سند قانونياً لها. وادعت أن تلك الأرض خالية من البشر لبشر لا يملكون أرضاً. وادعت أن ظلماً وقع عليها في فترة لم تكن موجودة في المنطقة. وادعت أن من حقها استدعاء ناسها الى أرض غيرها رافضة عودة أهل الأرض بذريعة أن مساحتها لا تتسع لعدد كبير من السكان.
لم تقتصر مخالفة اسرائيل لقواعد اللعبة على شؤون الحق والعدالة والانسانية بل، هي الآن، الدولة الوحيدة المخالفة لكل القرارات الدولية وشرعية الأمم المتحدة والمواثيق والمعاهدات الموقعة من دول العالم. فالمخالفة الاسرائيلية شاملة لكل الساحات السياسية والمساحات القانونية. فقبل تأسسها رفضت كل محاولات التسوية الظالمة في جوهرها للشعب الفلسطيني التي أقدمت عليها بعثات عصبة الأمم في الفترة الفاصلة بين الحربين العالمتين الأولى والثانية. وهي احبطت كل المبادرات الدولية أو الثنائية التي لجأت اليها دولة الانتداب آنذاك بريطانيا، وهي أفشلت كل مشاريع لجان التقصي الدولية أو الأميركية مستخدمة العنف والارهاب ضد الرموز التي تجرأت على كشف الحقيقة.
وحين تأسست الدولة الاسرائيلية استمرت في سياسة المخالفة. فهي رفضت تطبيق قرار التقسيم الدولي الرقم 181 الظالم في أساسه مستخدمة القوة لاحتلال اجزاء من أراض تابعة للجزء الفلسطيني من قرار التقسيم. وأرفقت رفضها بعدم الموافقة على القرار الدولي الرقم 194 بعودة المهجرين الفلسطينيين الى أرضهم واستمرت على رفضها على رغم تأكيد الأمم المتحدة لمدة تزيد على 50 سنة على ضرورة التزام اسرائيل بذاك القرار.
وبعد حرب السويس العدوان الثلاثي على مصر انسحبت اسرائيل من سيناء تاركة بعض الجيوب البرية والبحرية تحت سيطرتها في شرم الشيخ وجزر مضيق تيران.
وقبل حرب حزيران يونيو 1967 رفضت اسرائيل الاستجابة للدعوات الدولية بعدم تحويل روافد نهر الأردن ضاربة بعرض الحائط كل مشاريع التسوية التي اقترحها ضمن معادلة توازن المصالح الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا محذرة من خطورة اندلاع حرب مياه على مصادر الطاقة المائية، إلا ان تلك الدولة خالفت كل المبادرات الدولية ولجأت الى تحويل الروافد مستندة الى تحالفات دولية عسكرية تعطيها الأفضلية في تقرير استراتيجية خطيرة من طريق القوة.
وبعد حرب حزيران تحايلت اسرائيل على القرار الدولي الرقم 242 ولجأت الى استخدام شبكة علاقاتها الدولية والأميركية لتبرير الاحتلال واستمراره مستخدمة تكتيكات المقايضة بين الأرض والبشر للتهرب من قبول الحل العادل للقضية الفلسطينية.
وقبل حرب تشرين الأول أكتوبر 1973 اتبعت اسرائيل سياسة الضغط العسكري على جيرانها مستخدمة تفوقها الجوي المدعوم أميركياً لإرهاب الدول العربية المجاورة. فارتكبت سلسلة مجازر في جنوب لبنان ومطاره، وفي الأردن وغوره، وفي القاهرة ومدن مصر. أي ان ارهاب اسرائيل انتقل للمرة الأولى من فلسطين دير ياسين، كفر قاسم، والقبية وغيرها من مذابح اسفرت عن تدمير أكثر من 400 قرية الى الدول العربية في محاولة لفرض قانون التهجير السكاني تمهيداً للاستيلاء على الأرض.
