تحتضن اسطنبول عاصمة الدولة زهاء خمسة قرون في عهد العثمانيين، تراثاً إسلامياً ضخماً، بعضه معماري على جانب كبير من الفخامة والضخامة، وبعضه تحف فنية نادرة ولطائف باهرة هي زينة المتاحف ونوادر المجموعات الخاصة، وتعود هذه المخلفات الفنية الى مناطق جغرافية متعددة وإلى عصور تاريخية متتابعة، وقد صنعت للسلاطين انفسهم أو قدمت لهم كهدايا أو تم الحصول عليها كغنائم حرب. من بين هذه التحف ثمة مجموعة كبيرة من السيوف الإسلامية في متحف "طوب قابي" و"المتحف العسكري" يرجع تاريخها الى الفترة ما بين القرنين الأول والعاشر الهجريين، وهي مجموعة لها قيمتها التاريخية، فضلاً عن كونها ذات مستوى فني رفيع، يتجلى في زخارفها ونقوشها وكتاباتها. كتاب "السيوف الإسلامية وصنّاعُها" الصادر عن "مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية" في اسطنبول، بدعم من وزارة الإعلام الكويتية للمؤلف أونصال يوجل وترجمة عمر طه اوغلي يلقي الضوء على تاريخ السيوف الإسلامية عصراً عصراً وإقليماً إقليماً. معززاً بالصور فضلاً عن تخصيص المؤلف فصلاً عن صناع السيوف الإسلامية. أضفى التاريخ الإسلامي والكتب التي تناولت ادوات الحرب وأعمال الفروسية صبغة دينية على السلاح، وقد ذكر في "الأربعين حديثاً" شيء عن فضائل السهم والقوس، ويمكن هنا ذكر المكانة السياسية ايضاً للسهام والسيوف والقسي، الى جانب المكانة الدينية، إذ غالباً ما كان الحكام يقدمون الى تابعيهم السهام محتفظين بالسيف علامة مؤكدة على السيادة حيث يقول الحديث الشريف "الجنة تحت ظلال السيوف". ولا غرابة في الأهمية التي أعطاها العرب والمسلمون للسيف، فهو أكثر أدوات الحرب فاعلية في حركة الجهاد عند المسلمين، كما كانت عادة تقليد السيف لمن يتولى الحكم دليلاً قاطعاً على ما له من عظيم الاحترام، وما له ايضاً من مكانة جعلته رمز السيادة والسلطان، وقد اعتاد السلاطين العثمانيون على تقلّد سيف احد الخلفاء السابقين، أو سيف أحد آبائهم أو أجدادهم في حفل توليهم العرش، الذي كان يقام في مسجد أبي ايوب الأنصاري. شهرة السيف الإسلامي تعود الى سببين هما: جودته اومهارة المحارب في استخدامه، وما اشتهر صلاح الدين في الغرب لولا جودة السيوف التي كان مقاتلوه يستخدمونها، والمصنوعة من الصلب الدمشقي الذي يبزّ الصلب المستخدم في صناعة سيوف اليابان وأوروبا الشرقية وإسبانيا... إضافة الى مهاراتهم في استخدام هذه السيوف. يخصص المؤلف مفتتح الكتاب للسيوف المباركة المنسوبة الى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وإلى الخلفاء الراشدين والصحابة الآخرين، وعددها اثنان وعشرون سيفاً، ملقياً الضوء على صفاتها وخصائصها. فالسيف المنسوب الى الرسول مقبضه من الذهب وواقيته على هيئة ثعبان عليها رسوم أزهار، وتطعيمات من الياقوت والفيروز، نصله ذو حدين، مدبب، وفي الجزء القريب من الواقية نقطة بارزة من الذهب نقرأ تحتها عبارة: "رسول الله" صلعم مكتوبة بالخط الكوفي. ثمة سيف آخر منسوب الى الخليفة ابو بكر الصديق وثلاثة سيوف الى الخليفة عمر بن الخطاب أحدها كتب عليه "ابن