تطرح المرحلة الحالية المضطربة والحملة العسكرية الأميركية على أفغانستان عدداً من المواضيع التي تستحق بعض التوضيح، وسأسجلها هنا من دون كثير من التفصيل أو التحديد، في محاولة لتناول المرحلة الحالية من العلاقة الطويلة - والمليئة بالسلبيات العميقة - بين الولاياتالمتحدةوفلسطين. علينا البدء بما يمكن اعتباره أمراً مفروغاً منه، وهو ان كل الأميركيين من ضمنهم أنا على اقتناع تام بأن الأحداث الرهيبة في 11 أيلول سبتمبر الماضي افتتحت مرحلة جديدة في تاريخ العالم. ولا شك في أن الكثير من الأميركيين يدركون، على الصعيد العقلاني، أنه على رغم ان التاريخ حافل بمجازر وكوارث أخرى، لكنهم يعتبرون تفجير مركز التجارة العالمية والبنتاغون تطوراً فريداً لا سابق له، وأن واقعاً جديداً بدأ في البروز منذ ذلك اليوم. ويتركز هذا الواقع في معظمه على الولاياتالمتحدة نفسها - أي على حزنها وغضبها وضغوطها النفسية وتصورها للذات. يمكن القول إن الرأي الأبعد عن القبول لدى الرأي العام الأميركي حالياً هو الذي يشير الى أن هناك أسباباً تاريخية لهذا المقدار من العداء الموجه الى أميركا، ذلك اللاعب الأهم على الساحة العالمية، أي انها جلبته على نفسها من خلال ممارساتها. فرأي كهذا يعتبر ضمن الخطاب السائد رسمياً واعلامياً محاولة لتبرير وجود أسامة بن لادن وأعماله، الذي أصبح الرمز الأشمل لكل ما تكرهه اميركا وتخشاه. الافتراض هنا، كما يبدو، هو أن الارهاب، ذلك الشر المطلق، أصاب أميركا في عمق شرفها وكرامتها، ولا يمكن في أي شكل من الاشكال السماح حتى بالتفكير في رأي كهذا، ناهيك عن اخضاعه للتفحص العقلاني. ولا يبدو أن احداً مهتم بأن هذا بالضبط ما يريده بن لادن في تصوره المجنون للعالم، أي تقسيم الكون الى طرفين متناحرين، طرفه هو من جهة، والمسيحيون واليهود من الجهة الثانية. النتيجة، بالتالي، أن الصورة التي تقدمها الحكومة ووسائل الاعلام - التي تعمل في غالب الأحيان من دون استقلالية عن الحكومة، على رغم بعض التساؤلات والانتقادات لطريقة ادارة الحرب وليس حكمتها أو فاعليتها - تركز على "وحدة" أميركا تجاه الخطر. وهناك فعلاً شعور اصطنعته وسائل الاعلام والحكومة بوجود تلك ال"نحن" القوية، وكيف "اننا" متحدون على صعيدي العمل والمشاعر. ويبرز هذا من خلال ظواهر قد لا تكون مهمة بذاتها، مثل رفع الاعلام في كل مكان وإصرار الصحافيين على استعمال صيغة الجمع هذه عند وصف الاحداث، أي "اننا" قصفنا وقررنا وعملنا وشعرنا واعتقدنا... الخ. وليس لهذا، بالطبع، سوى علاقة هامشية بالواقع، وهو أكثر تعقيداً وإثارة للقلق. فهناك الكثير من الشكوك، وحتى المعارضة الصريحة، التي تغطيها موجة الحماس ولا تجد طريقها الى العلن. وبلغ من قوة هذا الطرح ل"توحد" أميركا انه لا يسمح بمقدار يذكر من التساؤل عن سياسة أميركا، التي لا بد من أن تقود على أصعدة عدة الى سلسلة من التطورات غير المحسوبة في أفغانستان وغيرها، ولن يدرك الكثيرون نتائجها الا بعد فوات الأوان. خلال ذلك تؤكد هذه "الوحدة" أن ما عملته أميركا، ولا تزال، لا يحتمل أي خلاف أو نقاش جديين. ويؤكد الرئيس جورج بوش، تماماً مثل بن لادن، أن من ليس معنا فهو مع الارهاب وبالتالي ضدنا. هكذا فإن أميركا، من جهة، لا