"الخط العربي في العمارة: الكتابات في الآثار الاسلامية في مدينة طرابلس أيام المماليك" هو عنوان الكتاب الذي أصدرته أخيراً في بيروت، المؤسسة الوطنية للتراث وجمعية المحافظة على آثار طرابلس والمؤسسة العربية للثقافة والفنون، باشراف المهندس أمين البزري وتنسيق فائقة سباعي عويضة وتصوير بهاء الدين الرفاعي ودعم وزارة الثقافة والتعليم العالي. وهو ثمرة تضافر تلك الجهود التي مسحت الغبار عن الكتابات القديمة، فجمعت حولها أهل العلم والاختصاص من مؤرخين وآثاريين ومعماريين، وقد شاركوا في أبحاثهم ودراساتهم ورصدوا الكتابات التي تزين العمائر المملوكية، كآثار حية لشواهد حضارية ماثلة للعيان. قدّم الباحث طريف الخالدي للكتاب بالقول: "طرابلس - تريبولس باليونانية - ليست مدينة بل ثلاث مدن. أيجب أن نفهم هذا الاسم بمعناه الحرفي أو كاستعارة او إطراء قديم لمدينة - مرفأ على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، لمدينة تعج بالحياة وتتعدد فيها الأعراق والثقافات وتقبع جذورها تائهة في متاهات الزمن؟ واستنتج من أقوال الرحالة اليونان والعرب على السواء، بأن طرابلس هي مدينة برلمانية ومركز حج وحدائق محصنة بأسوار، يعكس تاريخها تعدد ثقافاتها على مر العصور". وأهمية الحقبة المملوكية فسّرتها الباحثة حياة سلام ليبيش، وهي وثقت للنهضة العمرانية التي شهدتها طرابلس أيام المماليك. ولم تزل المدينة الشمالية حتى اليوم تضم زهاء 53 معلماً أثرياً مملوكياً تتميز في كونها مأهولة وغير مهجورة. وهي عبارة عن 9 مساجد و16 مدرسة و3 حمامات و5 خانات وضريح واحد وسبيل ماء وخانقاه وتكية مولوية. فالمدينة هي الوحيدة بين المدن العربية التي شيدها المماليك كلها، وهي الشاهد الوحيد على مدينة اسلامية من القرنين الرابع عشر والخامس عشر ميلادي. وقد حالفنا الحظ لكون هذه المعالم تزخر بالنقوش والكتابات والخطوط الغنية بالزخارف والتي تحمل في طياتها ثروة من المعلومات. تلك المعلومات التي فصلها الباحث عبدالسلام تدمري في طريقة علمية، وصنفها في مرحلتين. يقول إن التجربة التأريخية الأولى للخطوط على عمارة طرابلس لا تعدو اثبات دورها التسجيلي والتوثيقي للمبنى من دون الاهتمام بالنواحي الجمالية والاغراق في التزيين والزخرفة والاشكال الهندسية والمنمنمات. وذلك حتى القرن الرابع عشر ميلادي، أما في المرحلة الثانية في العهد المملوكي - عند الأميرين سيف الدين قرطاي وسيف الدين ضينال - فقد أخذ الخط يحتل حيزاً أكبر في عمارتها ويؤدي دوراً أساسياً في التزيين، بعد أن كان دوره تأريخياً فحسب. وتتنوع في هذه المرحلة أشكال الخطوط وأنواعها، كالنسخي المملوكي وخط التعليق والكوفي المزهر، كما تتعدد وظائف تلك الكتابات المبهرة للبصر بتعدد مضامينها: من نصوص قرآنية كريمة الى نصوص من الأحاديث النبوية الشريفة الى لفظ ذكر الجلالة والنبي صلعم والخلفاء الراشدين والصحابة المبشرين بالجنة ثم تسجيل وقفية الضريح. ويستهل الشاعر والناقد سمير الصايغ الفصل الثاني من الكتاب بتحليل بنية الكتابة نفسها، من خلال التمييز بين الخط كفن والكتابة كوسيلة لغوية، وقد توقف حول تلك الاشكالية ليعكس