وبعد حرب تشرين الأول تحايلت اسرائيل مجدداً على القرار 338 القاضي بتطبيق القرار 242 فماطلت وماطلت ولا تزال حتى يومنا.
وقبل اجتياح لبنان في حزيران 1982 واصلت اسرائيل مخالفة القرارات الدولية الصادرة في العام 1947 و1967 و1973 رافضة عودة المهجرين الفلسطينيين والانسحاب من الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة. ولجأت الى سياسة فرق تسد على المستويين العربي عزل مصر عن محيطها واللبناني اللعب على تناقضات الحرب الأهلية مستفيدة من مخاوف التوطين لتمرير سياسة تدمير الدولة وتصديع الثورة الفلسطينية من طريق حرفها عن أهدافها الاستراتيجية.
ونجحت اسرائيل في تلك الفترة القلقة الفاصلة بين حرب 1973 واجتياح 1982 من عزل مصر عن محيطها العربي في مقابل الانسحاب المشروط من سيناء، واستغلال الانقسام الأهلي اللبناني للدخول الى الجنوب واقامة "الشريط الحدودي" في آذار مارس 1978، وأخيراً ضرب المفاعل النووي العراقي بذريعة انه يشكل خطراً على وجودها بعد عشر سنوات. فاسرائيل المخالفة لكل الشرعية الدولية نجحت في توظيف اتصالاتها وعلاقاتها المميزة لتحسين شروط التفاوض واذلال الدول العربية من خلال تدخلها في شؤونها سياسياً وعسكرياً. فبعد ضرب المفاعل العراقي وعزل مصر اتسعت مهمات اسرائيل وبدأت تتدخل في تقرير مصير صفقات تسلح ووضع شروط عليها كما حصل مراراً مع السعودية ودول الخليج بذريعة انها تعرض أمنها للخطر.
وباجتياح لبنان في العام 1982 وتدمير بناه التحتية واحتلال عاصمته وسرقة آثاره امتدت دائرة الأمن الاسرائيلي التي بدت ان حدودها من دون حدود، مستخدمة بذلك صلاتها الدولية للضغط على دول مثل إيران وباكستان والسودان والجزائر لفرض رقابة على موازناتها العسكرية بذريعة ان تلك الموازنات تشكل خطراً مستقبلياً على أمنها في وقت انكشفت فيه ترسانتها النووية وصواريخها العابرة التي تطال معظم الدول العربية والإسلامية المحيطة مباشرة وغير مباشرة بها.
وباجتياح لبنان في 1982 اضافت اسرائيل الى مخالفاتها السابقة للقرارات الدولية جملة مخالفات جديدة بدءاً بالتدخل في شؤون البلاد الوطنية وتنفيذ مجازر صبرا وشاتيلا وصولاً الى رفضها الاستجابة للقرار الدولي الرقم 425 القاضي بانسحابها من لبنان وجنوبه.
وقبل اندلاع حرب الخليج الثانية في العام 1990 - 1991 استخدمت اسرائيل كل أساليب الخداع الديبلوماسية والسياسية للتحايل على القرارات الدولية رافضة تنفيذها على رغم خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان التي تذرعت بوجودها لاحتلاله.
وحين اندلعت حرب الخليج الثانية وظفت اسرائيل الانقسام العربي لتحقيق استراتيجيتها العسكرية القاضية بإضعاف قوة الردع العربية واستغلال حاجات واشنطن لتقديم نفسها القوة الضاربة الوحيدة في المنطقة التي تستطيع تلبية المشروع الأميركي في الدائرة الشرق الأوسطية الممتدة بحسب المفهوم الاسرائيلي الى ايران ودول آسيا الوسطى وباكستان، فضغطت باتجاه تحديث ترسانتها الصاروخية وتوسيع مدى صواريخها ليشمل عشرات المدن العربية والإسلامية من حدود تونس الى جنوب روسيا ودول شرق أوروبا وجنوبها الواقعة في القسم الشرقي من البحر المتوسط.
