تعتبر إسطنبول واحدة من أجمل مدن العالم حيث تزاوج بين آسيا وأوروبا على أرض يفوح منها عبق الحضارات المختلفة، وتستمد تلك الفاتنة المطلة على ضفاف بحر مرمرة جمالها من مساجدها التاريخية وقصورها ومعالمها الأثرية. عندما تتجول في إسطنبول وتزور متاحفها تشعر بالدهشة التي يخالطها الشك أحيانا، فحينما ترى العمامة المنسوبة لسيدنا يوسف والعصا المنسوبة لسيدنا موسى، والسيوف والبردة المنسوبة للرسول وكذلك مقتنيات الخلفاء الراشدين، يتملكك شعور غريب تتخالط فيه قدسية تلك المقتنيات بالحيرة النابعة من الشكوك والأوهام التي قد تنتابك في بعض اللحظات، لتصحو على مرارة الألم وأنت تتساءل: هل تم استغلال آثارنا في المملكة بالشكل المطلوب؟ وهل تم الاستفادة منها لدعم الحركة السياحية والاقتصادية والتعريف بحضارتنا الضاربة في أعماق التاريخ. يزداد الألم عندما ترى تشبث البلدان الأخرى بكل قطعة أثرية حتى وإن كانت مثارا للريبة أو مجلوبة من أقصى بقاع الأرض، في حين أنك تجد بعض الباحثين في مملكتنا الغالية لا يتوانون في العبث بمقدرات الوطن ومصادرة إرثنا الحضاري والتاريخي بسهولة كما فعل الدكتور عبدالرحمن الأنصاري عندما شكك في وجود الأخدود المذكور في القرآن في منطقة نجران، وقام بمصادرته إلى الشام بسهولة فائقة. عظمة التاريخ نعود إلى سحر اسطنبول، بعيدا عن تلك التساؤلات المؤلمة، ونحاول أن نلخص عظمة التاريخ من خلال زيارة متحف «طوب كابي» الذي يعتبر من أشهر معالم اسطنبول السياحية، ويستطيع السائح بقليل من الليرات التوغل في عالم كان سر الأسرار ذات يوم، ومقر الحكام العثمانيين، ومكانا كانت تنطلق منه قرارات من شأن بعضها أن يغير سياسة العالم. واحتضن «طوب كابي» سلاطين بني عثمان منذ محمد الثاني وحتى السلطان عبدالمجيد وتوسع القصر وامتلأ بالتحف والذكريات ماجعله أشبه بسجل لتاريخ تلك الإمبراطورية القوية. الأمانات المقدسة أمر السلطان محمد الفاتح بإنشاء جناح الأمانات المقدسة بين عامي 1474 و1478م، في قصر «طوب كابي»، وقد توافرت أمانات عديدة مع اتساع وامتداد الامبراطورية على الأرض وفي الزمن. كان السلطان أحمد الأول هو أول من فكر ووضع الصندوق الذي يحتوي على بردة النبي فوق كرسي العرش متبركا بها وهكذا ظل الحال حتى غادر السلطان محمود الثاني قصر «طوب كابي» نهائيا وأمر بتخصيص القصر بالكامل ليكون متحفا لحفظ الأمانات المقدسة. في الزاوية اليسرى من الغرفة الخاصة غرفة العرش سابقا توجد شبكة الأمانات المقدسة التي تحتل أمانات الرسول عرش الإمبراطورية وغرفة الحكم التي كانت تدار منها مصائر شعوب ودول عديدة. في هذه الشبكة يوجد صندوق من الذهب منقوش بالآيات القرآنية والزخارف البديعة أمر بصنعه السلطان عبدالعزيز كوعاء يحفظ فيه صندوق أصغر من الذهب أيضا هو الذي يضم بداخله البردة النبوية الشريفة، أما البردة نفسها فقد وضعت في حافظة من الحرير مطرزة تطريزا رائعا، وهذه البردة هي التي أهداها النبي للشاعر كعب بن زهير بعد أن ألقى في حضرة الرسول قصيدته «بانت سعاد» الشهيرة وسميت بقصيدة البردة، وانتقلت البردة كما يشير بعض مسؤولي المتحف من الأمويين بعد زوال ملكهم إلى العباسيين ثم انتقلت إلى مصر مع آخر الخلفاء العباسيين، وعندما فتح السلطان سليم مصر تسلم البردة النبوية في العاشر من فبراير 1517م مع باقي الأمانات المقدسة وحملها معه جميعا إلى قصر «طوب كابي». ومن الأمانات أيضا العلم النبوي الشريف الذي يحفظ داخل صندوق من الذهب، ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الروم وكذلك رسالته التي بعث بها إلى المقوقس ملك الأقباط وملك مصر سنة 627م والتي أمر السلطان عبدالمجيد بحفظها داخل إطار من الذهب وصنع لها أيضا صندوقا من الذهب المزخرف بحليات رائعة، وقد كتبت الرسالة على الجلد. وتتضمن الأمانات المقدسة 21 سيفا من سيوف الخلفاء والصحابة في مقدمتها سيفان منسوبان للنبي موضوعان على حشية من المخمل الأزرق فوق صندوق من الفضة المزخرفة. وتحتوي الأمانات المقدسة على خاتم النبي المصنوع من العقيق وهو بيضاوي الشكل ومنقوش عليه عبارة «محمد رسول الله» ويضم المتحف جزءا من أحد أسنان النبي في داخل محفظة على شكل علبة فضية مزخرفة، وهي السن التي انكسرت أثناء موقعة أحد. وإلى جانب أمانات الرسول توجد بعض الأمانات الخاصة بالكعبة المشرفة، فيوجد مفتاحا الكعبة والقفل وكلها من الفضة، وكذلك توجد ستارتان مأخوذتان من غطاء الكعبة تزينان جدران الغرفة الخاصة وعليهما نجد آيات قرآنية. ويوجد في المتحف سيوف تنسب إلى كل من أبو بكر الصديق، عمر بن الخطاب، عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، زين العابدين، الزبير بن العوام، الحسن بن علي، جعفر الطيار، خالد بن الوليد، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم. ويشتمل المتحف على طنجرة يقال أنها لسيدنا إبراهيم عليه السلام، وعصى تنسب إلى سيدنا موسى عليه السلام، وعمامة وقميص تنسبان إلى سيدنا يوسف وحجر عليه أثر قدم الرسول الشريفة. الجوامع تتميز اسطنبول بكثرة مساجدها التاريخية، حيث يبلغ عددها 449 جامعا في القسم الأوروبي و 144جامعا في القسم الآسيوي فضلا عن 4 جوامع في الجزر، وتتزين جوامع اسطنبول بالقباب العديدة والمآذن الشامخة فضلا عن الزخرفة التي تغطي الجدران والأسقف من الداخل. ومن أشهر مساجد اسطنبول التاريخية جامع السلطان أحمد الذي أمر ببنائه بعد توليه السلطة إثر وفاة السلطان العثماني مراد الثالث عام 1603م، حيث اشترى قطعة أرض كبيرة بمبلغ ضخم من صاحبها، بعد أن أعجبه فيها قربها من قصر الخلافة «طوب كابي» وإشرافها الرائع على البحر، وكلف أشهر مهندسي عصره المهندس محمد آغا، الذي تلقى تدريبه على يد أكبر بناء في التاريخ الإسلامي العثماني (سنان باشا) وعلى يد المهندس الكبير (داود آغا) وأمره أن يضع بين يديه تصوراته الفنية الممكنة لهذا العمل الفريد المتميز، وكان المهندس محمد آغا يتقن الموسيقى بدرجة عالية من المهارة، مما كان له أثر واضح في رقة أعماله وجمالها وتناسقها. 6 مآذن شاهقة أراد السلطان أحمد أن يبالغ في تعظيم شأن مسجده فأمر المهندس أن يصمم له ست مآذن تناطح السحاب، وكإشارة منه على تواضعه أمام بيت الله الحرام في مكةالمكرمة الذي كانت فيه ست مآذن حينذاك ورغبة منه في أن تمييز الحرم المكي، فقد أمر أن يضاف إلى مآذن المسجد الحرام البديعة مئذنة سابعة هدية منه لبيت الله الحرام، كما أمر بكسوة الكعبة بصفائح من الذهب، وركب لسطح الكعبة ميزابا من الذهب وأحاط أعمدة الحرم بحلقات مذهبة، ورمم جميع قباب المسجد الحرام وعددها آنذاك 260 قبة. بدأ العمل في مسجد السلطان أحمد في اسطنبول عام 1609م، واستمر طيلة سبع سنين إلى أن انتهى وافتتح عام 1616م، قبيل وفاة السلطان أحمد بعام واحد، وأصبح معلما من معالم العمارة الإسلامية، يلوح في الأفق بمآذنه الرشيقة، على ضفاف بحر مرمرة أو مضيق البوسفور، ويعتبر أوسع جوامع اسطنبول الإسلامية، وأرحب ما أنشئ من المساجد السلطانية وأكثرها مآذن.