أعربت مصادر اقتصادية دولية رفيعة عن تشاؤمها بالتطورات الاقتصادية في لبنان، خصوصاً بعد الأحداث التي وقعت في آب اغسطس الماضي من اعتقالات وتشدد أمني. وتوقعت أن يزداد الضغط على الليرة اللبنانية. وقال بعض المصادر التي التقته "الحياة" في بيروتوباريس، إن لبنان لا يستطيع الاعتماد طويلاً على تدخل المصرف المركزي، لدعم الليرة اللبنانية، لأن العملات الصعبة التي يتطلبها مثل هذا التدخل لن تكون متوافرة إذا استمر الجو السياسي مشحوناً، بل قد يواجه البلد أزمة في المستقبل القريب لأن البنك المركزي واجه ضغوطاً كبيرة لم يواجه مثلها لحماية العملة الوطنية عندما نشبت الأزمة السياسية أواخر الشهر الماضي. لكن حاكم المصرف المركزي رياض سلامة أكد ل"الحياة" أن ما قيل عن ضخ 800 مليون دولار في السوق "أرقام مضخمة جداً، وأن هذا التضخيم قد يكون مرده إلى مصالح سياسية أو مصالح لحماية النفس من قبل الموظفين الدوليين، ويستهدف إخافة الناس". وكان لبنان حصل أخيراً على 750 مليون دولار من عملية "يوروبوند"، استخدمت لدعم الليرة، ويتوقع أن يحصل قريباً على 350 مليون دولار من عملية مماثلة. وفي ظل هذا التشاؤم، عبّر وزير الخارجية الفرنسي هوبير فيدرين عن قلقه الشديد حيال الاعتقالات التي طاولت أخيراً معارضين لبنانيين، ووصفها بأنها من قبيل "الأساليب السيئة". وتساءل في حديث نشرته أخيراً صحيفة "لوفيغارو" هل "هناك من يخشى الانعكاسات الايجابية للقمة الفرانكوفونية، على لبنان في وقت بدأ اللبنانيون يتجاوزون خلافاتهم؟"، وعبر عن أمله بأن يكون مثل هذا الاحتمال خاطئاً، وأن تلغى الاجراءات المتخذة "ليزول القلق الناجم عنها أثناء القمة". ووصف الوضع في الشرق الأوسط بأنه مخيف ومثير للغضب، وقال إن "الاعتداءات والارهاب تشكل أمراً مخزياً"، وان "احتجاز شعب بأكمله الفلسطينيين كرهينة واعتماد سياسة خنق منهجية حياله، هو أيضاً أمر مخزٍ". وحمل على سياسة الترقب التي تعتمدها الولاياتالمتحدة، وقال إن مثل هذا الموقف "يجعلها أشبه ببيلاطس"، وان فرنسا تتوقع المزيد من انخراط الأميركيين في الشرق الأوسط "بما يتلاءم مع مسؤولياتهم العالمية والنفوذ الاستثنائي الذي يتمتعون به لدى الأطراف". وأثارت تصريحات فيدرين استغراب بعض الأوساط الغربية التي رأت أنها قد تتسبب في نتائج معاكسة على صعيد الوضع. وقال مصدر اقتصادي لبناني رفيع، إن سبب تأزم الوضع الاقتصادي في بلده هو الخلافات السياسية، وكذلك المساس بأمور جوهرية، مما خلق حالاً من الخوف بعدما كانت الأسواق استعادت هدوءها في حزيران يونيو وتموز يوليو الماضيين، حيث كان هناك أقبال على الأوراق المالية اللبنانية، لكن ما حدث سياسياً في شهر آب اغسطس أدى إلى صدمة فعلية. لكنه أضاف ان هناك تطوراً ايجابياً على صعيد الوضع الاقتصادي، إذ أن معدل النمو سيكون بمستوى 2 في المئة، وهناك تحسن ملموس في كل القطاعات. وأشار إلى أن التضخم النقدي مضبوط، ولن يتجاوز نسبة 3 في