وحين حاولت واشنطن احتواء الطموحات الاسرائيلية بإدخالها في منظومة الشرق الأوسط على قاعدة تنفيذ القرارات الدولية خالفت كل التوجهات وتمسكت بحصتها التي تزيد بمقدار كبير على وزنها وحجمها ودورها.
وحين اضطرت الى المشاركة في مفاوضات مدريد لجأت اسرائيل الى سياسة التحايل على القرارات الدولية مستفيدة من الانقسام العربي واختلال الميزان العسكري مجدداً لمصلحة استمرار احتلالها. وفي وقت كانت واشنطن ترى في نتائج حرب الخليج الثانية وتفكك الاتحاد السوفياتي مناسبة لتمرير السلام وجدت اسرائيل ان فرصتها تجددت كحليف استراتيجي للولايات المتحدة لإخضاع المنطقة متوسلة قوتها للضغط على الدول العربية وكسر القرارات الدولية وتعطيلها.
وانتهت مفاوضات مدريد الى حائط مسدود ورفضت الاستجابة للمطالب الأميركية القاضية بوقف الاستيطان والانسحاب من الأراضي العربية والفلسطينية.
ولم تكتف اسرائيل بهذا القدر من المشاكسة بل انها نقلت ثقلها السياسي من الشرق الأوسط الى أميركا ضاغطة على البيت الأبيض من خلال علاقاتها القوية مع الكونغرس. فاسرائيل في هذا المعنى مارست سياسة الضغط المتبعة ضد الدول العربية ضد حليفها الاستراتيجي في العالم، الأمر الذي كشف مدى ضعف الادارة الأميركية وهزال سياستها في دائرة الشرق الأوسط.
ونجحت اسرائيل بتطبيق مبدأ اللعب بالتناقضات اللبنانية احياناً والتناقضات العربية أحياناً أخرى الى اللعب بالتناقضات الدولية وتحديداً التناقضات الأميركية الداخلية مستغلة المشاعر الموروثة من الحرب العالمية الثانية والسياسة النازية ضد اليهود والأقليات الأوروبية الأخرى.
أدركت أميركا آنذاك انتخابات 1992 الرئاسية ان اسرائيل تحولت من قوة معزولة في الشرق الأوسط الى قوة مهيمنة ليس على السياسات الأميركية في المشرق العربي بل ان طموحاتها تفوق المعقول. فهي تريد السيطرة على السياسات الخارجية لإدارة البيت الأبيض.
وبانتقال الرئاسة من الجمهوري الى الديموقراطي نجحت اسرائيل في شراء الوقت والدخول مجدداً في استراتيجية المخالفة للقرارات الدولية التي أصبحت قرارات أميركية بعد اختفاء الاتحاد السوفياتي من الخريطة السياسية.
في فترة كلينتون جددت اسرائيل لعب دور المشاغب على استراتيجية أميركا الدولية من خلال تحسين علاقاتها مع جنرالات تركيا لتوسيع مجالها الجوي والضغط على ايران والعراق وسورية، وتهريب التقنيات والتكنولوجيا المتطورة للصين في مقابل اتباع بكين سياسة متوازنة في شأن القضية الفلسطينية، إضافة الى تدخلها في شؤون البلقان بدعم الصرب، وتحسين علاقاتها الصاروخية والنووية مع الهند لتطويق باكستان، وصولاً الى سرقة اسرار الصناعات العسكرية في الولايات المتحدة ومراقبة خطوط هاتف البيت الأبيض. وليس أخيراً تطويق الرئيس الروسي يلتسين بمجموعة من المستشارين والممولين لانهاك الدولة والضغط على موسكو لعدم تزويد الدول العربية بالسلاح الحديث والمتطور.