تحارب الاسلام بل الارهاب، لكنها تناقض ذلك من الجهة الثانية عندما تصر على انها وحدها من يحدد ماهية الاسلام أو الارهاب، وكيف "اننا" ضد الارهاب الاسلامي والغضب الاسلامي حسب تعريفنا "نحن" لهما. واذا كانت هناك حتى الآن تحفظات لبنانية وفلسطينية قوية على ادانة أميركا ل"حزب الله" و"حماس" باعتبارهما منظمتين ارهابيتين فليس هناك ما يضمن توقف الحملة الهادفة الى جعل اعداء اسرائيل "اعداءنا". مع ذلك، أدرك بوش وتوني بلير الحاجة الى عمل شيء ما تجاه فلسطين، على رغم انني لا اعتقد بوجود توجه جدي لدى الولاياتالمتحدة لتغيير سياستها الخارجية في هذا المجال. ذلك ان تغييراً كهذا يتطلب من أميركا مراجعة تاريخها، تماماً مثلما في المواعظ التي يوجهها اعلاميون سيئو الصيت مثل توماس فريدمان وفؤاد عجمي الى العرب والمسلمين بضرورة مراجعتهم لتاريخهم، من دون ان يذكروا، بالطبع، ان هذا مطلوب من الكل، من ضمنهم الأميركيون. فهؤلاء يكررون لنا من دون توقف أن تاريخ أميركا هو تاريخ الحرية والديموقراطية وليس سواهما، من دون اعتراف بأي خطأ أو اعلان عن مراجعة جذرية. المعنى: على كل الآخرين تغيير أنفسهم وأوضاعهم، أما أميركا فتبقى على حالها. ثم يعلن جورج بوش ان الولاياتالمتحدة تفضل قيام دولة فلسطينية بحدود معترف بها جنباً إلى جنب مع اسرائيل ومتوافقاً مع قرارات الأممالمتحدة وان كان من دون تحديد لتلك القرارات ومع الاصرار على رفض استقبال ياسر عرفات. قد تبدو هذه خطوة تناقض المعتاد، لكنها في حقيقتها ليست كذلك. اذ تشهد الولاياتالمتحدة منذ ستة أسابيع حملة اعلامية مذهلة الدقة والشمولية، وبلا معارضة تذكر، لفرض المنظور الاسرائيلي للعالم على الرأي العام الأميركي. المقولات الرئيسية في هذه الحملة ان السبب الحقيقي للارهاب هو الاسلام نفسه والعرب انفسهم، وان اسرائيل واجهت هذا الارهاب منذ قيامها، وان لا فرق بين عرفات وبن لادن، وان غالبية حلفاء أميركا العرب خصوصاً مصر والمملكة العربية السعودية ترعى شعور العداء لأميركا وتساند الارهاب، وكل ذلك في مجتمعات ينخرها الفساد والتسلط. وتقوم هذه الحملة على افتراض مشبوه في أحسن الأحوال عن تصاعد اللاسامية، وتدعو بالنتيجة الى تدمير أي مظهر من مظاهر مقاومة الفلسطينيين أو اللبنانيين لممارسات اسرائيل - وهي اليوم أكثر بشاعة وتوحشاً من أي وقت مضى - بعد القضاء على بن لادن و"طالبان" أو أثناء الحرب عليهم. وهذا يعني أيضاً، كما يواصل صقور البنتاغون وحلفاؤهم الاعلاميون اليمينيون تذكير الأميركيين، بضرورة الهجوم على العراق وتدميره مع كل اعداء اسرائيل في المنطقة. وبلغ من وقاحة جهاز الاعلام الصهيوني في الأسابيع الأخيرة منذ 11 أيلول الماضي اننا لا نكاد نجد رأياً معارضاً. وضاعت وسط هذه العاصفة من الأكاذيب والحقد الدموي والغطرسة الانتصارية الحقيقتان البسيطتان القائلتان أن أميركا ليست اسرائيل، وان بن لادن ليس العرب أو المسلمين. الحملة الاسرائيلية المكثفة، التي لا يملك بوش ومساعدوه سيطرة فعلية عليها، أبعدت الادارة عن أي مراجعة حقيقية لسياسة الولاياتالمتحدة تجاه اسرائيل والفلسطينيين. وكان هناك، حتى في المراحل الأولى من الحملة الدعائية الأميركية المضادة الموجهة الى العالمين العربي