اللغة العربية من أغنى لغات العالم في مسميات السيف، فهي اللغة الوحيدة تقريبًا التي يطلق على السيف فيها العديد من المسميات كالحسام وغيره، والسيف عند العرب منذ أقدم أيامهم من أهم مقومات البطولة الفردية، وبلغ أوج مكانته الرفيعة بين كل أنواع السلاح بين القرن العاشر قبل الميلاد إلى قبيل القرن العشرين الميلادي. وقد عرف السيف أسماء وتعاريف كثيرة، لأنه عرف منذ القدم، في معظم بقاع العالم، وكان له شكله الخاص بين كل شعوب الأرض، ومن هنا نشأت أشكاله المتعددة، وتطور بعضها مع مرور الزمن مع تقدم حضارة كل شعب، ولذلك، كان من الصعب أن يوضع له تعريف محدد يتميز به عن بقية الأسلحة اليدوية المشابهة كالسكين والخنجر مثلاً. يعرف السيف بأنه سلاح للهجوم، يستعمل باليد، له نصل طويل قد يكون مستقيماً أو مقوسًا، مصنوع من الحديد أو الصلب، ومثبت في مقبض، وله في كثير من الأحيان واقية لليد، وله أحيانًا حد واحد، وحدان في أحيان أخرى، ويمتاز كل سيف بطرز وأساليب تختلف عن غيره، وتعطيه طرازه المميز، وهذه الأنواع من الطرز تجعل الباحث غير قادر على أن يكون ملم بتمييز كل تلك الأنواع مهما اتسعت دائرة بحثه في محيط السلاح القديم. ولدراسة السيف الإسلامي في العصور الوسطى هناك مجموعة من المصادر الرئيسية التي يجب على المهتم الرجوع إليها، كالسيوف المحفوظة في المتاحف، والمجموعات الفنية الخاصة، وصور السيوف التي وصلت إلينا في المخطوطات المصورة، وصور السيوف على الآثار والتحف الفنية الإسلامية كالسكة والخزف والزجاج والرخام، والمخطوطات التي وصلت إلينا عن السلاح والسيوف، وما ورد عنها في المؤلفات العربية المختلفة لاسيما كتب الأدب والتاريخ وتقويم البلدان والرحلات. بالرغم من ازدهار الحضارة في الجزيرة العربية قبل الإسلام إلا أن مخلفات تلك الحضارة لا تكشف عن مدى تقدم الصناعات والفنون والعمارة في بلاد العرب قبل الإسلام، وما يعرف في هذا الميدان أقل كثيرًا عن حضارات الأمم المعاصرة لدول العرب الجنوبية قبل الإسلام، كإيران وآشور ومصر وفينيقيا. وبالرغم من أن العرب في الجاهلية لم يصيبوا قسطًا يستحق الذكر في فنون العمارة والنحت والتصوير، إلا أنهم استعملوا الكثير من المعادن كالذهب والفضة والنحاس والحديد في صناعة الحلي والأواني والرماح والدروع والخوذات والسيوف. مسميات متعددة ورغم احتفاظ الأدب العربي الجاهلي بمسميات متعددة للسيف والسلاح بعامة، لتشبع تقاليد أبناء العرب في البطولة والفروسية وميلهم للقتال، ونزوعهم إلى المبارزة والصيد، إلا أننا لا نستطيع القول إن صناعة السلاح في بلاد العرب قبل الإسلام قد بلغت أرفع مكانة من الازدهار. وتكاد تجمع المصادر التاريخية على أول من عمل الحديد من العرب كان الهالك بن عمرو بن أسعد بن خزيمة، ثم خباب بن الأرت من مضارب بني تميم المتوفى عام 37 ه/ 658م. ولعل أشعر سيوف الجاهلية هو صمصامة عمرو بن معدي كرب الذي ضرب به المثل في الجوهر وحسن المنظر والمخبر والمضاء. اكتسبت صناعة السيف مكانتها في المجتمع العربي قبل الإسلام من تلك الأسطورة القديمة التي تناقلها الناس منذ عهد