الخطاب" والثاني "محمد رسول الله صلعم، عمر بن الخطاب". وثمة ايضاً سيف رصع بالذهب واللؤلؤ ينسب الى الخليفة عثمان بن عفان، وسيف ينسب الى علي بن أبي طالب وسيف لكاتب الرسول صلعم الصحابي ابي حسنة. وكانت طريقة استخدام السيف هي التي تحدد شكله، لكن ثمة علاقة وثيقة بين الطول والعرض والسمك والثقل بالنسبة للسيف الإسلامي، فالمراحل الأهم التي طرأت على السيف الإسلامي تعود الى القرنين 7- 9 ه/ 13- 15م إذ بدأ يتحول من شكله المستقيم ذي الحدين، الى الشكل المقوس ذي الحد الواحد. وقد طرأ تغيير بسيط على شكله بتأثير واصل من آسيا الوسطى. إن الخصائص التي يسبغها المؤلف على السيف الإسلامي وتطوره خلال 900 عام منذ ظهور الإسلام تظل محكومة بالنماذج الموجودة في متحف طوب قابي والمتحف العسكري، وقد لا تنسحب هذه الخصائص على كامل الأقاليم الإسلامية. يدرس المؤلف المراحل التي مرت فيها السيوف الإسلامية محدداً مواصفاتها والكتابات التي نقشت عليها، وخصائصها أثناء القتال. تنتهي المرحلة الأولى التي بدأت بالسيوف الأموية والعباسية بسقوط الخلافة العباسية، ومن ثم أعقبتها دولة المماليك، حيث بدأ عدد السيوف بالازدياد وتنتهي هذه المرحلة بسقوط دولة المماليك، والمرحلة الثانية التي يرصدها المؤلف هي تطور السيف عند السلاجقة وسلاجقة الأناضول، وفي أوائل عهد العثمانيين، والمرحلة الثالثة هي مرحلة السيف الإيراني الذي وصل الى أنضج حالات تطوره في عهد الشاه طهماسب، وعباس الأول في العهد الصفوي. قيّمت السيوف المنسوبة الى الرسول صلعم وأصحابه والسيوف المنسوبة الى العصرين الأموي والعباسي من خلال الكتابات على النصال والأغماد: كسيوف الرسول صلعم، الخلفاء الراشدين، معاوية بن ابي سفيان، عمر بن عبدالعزيز... الخ، وهي إما ذات نصال لها حدان تستمر بعرض واحد وإما ذات نصال تعلوها الحزوز وتستخدم في الوخز، فيما سيوف اخرى كان لها دوائر سبع محشوة بالذهب يعتقد انها كانت تجلب الحظ لصاحبها. مقابض سيوف هذه العصور مستقيمة، وأطرافها بارزة من الجانبين، فيما السيوف الأيوبية ونموذجها السيف المنسوب الى نجم الدين ايوب، والد صلاح الدين الأيوبي، هي سيوف مستقيمة، ذات حدين وغير مدببة. وتحتل السيوف المملوكية مكاناً مهماً بين السيوف الإسلامية كسيوف قايتباي، قانصوه الغوري، التي تعود نصالها الى نهاية القرن السابع الهجري ونموذجها سيف حسام الدين لاجين 696- 698 وهو سيف ذو حد واحد نصله متقوس، يتجه نحو طرفه، فيما عرضه يظل ثابتاً حتى يصل الى الحدبة البسيطة التي بالظهر وبعدها يتحول ظهر النصل الى حد ماض، ويمكن الإشارة هناك الى ان طريقة استخدام السيف المقوس تختلف عن طريقة استخدام السيف المستقيم، وما على المقاتل سوى تعلم استخدام الطريقتين. ونلاحظ ان ابراهيم المالكي احد صانعي السيوف قد استقر على شكل ثابت ولافت في صنع السيوف المملوكية. وتتمتع السيوف المغربية بشهرة واسعة في العالم الإسلامي، نصالها مستقيمة، ذات حدين، طويلة، عريضة، رقيقة، وقد كان المماليك يستقدمون الصناع المغاربة لصنعها. أما السيوف العثمانية فقد تطورت اشكالها بدءاً من النصف