وحتى حين اضطرت تل أبيب الى الدخول في مفاوضات ثنائية وجزئية أوسلو ووادي عربة لجأت الى مخالفة القرارات الدولية شرطاً للتسوية. فالتسوية عندها تقوم على فكرة الغلبة وموازين القوى ومفهومها للسلم لا يأخذ العدالة في الاعتبار مقياساً لتوازن المصالح بل قوة الغالب والمغلوب في معادلة الصراع. فإسرائيل لم تعد تشاغب على الدول العربية وتعطل امكاناتها وتستنزف قواها بل وسعت من دائرة اهتماماتها فانتقلت الى الدائرة الإسلامية والدول الأفريقية المحيطة بالدول العربية متحولة بذلك من مخالف للقوانين الدولية الى مشاغب على الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى اضافة الى مخالفتها القوانين الأميركية الداخلية. فالخطر الاسرائيلي الآن امتد شرقاً وغرباً وبات على الدول المتضررة منها المساعدة على التخفيف من طموحاتها الاقليمية حتى لا تصل غداً الى عمق آسيا وأوروبا.
الاستثناء عن القاعدة
والسؤال: كيف توصلت اسرائيل الى هذه القوة المتنامية والمشاغبة والمخالفة للحقوق والقوانين والشرعية الدولية؟
في عودتنا للسلوك الاسرائيلي نستطيع ان نلتقط الخيط المتعرِّج في سياستها الدولية والاقليمية. ففي البداية لجأت الصهيونية الى بريطانيا مستفيدة من حاجتها المالية في الحرب العالمية الأولى فانتزعت "وعد بلفور" في 1917 الذي قال بضرورة قيام وطن لليهود في فلسطين. فأخذت الصهيونية الوعد البريطاني وخالفته حين انتقلت من فكرة الوطن التي رعاها الانتداب البريطاني في فلسطين مستوطنون واستيطان الى فكرة الدولة التي رعتها الولايات المتحدة حين قررت الحكومة البريطانية ترك فلسطين بناء على "قرار التقسيم" الذي اصدرته الأمم المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. فالفكرة الاستيطانية بدأت بوطن في الحرب الأولى وانتهت بدولة بعد الحرب الثانية. الأولى قادتها لندن والثانية قادتها واشنطن.
وحين تأسست الدولة دخلت اسرائيل على خط تخريب العلاقات العربية - الدولية مستغلة أي خلاف مصالح ينشأ بين الدول العربية وأوروبا الغربية وأميركا. فمثلاً حين اختلفت مصر عبدالناصر مع بريطانيا وفرنسا على ملكية قناة السويس دخلت تل أبيب على خط النزاع وشاركت باحتلال سيناء في "العدوان الثلاثي" مستفيدة من الدعم المالي واللوجستي لتحسين آلتها الحربية لتخويف الدول العربية.
وحين دعمت الدول العربية الجزائر في حرب استقلالها ضد فرنسا الديغولية انتهزت اسرائيل الفرصة فدعمت فرنسا في حربها ضد الجزائر وحصلت منها على المفاعل النووي وعززت أسطولها الجوي بسلاح طيران متطور ميراج.
وحين قرر الجنرال ديغول قطع الامداد العسكري لإسرائيل بعد حرب حزيران 1967 انتقلت فوراً الى دعم السياسة الأميركية ضد أوروبا في المنطقة العربية مستفيدة من تقنياتها العسكرية في فترة كانت واشنطن متورطة في حرب المستنقعات في فيتنام.
وحين قررت الأمم المتحدة مقاطعة النظام العنصري في جنوب أفريقيا تحالفت تل أبيب معه مخالفة بذلك الشرعية الدولية مستفيدة من حاجة النظام العنصري الى حليف مشابه له في المنطقة العربية. وبالتعاون مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا طورت اسرائيل ترسانتها النووية والصاروخية وأجرت سلسلة تجارب مشتركة في صحراء ناميبيا على رغم استنكار دول العالم لمخالفاتهما الثنائية.