السمات الخاصة بالخط في الفترة المملوكية فيقول بأن تقدم خط الثلث وخط النسخ على الخط الكوفي في الفترة المملوكية لا يعود الى تلك الفترة وحدها، بل يمكننا ملاحظة هذا التقدم في فترات سابقة وفي أماكن متعددة. وعندما يتوقف المرء ملياً عند المنعطف المثير الذي أسسه له ابن مقله وتبعه من بعده كبار الخطاطين أمثال ابن البواب وياقوت المستعصمي، نجد أن تقدم الثلث والنسخ على الكوفي في الآثار المملوكية نتيجة طبيعية. ثم يخلص الى القول بأن تقدم الكوفي المربع سمح بظهور تآليف متناهية الدقة في تقنية التعشيق على الرخام بألوانه المتعددة والمتفاوتة بين الأحمر والأسود والأحمر والأخضر. فكان انجازاً فنياً ظل متبعاً في فن العمارة حتى العصور المتأخرة. هكذا نستطيع أن نفهم بروز "الحِلية" التي تشكل واحدة من سمات الخط في الفترة المملوكية. تلك السمات التي تعيدنا الى المنطلقات الأولى للفن الاسلامي حيث يبدو الزمان بلا أوقات والمكان بلا حدود. أما الباحثة هويدا الحارثي فدرست أنواع الكتابات في طرابلس المملوكية. ووجدت ان الكتابات المعمارية، مع وصول المماليك الى السلطة العام 1260، كانت أصبحت طريقة تقليدية للتواصل البصري. من أبرز الشواهد الماثلة في أروع تجلياتها نقوش مسجد قبة الصخرة 691 ه. غير أن الكتابات التي تعود الى العصر المملوكي في طرابلس تستمد جذورها من التقليد الفاطمي في القاهرة، مع أوجه من الخصوصية. وقد قسمتها الحارثي وفقاً لمواضيعها الى فئات أساسية. هي النصوص القرآنية والنصوص المتعلقة بالوقفيات وكتابات التأسيس وشعارات الأمراء المؤسسين وتوقيع الفنانين. وختمت بالقول عندما نقارن آثار طرابلس بنظيرتها في القاهرة نجد أن الوقفيات في عاصمة المماليك تضطلع بدور هامشي وتأتي غنية بالدلالات السياسية. في حين أن العكس صحيح في طرابلس. وفي العموم تتميز الكتابات في العصر المملوكي بأنها مفعمة بالمعاني ومصممة ببساطة لكي تقرأ. وتساءل الباحث عمر عبدالعزيز حلاج عن موقع تلك الكتابات بالنسبة للمتلقي. وعن امكانات التأويل المتاحة ولا سيما ان موقع النص من المبنى يحمل قيماً رمزية، مثل بعض الرموز التي ضمّنها الفاطميون نقوشهم في القاهرة. والصوت المسموع شكل في الماضي عمل المضمون الرمزي للنص. لذلك يجب اليوم عند تأويل هذه الكتابات أن نأخذ في الاعتبار التغيير الكبير لدور الشفاهية في المجتمعات الحديثة. وتحدث الباحث هشام نشابة عن تلازم دور المدارس والأوقاف في طرابلس ايام المماليك. ونوه بدور الاوقاف كمورد اساسي كانت تنتفع منه المدارس والجوامع مما ادى الى تشجيع العلم وتكاثر عدد العلماء والأئمة والفقهاء. وقد أحصى من بين المدارس المملوكية، اثنتي عشرة مدرسة ما زالت باقية، واربع مدارس زالت معالمها. ولعل اقدمها المدرسة الرفاعية والمدرسة العمرية ومدرسة العطار. تضاف اليها المدارس التابعة للجوامع التي بنيت في عهد المماليك، وهي لا تقل اهمية عن المدارس المستقلة. وابرزها المدرسة البرطاسية التابعة لجامع البرطاسي. وتوقف الكاتب والباحث خالد زيادة عند الكتابات الوقفية وبُعدها الاقتصادي والاجتماعي، معتبراً ان نظام الوقف او الاحباس، هو حيز