الثاني للقرن التاسع للهجرة ونماذجها الأولى تعود الى السلطان محمد الثاني 855- 886 ه. ويعتبر سيف المراسم المنسوب له نموذجاً لهذه الفترة، فهو ذو حد واحد مقوس قليلاً، ظهره سميك، الجزء الذي يلي المهموز حاد من الجانبين، ويشكل اكثر من ثلث النصل. اما المقابض العثمانية فهي مستقيمة طولها يساوي مرة ونصف المرة طول المقابض العادية، وقد كانت تغطى ببعض انواع عظام السمك ثم تحولت في عهد السلطان بايزيد الثاني الى الحديد والخشب. اما السيوف الصفوية المبكرة فتتميز بعدم وجود مقابض وواقيات لها، وبعصعص النصل ثقب واحد. ويتضح من الكتابات التي كانت تعلوها ان الذين استعملوها كثر منهم: معاوية بن ابي سفيان، عمر بن عبدالعزيز، هارون الرشيد، عمر بن الخطاب... الخ، ومن النقوش المكتوبة على احد السيوف الصفوية المبكرة نقرأ "هذا السيف المبارك لأميرال المؤمنين عمر بن الخطاب سنة عشرين من الهجرة النبوية نقل الى معاوية بن ابي سفيان سنة ستة وأربعين"، وفي الدائرة وفوقها نقشت العبارة الآتية "نقل الى عمر بن عبدالعزيز سنة تسع وتسعين..." ونقش على الوجه الآخر "عز لمولانا السلطان الملك الأشرف أبو النصر قايتباي عز نصره". ان المعلومات محدودة عن صناع السيوف الإسلامية خصوصاً الذين عاشوا قبل القرن العاشر الهجري إلا ما يمكن قراءته في بعض المراجع التاريخية، وقد تضمن الشعر العربي القديم بعضاً من الإشارات الى أسماء صناع السيوف الذين تناولهم الشعراء بالمديح، في معرض اعتزازهم ومدحهم لفروسيتهم وبطولاتهم وشجاعتهم ومن هولاء: "خباب بن الأرث بن جندل توفي عام 38ه/ 658م، هالك بن عمر بن أسد، سريج من بني أسد، أيضاً أبو الحسن بن الأبرقي الذي ورد اسمه في رسالة كتبها مرزا بن علي الطرسوسي. ولا توجد على السيوف كتابات تشير الى أسماء صناعها طوال سبعة قرون حتى نهاية العصر العباسي، سوى أسماء ثلاثة صناع هم أحمد المكي الذي صنع سيف عمار بن ياسر وقد توفي عام 38ه، وهو أقدم سيف اسلامي يحمل اسم صانعه. أيضاً هناك سالم بن علي صانع سيف نجم الدين ايوب، محمد سعيد صانع سيف المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين. أما صناع السيوف المملوكية فمنهم علي، يونس، حاجي يوسف، ابراهيم المالكي صانع سيف السلطان سليم الأول... الخ، ومن صناع السيوف العثمانية محمد بن حاجي صونقور، عجم علي، محمد جلبي... الخ. وقد كان صنّاع السيوف يحصلون على عطايا وإنعامات كثيرة من الأمراء والملوك والسلاطين. ما كتب عن السيوف الإسلامية ليس بالكثير بسبب عدم وجود المعلومات الكافية عن مجموعات السيوف الإسلامية، وتشكل دراسة مجموعتي سيوف متحف "طوب قابي" و"المتحف العسكري" في اسطنبول اللذين يحويان اكثر من مئة سيف اسلامي خطوة مهمة تلقي الضوء على تطور السيف الإسلامي منذ فجر الإسلام، هذا السيف الذي أخذ أبعاداً سياسية ودينية ورافق المسلمين في فتوحاتهم وغزواتهم، واستخدموه في قتالهم ضد اعدائهم، وتلاحمهم معهم عن قرب من فوق خيولهم، وامتدحه شعراؤهم وشبهوا به عيون حبيباتهم... والكتاب بهذا المعنى فاتحة صغيرة تحتاج الى من يكملها لكي تسد ثغرة.