النبي سليمان عليه السلام، حيث كان يشرف على بناء الهيكل في أورشليم، وكان رجال الحرف المختلفة يتعاركون في ما بينهم عمن يكون أهمهم وأخطرهم في العمل، فاستدعى سليمان من كل طائفة منهم رجلاً، وسأل كل منهم عمن صنع عدته أو آلته، فكان جوابهم «الحداد هو الذي صقلها»، فأرسل إلى الحداد ليحضر بين يديه فلما جاء من مصقلته يحمل مطرقته في يديه سأله عمن صنع أدواته التي يعمل بها، فأجاب فورًا: «لقد صنعتها بنفسي» وفي الحال أجلس سليمان الحداد على عرشه إلى جانبه، وقال للصناع الماثلين أمامه، «ها هو ملك الصناع». وسواء صحت هذه الأسطورة أو لم تصح فإن الحداد قد امتلك مكانته بين جميع أقرانه، ولازمته تلك المكانة عصورًا طويلة، وقد كان يصقل السلاح والأواني والمسامير والعملات والسيوف والرماح، وكل ما يحتاج إليه الناس في الحرب أو في السلم، إلى أن جاء اليوم الذي أصبحت فيه هناك طائفة مستقلة لصناعة السلاح، وأصبحت هناك طائفة مميزة لهذه الصناعة وحدها، وكان هذا الصانع يتنقل بين العشائر والقبائل ليقدم له إنتاجه وخدماته أينما حلوا، وكان من عادة العرب أن يدفعوا أو يقدموا لهؤلاء الطباعين ما يطلبونه منهم. يذهب الدكتور عبد الرحمن زكي مؤلف كتاب «السيف في العالم الإسلامي»، الصادر بالقاهرة عن مطابع دار الكتاب العربي لسنة 1957، إلى أنه يقدم كتابه هذا نتيجة للفراغ الملموس في مجال الفنون الإسلامية في ما يتصل بالسلاح الإسلامي، فعقد النية على المساهمة في هذا المجال، ووقع اختياره على السيف الإسلامي: نشأته وتطور أنواعه وفنونه المختلفة، ورغم مرور أكثر من نصف قرن على هذه الدراسة الشائقة الممتعة والجديدة في ذات الوقت، ورغم ما أثاره فيها من حاجة هذا المجال إلى المزيد من الدراسات والبحوث، والتنقيبات، إلا أن المكتبة العربية، لم تشهد كتابًا ضم هذا الموضوع، وبقيت دراسته هذه فريدة في موضوعها، متميزة في تناولها، مقدمة تطور أنواع السيوف في العالم الإسلامي منذ البداية وحتى انزواء هذا السلاح تقريبًا، بعدما كان السلاح الأول، ورمز المهارة الفردية في الحروب، ورمز القوة، ليسدل الستار عليه في طي النسيان، ليصبح مجرد تحف فنية رائعة تقتنيها المتاحف العالمية، ودور حفظ التراث في العالم أجمع. ويوضح أن دراسة هذا الموضوع لم تكن بالأمر اليسير نظرًا لأن معظم السيوف الإسلامية الأثرية التي تستحق الدراسة والمقارنة لا تضمها اليوم متاحفنا، بل إنها مبعثرة في شتى متاحف العالم في أوروبا والولايات المتحدة. كما أن الأسياف التي وصلت إلينا من تلك العصور نادرة وقليلة جدًا إلى الحد الذي لا نستطيع معه أن نتتبع تطور الطرز، ليس في إقليم إسلامي واحد بل في العالم الإسلامي بأسره، ولعل اختفاء حرفة صانعي السيوف الذين اعتادوا القيام بصناعتهم في جو تحيط به السرية والغموض؛ فلم يتناقلها الكثيرون، ولعل أبلغ دليل على ذلك، قلة ما وصل إلينا من أسماء صانعي السيوف المسلمين، فقضي على هذا الفن الجميل من فنون الحضارة الإسلامية بموت رجاله. وبالرغم من ذلك بقيت بعض المؤلفات القليلة التي تناولت السيوف الإسلامية كرسالة الكندي الفيلسوف العربي (القرن 9، 10م)، والبيروني (القرن 10، 11م) والطرسوسي (القرن 11، 12م). كما احتوت كتب المنمنمات على بعض الصور التي تزيح الستار عن تطور أشكال السيف ونصله ومقبضه عصراً بعد عصر، وأهمها كتب الشاهنامة. أبواب وقسم الدكتور عبدالرحمن زكي مؤلفه إلى خمسة أبواب اختتمها بمجموعة رائعة من الصور والرسومات تضمنت العديد من السيوف، ونصول السيوف، وبعض صور للسيوف من مخطوطات نادرة، تشرح تطور السيف في العالم الإسلامي عبر قرون طويلة. في الباب الأول تناول «تاريخ صناعة السيف في العالم الإسلامي» فبسط البحث عن السيف في بلاد العرب وإيران ومصر والشام وتركيا والهند والأندلس وشمال أفريقيا. أما الباب الثاني فقد خصصه لصناعة السيف في العالم الإسلامي، فأوضح مواطن الحديد، وكيف كان المسلمون يحصلون عليه، ثم انتقل لتوضيح مراكز صناعة السيف الإسلامي في كل من شبه الجزيرة العربية وإيران والشام ومصر وتركيا. وتناول في الباب الثالث «تطور السيف وأجزائه في العالم الإسلامي» فأوضح أنواع السيوف عند المؤلفين العرب ومميزات كل منها، وأنواع السيوف الإسلامية التي وصلت إلينا، وشرح مميزات كل منها وأنواع السيوف: السيف المستقيم، السيف المقوس، القليج، اليتاغان، الشمشير، واختتم بشواهد تقوس السيف الإسلامي من التحف والآثار التي وصلت إلينا، وحفظها لنا التراث العربي الإسلامي، لتكون خير شاهد على تطور الحضارة الإسلامية. وفي الباب الرابع تناول مميزات السيف الإسلامي: الجواهر أو الغرند، الشطب والقنوات، المقبض، النقوش الزخرفية، والكتابات على السيوف الإسلامية، فقد لعب الخط العربي دورًا كبيرًا في كل مراحل الحضارة الإسلامية، فزين الخطاطون كل متطلبات الحياة اليومية في وقت السلم، وكذلك أسلحة الحروب. وفي الباب الخامس والأخير «التأثيرات المتصلة بتطور السيف الإسلامي» تحدث عن دور الهند في تنشيط تجارة السلاح مع البلدان الإسلامية، وأثر وصول العرب المسلمين إلى الهند وأرمينية الصغرى واتصالهم ببيزنطية والأتراك وغيرها من البلدان الأوروبية على تطور صناع السيف الإسلامي، كما لم يفته أن يتناول تأثير المسلمين على هذه البلدان، كذلك فقد ترك الإسلام أثره على كل مظاهر الحياة في هذه الإمبراطوريات التي جاورته واحتكت به وتواصلت معه وتصارعت، وقد تضمن هذا التأثير السلاح بعامة، والسيف بخاصة. وفي خاتمة الكتاب أدرج مجموعة من الملاحق تناول في الأول منها غمد السيف، وفي الثاني مجموعة السيوف الأوروبية التي تضمنت في نصالها نقوشاً عربية، وأخيرًا مصطلحات عن السيف، ومثلت مجموعة الصور والرسوم إضافة قيمة للكتاب، ولا يفوتني في نهاية هذا العرض المختصر إلا أن أشيد بالكتاب والدراسة، وما قامت عليه من مصادر علمية رصينة، ومادة أولية ومخطوطات وكتابات رحالة، فقد بذل الباحث جهدًا عظيمًا في سبيل إخراج الدراسة بهذا الشكل، الأمر الذي جعلها بحق منذ صدورها في خمسينات القرن العشرين دراسة فريدة في مجال السلاح في العالم الإسلامي بعامة، وفي مجال السيف وتطوره وأشكاله بخاصة، وكذلك إضافة للمكتبة الفنية للفن في الحضارة الإسلامية. * صحافي وأكاديمي مصري