وحين اختلفت الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفياتي على مسألة حقوق الإنسان دخلت تل أبيب على الخط مستخدمة نفوذها المالي والاعلامي وضغطت بواسطة واشنطن على موسكو لتسهيل خروج اليهود السوفيات في مقابل السكوت عن مسألة حقوق الإنسان، مختزلة قضية حقوق الإنسان الى نقطة واحدة وهي فتح باب الهجرة اليهودية الى فلسطين.
فإسرائيل المخالفة للقانون الدولي كانت تبني استراتيجيتها الاقليمية وفق التحالف مع القوة الدولية الكبرى لتنفيذ سياسات تعزز من قوتها العسكرية التي استخدمتها دائماً لحماية احتلالها وشغبها الدائم على المصالح العليا للدول الكبرى في المنطقة. فالمخالفة الدولية تعايشت في السياسة الاسرائيلية مع تكتيكات متلونة تتأرجح بين هذه الدولة الكبرى وتلك مستفيدة من حاجاتها الموقتة لتعديل ميزان القوة لمصلحتها. فالمخالفة تعايشت مع اللعب على التناقضات الدولية سواء كانت بين دولة أوروبية وأخرى، أو أوروبا وأميركا، أو أميركا والاتحاد السوفياتي، وأخيراً بين الصين وأميركا، والهند وباكستان، وروسيا والصرب في البلقان. الى ذلك استفادت تل أبيب كثيراً من تعدد الدول العربية والإسلامية واختلاف مصالحها وحاجاتها وسياساتها الخارجية مستغلة أحياناً خلافات لها صلة بالحرية والاستقلال كما حصل مراراً في الجزائر أو السودان أو اليمن فتأخذ موقع القوي المعادي للعرب والمسلمين لتحسين قوتها العسكرية واستخدامها في حروبها الخاصة والاقليمية ضد الدول العربية والإسلامية. وتكرر الأمر مع بريطانيا في مطلع القرن، وفرنسا وبريطانيا في الخمسينات والستينات، وجنوب أفريقيا في السبعينات والتسعينات. وأخيراً أميركا منذ السبعينات الى يومنا.
والآن وبعد ضربة 11 أيلول سبتمبر نجد اسرائيل تستخدم تلك الانتهازية الدائمة لتمرير مخالفتها للشرعية الدولية وقراراتها من خلال كسر الاتفاقات المهزوزة والظالمة في كل الحالات مع منظمة التحرير مستفيدة من حال الفراغ السياسي الناجم عن حرب الولايات المتحدة على شعب أفغانستان. فإسرائيل استغلت وتستغل كل حادث في العالم لربط نفسها بمنظومة العلاقات الدولية وتوظيفها لخدمة مصالحها الاقليمية وتعزيز قوتها العسكرية في وقت تقوم هي بمخالفة القرارات الدولية وشرعية الأمم المتحدة. فدائماً اسرائيل هي الاستثناء. الاستثناء في كل المجالات والحقول والسياسات. فهي دولة مخالفة منذ تأسيسها قرار التقسيم وقبل تأسيسها وعد بلفور وبعد تأسيسها حرب حزيران واحتلال الأراضي العربية. وكذلك ينطبق الأمر على ما قبل انسحابها من جنوب لبنان وما بعد انسحابها. فالمخالفة هي نهج اسرائيل الدائم سواء كانت مخالفة جزئية أو كلية للقرارات والشرعية الدولية. وهذا ما يمكن ملاحظته في تكتيكاتها اليومية سواء في مجزرة قانا جبل عامل 1996 أو في مجزرة بيت ريما 2001.
والاستثناء لا يقاومه الا الاستثناء. ومن يستثني نفسه من كل المعادلات الدولية ويتجرأ على المشاغبة على كل الاستراتيجيات وتوازن المصالح والشرعية الدولية يجب ان يستثنى من قاعدة "حوار الحضارات" والتعارف بين الشعوب.
* كاتب من أسرة "الحياة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.