المئة، وان العجز في ميزان المدفوعات لن يكون بالمستوى الذي توقعه صندوق النقد الدولي، إذ أنه حتى نهاية تموز الماضي بلغ مجمل العجز في ميزان المدفوعات 355 مليون دولار. وتابع ان وضع القطاع المصرفي أظهر تحسناً في أواخر تموز، إذ أن نسب الودائع تمت بمعدل 5.2 في المئة، وأن المشكلة الحقيقية ناجمة عن عدم توافر القرار السياسي، فالمسؤولون غير قادرين على الاتفاق على تعيين سفير أو مدير عام، فكيف يتفقون على خطة اقتصادية تستدعي قرارات في شأن بلايين الدولارات. ورأى المصدر ان الجواب ينبغي أن يأتي من السياسيين، وأن خطة الاصلاح الاقتصادي ينبغي أن تنفذ لأنها قادرة على اخراج لبنان من مشكلته وقادرة على تفادي الانهيار الذي تتخوف منه أوساط دولية. ونبهت مصادر اقتصادية دولية إلى أن الوقت أصبح ضيقاً جداً لإنقاذ لبنان من محنته. وأضافت ان خطة رئيس الحكومة رفيق الحريري كان لها قبل 6 أشهر نوع من المصداقية، أما الآن فإنها لم تعد واقعية، فخصخصة شركة "طيران الشرق الأوسط" استغرقت مدة طويلة واستدعت تمويلاً كبيراً. وتساءلت كيف يمكن تخصيص الكهرباء والمياه، ولا تتوافر إمكانات لتمويل هذه الخصخصة. وقالت إن كل الخطى الشجاعة التي قطعت باتجاه الإصلاح اصطدمت بالبطء والتعثر والخلافات السياسية. ولاحظت أن لبنان حافظ على هيكلية إدارية مهترئة ولم ينفذ الاصلاحات المطلوبة في هذا المجال منذ سنوات. وأشارت إلى أن الحكومات اللبنانية المتتالية بعد الحرب فشلت جميعها في تحقيق الاصلاحات المطلوبة، فالاحصاءات العامة الأخيرة تعود إلى سنة 1995 فلا أرقام دقيقة لعدد العاملين في الإدارة، ولا رقابة على نظام الضمان الاجتماعي. واستبعدت المصادر انعقاد اجتماع "باريس 2" لمساعدة لبنان على رغم إصرار الرئيس جاك شيراك، لأن الإدارة الأميركية وصندوق النقد والبنك الدوليين، باتت ترى أن خطة الحريري لم تعد واقعية، خصوصاً بعد الذي حصل أخيراً. ولفتت إلى أن الإدارات الغربية تعتقد بأن أحداث الشهر الماضي أظهرت حدود سلطة الحريري والقيود على تحركه، الأمر الذي دفعها إلى انتقاد تصرف الرؤساء في لبنان، لخلافهم على صلاحياتهم وليس على انقاذ البلد. وقالت مصادر لبنانية مسؤولة ل"الحياة" إن الموقف الدولي حيال لبنان بات يتسم بالمزيد من التشدد، لأنه لم تحقق الكثير خلال السنوات الثماني الماضية، بل إن ما زاد من ارتياب الغرب هو التعرض للحريات... فضلاً عن عدم ارسال الجيش إلى الجنوب. وأشارت إلى أن في لبنان مصالح اقتصادية مستقلة لا تتحرك وتقف موقفاً متفرجاً... كأنها تنتظر تحويل الاقتصاد شبه سلعة سياسية. وشددت على ضرورة تحرك هذه المصالح، خصوصاً أن البنك المركزي يبذل حالياً جهوداً لدى القطاع الخاص لحمله على الضغط على السياسيين، لأن المشكلة تكمن على المستوى السياسي. وكان سلامة أكد تكراراً أن مستقبل لبنان مرتبط بالإصلاح الاقتصادي والوفاق السياسي، وأنه مقتنع بأن لبنان يمكنه تفادي الانهيار إذا توافر الوفاق السياسي.