والاسلامي، افتقار ملحوظ الى التعامل مع العرب بالجدية نفسها التي تعاملت فيها واشنطن مع بقية الشعوب. خذ مثلا برنامج النقاش من تلفزيون "الجزيرة" قبل نحو أسبوعين الذي تم فيه بث الشريط الأخير لبن لادن. تشكل الشريط من سلسلة من الاتهامات والتصريحات، مثل اتهام الولاياتالمتحدة باستعمال اسرائيل لقمع الفلسطينيين من دون هوادة. وبالطبع قدم بن لادن تفسيره الجنوني المعهود لذلك، وهو الحملة الصليبية التي تشنها المسيحية واليهودية على الاسلام - فيما تقتنع غالبية العالم العربي بالحقيقة الواضحة وهي أن الولاياتالمتحدة تسمح لاسرائيل بقتل الفلسطينيين كما يحلو لها وباستعمال السلاح الأميركي لهذا الغرض مع تأييد واشنطن لاسرائيل في الأممالمتحدة والمحافل الدولية عموماً. بعد ذلك طلب مقدم البرنامج رداً من المسؤول الأميركي كريستوفر روس، الذي يتكلم العربية لكن ليس بما يكفي من الطلاقة أو البلاغة، فقرأ بياناً مطولاً ملخصه أن الولاياتالمتحدة أبعد ما تكون عن العداء للاسلام والعرب، بل انها نصيرتهم كما في البوسنة وكوسوفو مثلاً، وهي أيضاً المساهم الأكبر في تقديم الغذاء الى أفغانستان، اضافة الى دفاعها الدائم عن الحرية والديموقراطية... الخ. انها، عموما، الحجج الأميركية المعهودة. الا ان مقدم البرنامج طلب من روس، أخذاً في الاعتبار ما قاله عن دعم الولاياتالمتحدة للعدالة والديموقراطية، تعليل دعم أميركا وحشية اسرائيل في احتلالها العسكري لفلسطين. وبدلاً من أن يجيب روس بصدق، وفي شكل يحترم ذكاء المشاهدين، معترفاً ان اسرائيل حليفة أميركا وان تأييدها ينبع من أسباب سياسية داخلية، اختار أن يهين المشاهدين بالدفاع عن الولاياتالمتحدة باعتبارها القوة الوحيدة التي استطاعت جلب الطرفين الى طاولة التفاوض. وعندما استمر مقدم البرنامج في اسئلته عن عداء الولاياتالمتحدة لتطلعات العرب واصل روس بالمقابل طرح الخط نفسه، بما معناه ان الولاياتالمتحدة وحدها هي من يراعي مصالح العرب. اذا اخذنا اداء روس على مستوى الدعاية فقط فانه فاشل من دون شك. لكنه، من دون أن يدري، قدم للعرب خدمة مهمة، فقد اتضح من كلامه أن من الحمق توقع تغيير مهم في سياسة واشنطن. ومهما قال بوش وادارته فان أميركا مستمرة في ممارساتها الاحادية، ليس في أفغانستان أو الشرق الأوسط فقط بل في كل مكان في العالم. ولم تفهم حتى الآن دوافع الفلسطينيين للمقاومة، أو مدى استنكار العرب لسياستها الظالمة عندما تتغاضى عن سادية اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. كما ان واشنطن ما زالت ترفض ميثاق كيوتو والاتفاق على اقامة محكمة دولية لجرائم الحرب ومواثيق تحريم الألغام الأرضية، كما تستمر في رفض تسديد متأخراتها الى الأممالمتحدة. وعلى رغم كل هذا يسمح بوش لنفسه بالوقوف أمام الدول الأخرى ليحاضرها، مثل مدرس أمام حفنة من التلاميذ، عن ضرورة التزام الأفكار الأميركية في السلوك والعمل. باختصار، ليس هناك مطلقاً أي سبب لياسر عرفات وبطانته في التمرغ في التراب أمام أقدام الأميركيين. أملنا الوحيد كفلسطينيين يكمن في البرهنة للعالم على تمسكنا بمبادئنا وبتفوقنا الأخلاقي، وادامة مقاومة ذكية قوية التنظيم للاحتلال الاسرائيلي الاجرامي. اقتراحي الى ياسر