ما يبيّن الصلة بين التراث الفقهي والتراث العمراني في المدينة. ولا شك في ان مبدأ الوقف يرجع الى الحديث الشريف: اذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث: صدقة جارية وعلم يُنتفع به وولد صالح يدعو له. وقد عمل الفقهاء على تحرير احكام الوقف مع توسع العمل فيه وارتباط عمران المدينة ومصالحها به، حتى بات نظاماً متكاملاً من الحقوق والمصالح، بحيث ان اتساع النشاط الاقتصادي ونمو العمران وازدهار العلم، انما يفهم على ضوء هذا النظام. وضمن فصل صيانة الكتابات وتصنيفها، اعتبر الباحث حسان سلامة سركيس بأن عصر المماليك هو عصر طرابلس الذهبي، الذي اضحت فيه المدينة عاصمة اقليمية رئىسة ومقر نيابة للسلطنة. وقد تطرق سركيس في دراسته الى طرق الترميم ودوره في الحفاظ على الذاكرة التراثية، الى معضلة خطيرة ظهرت في الترميم الخاطئ للأبنية الاثرية، الذي يقوم على كشط الجدران المبنية بالحجر الرملي. ومن مواصفات الحجر الرملي اتساع مسامه التي تسهم بتسرب الرطوبة الى داخل البناء وتساعد على تعشش الطحالب فيه. وقد غاب عن الاذهان ان الابنية التي خلفتها الحضارات القديمة كانت في ايامها مكسوة بكسوة طينية او جصية ملونة أسهمت في الحفاظ على الحجر حتى عصرنا الحديث الذي اخذت تكتنفه حملات التشويه. والكسوة امر تثبته النصوص القديمة. واذا كان كشط جدران الابنية التاريخية مؤذٍ، فهو اشد ايذاءً في الابنية الدينية، لأن ينزع عنها ميزتها الرمزية. فالبناء الديني صورة مصغرة عن الكون، تراه متشحاً برمزية النور. وهي رمزية تزول بزوال الكسوة البيضاء التي تغلف جدرانه من الداخل. وصنف الباحث روبير صليبا انواع الكتابات التي اشتملت عليها آثار طرابلس المملوكية، فوجدها تختلف باختلاف العناصر المعمارية وهي تأخذ اشكالاً هندسية متنوعة. معظمها كتابات غنية بالألقاب والمدائح حين تتعلق بالتأسيس والترميم، اما الكتابات الاكثر تواتراً فهي النصوص الوقفية والمراسيم المنقوشة وتواقيع المشرفين والبنائين والمهندسين والحرفيين، فضلاً عن كتابات التبرع. والاخيرة من ابرز شواهدها المنبر والغطاء الرخامي لمحراب الجامع المنصوري الكبير. ويتضمن الفصل الخامس خريطة بالأبنية الاثرية المملوكية وهي تحمل الترقيم الذي وضعته منظمة الاونسكو. مع ثبت بالجوامع والمدارس ومواقعها ومن ابرز الجوامع المملوكية نذكر: الجامع المنصوري الكبير الذي بناه السلطان قلاوون وجامع العطار ومسجد عبدالواحد وجامع البرطاسي وجامع التوبة وجامع طينال، اما المدارس فذكر منها: المدرسة الفرطاوية والناصرية والطواسية والظاهرية والسقرقية والخاتونية. ذلك فضلاً عن الابنية المزينة وابرزها قصر الطنطاش ولوحات القبور واهمها لوحة قبر عزالدين ايبك. ويكاد يكون هذا الفصل هو مركز ثقل الكتاب، وقد وثقه وأرشفه كل من راوية مجذوب بركة ووسيم ناغي وشوقي فتفت، عبر عرض الكتابات والنقوش مع شروحات علمية وتوثيقية مرافقة لصور الجوامع والمدارس والابنية الاثرية. في اسلوب من العرض، يترافق فيه النص مع الصورة والكتابة مع التفسير. مما يعكس مدى ايلاء الصورة الفوتوغرافية اهميتها كشاهد جمالي حي عن حاضرة المدينة التاريخية.