عرفات يتلخص بوقف سياحته التي لا تنتهي في انحاء العالم والعودة الى شعبه ليتجاوب مع احتياجاته كما ينبغي لقائد حقيقي. من جهته يواصل الشعب تذكيره بانحسار التأييد له: نسبة المؤيدين لتحركاته لا تتجاوز 17 في المئة حالياً. وفي الأثناء تستمر اسرائيل في تدمير البنى التحتية الفلسطينية وتدمير المدن والمدارس وقتل الأبرياء وغزو المناطق كما يحلو لها من دون أن يبدي عرفات اهتماماً جدياً بذلك. عليه ان يقود بنفسه، ويومياً ان لم يكن ساعة بعد ساعة، مسيرات الاحتجاج السلمية، وان لا يترك هذه المهمة لمتطوعين اجانب يقومون بمهماتنا بدلاً منا. قيادة عرفات تعاني من نقص قاتل في روح التضحية بالذات والتضامن الانساني والاخلاقي مع الشعب. وأخشى ان يكون هذا النقص قد أدى بالفعل الى تهميش شبه كامل له ولسلطته الخاملة. ولا شك في ان وحشية شارون لعبت دوراً رئيسياً في ذلك. لكن علينا ان نتذكر أن غالبية الفلسطينيين كانت قد فقدت ثقتها بالقيادة قبل الانتفاضة، ولأسباب حقيقية. والظاهر ان عرفات لم يفهم أبداً أننا كنا ولا نزال حركة تجسد مبادئ العدالة والتحرر وتستمد الدعم بناء على ذلك. هذا فقط دون سواه سيمكننا من تحرير أنفسنا من الاحتلال الاسرائيلي وليس المناورات خلف الكواليس في أروقة الحكومات الغربية، حيث يعاملونه وشعبه باحتقار. لقد فشل عرفات مرة بعد مرة - في الأردن ولبنان وخلال عملية أوسلو - عندما تصرف وكأنه على رأس دولة عربية من النوع المعتاد. ولن يبدأ بقيادة شعبه فعلاً إلا حين يفهم في النهاية أن الشعب الفلسطيني يطالب بالتحرر والعدالة وليس بالمزيد من قوات الشرطة والمزيد من الفساد البيروقراطي. عدا ذلك سيستمر في التخبط المشين جالباً علينا المزيد من الكوارث والمآسي. في المقابل، وهي نقطة اكتفي بذكرها الآن لأعود لتطويرها أكثر في مقالتي المقبلة - علينا كفلسطينيين وعرباً أن لا نكتفي بذلك العداء الكلامي الفارغ لأميركا. من المرفوض أن نجلس في قاعات الاجتماع في بيروت أو القاهرة لادانة امبريالية أميركا أو الكولونيالية الصهيونية من دون أدنى قدر من الادراك بأن هذه مجتمعات معقدة لا تمثلها دوماً السياسات الغبية الوحشية التي تتخذها حكوماتها. لم نتوجه أبداً إلى تلك التيارات التي يمكن بل من الضروري التوجه اليها والتوصل الى اتفاق معها. ومهمتنا الأولى هنا هي جعل مقاومتنا موضع الاحترام والتفهم، وليس الكره والخوف، كما نجد الآن بسبب الجهل الانتحاري والعداء الأعمى. نقطة اضافية: من السهل جداً أيضاً على مجموعة صغيرة من الأكاديميين العرب في أميركا الظهور في وسائل الاعلام هنا لادانة الاسلام والعرب، من دون التحلي بالشجاعة الكافية لتوجيه ذلك القول، في شكل مباشر وبالعربية، الى الشعوب والمجتمعات العربية نفسها. كما ان من المرفوض أيضاً ان تدعي الحكومات العربية والاسلامية انها تدافع عن مصالح شعوبها في الأممالمتحدة والغرب عموماً، فيما لا تعمل شيئاً يذكر لمصلحة شعوبها في الداخل. ان غالبية البلاد العربية اليوم تتخبط في الفساد والارهاب والحكم اللاديموقراطي، اضافة الى انظمة تعليمية تعاني من نواقص قاتلة لم تواجه حتى الآن حقائق العالم العلماني اليوم. * استاذ الانكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا.