عشية الحادثة الكونية الاخيرة التي هزّت العالم كان المشهد العالمي تتقاسمه أصوليتان: الاصولية الاميركية، قائدة البشرية نحو عقيدة واحدة، هي عقيدة الربح الخالص. والاصولية الاسلامية التي لا ترى صلاحاً للبشرية بغير التزامها بعقيدة، واحدة أيضا، وضعت لها القواعد والشروح، وأفتت بطبيعتها. والعلاقة بين النمطين لم تبدأ بالعداوة: فبطل الاصولية الثانية، بن لادن، له مع الاصولية الاولى قصة ذات دلالة: كان في ظل الاحتلال السوفياتي لأفغانستان حليفاً للمخابرات الاميركية ومتعاملاً معها. وبُعيد حرب الخليج مباشرة، أخذ سبيل العداء السافر لها... ورث الاصولية الخمينية التي خمدت قليلا بعد هذه الحرب، وتعززت عداوته، لأنها كانت ذات وظيفة: فبعد ان تكرست اميركا سيدة للعالم بلا منازع، احتاجت الى عدو، يضفي على جاذبيتها الامبريالية بريقاً أخلاقياً يعوّض عن إختفاء الاخلاق في سياستها، الخارجية خصوصا. فوجدت في الاسلام السياسي الاصولي ضالتها. وهو بالمقابل كان يتغذى بعنفها ويستغل تكنولوجيتها، و يُملي وظيفة العدو بامتياز. فكلما صار واضحاً بأن الاصولية الاميركية تكسب ميدانا، كانت الاصولية الاسلامية لها بالمرصاد، تحلّل وتحرّم وتفتي، فتقوى أكثر وأكثر. بل خرج كتاب أميركيون بعد حرب الخليج بخمس سنوات بما يفيد أن العولمة لا بد وأن تترافق مع صعود الحركات والمجموعات "الدينية والاثنية". وكان عنوان أشهر هذه الكتب "ماكدونالد وجهاً لوجه Versus مع الجهاد". إمبريالية واحدة إذن، هي أميركا، لا ينافسها أحد، زادت اصوليتها منذ ان انتخبت جورج بوش رئيسا، او بالاحرى كانت سبباً في مجيئه. فانغلقت على نفسها ومصالحها وألغت إتفاقات كانت أبرمتها مع بقية العالم، فكثرت الاخطار التي تسببت بها. وتصاعد الاصولية الاميركية أصاب العالم العربي مرتين: مرة لأنه جزء من هذا العالم المتضرر، وأخرى لأن هذا التصاعد أفلتَ أيدي اسرائيل ونيرانها على الفلسطينيين، فعادت الاصولية الاسلامية لتحتل صدارة المشهد: رصيدها الرئيسي هو الموت انتحاراً. فهي لا تخاف. بل كلما أتتها ضربة، هدر صوتها متوعداً اميركا: من انها سوف تضربها في عقر دارها، وتضرب مصالحها، ومن ان أميركا لن تعرف من أين تأتيها الضربة... وإلى الصوت الهادر هذا، انضمت جوقةٌ مؤلفة من أنظمة الموت ومن مجموعات يذهب القاعديون منهم اليها بفرحة الموعود بالجنة، ومن كتّاب ومثقفين بؤساء سلموا له، أي الموت، منذ زمن. انها جوقة تكرّر التهديد للمصالح الاميركية، ترنو الى المزيد من "الحدة"، بل تتعاطى مع "الحدة" هذه بصفتها دليلها النظري لمعركتها مع العدوان. كان هذا قبل الحدث الكوني الذي هز العالم. بعد ذلك وجدنا أنفسنا كلنا، أصوليين وغير أصوليين، نرد التهمة التي ألصقت بنا منذ اللحظات الاولى للحدث. فصرنا ننفيها عن أنفسنا بلا طائل... فشُحنت بذلك آلة الخوف بالطاقة الكافية لإصابة غالبيتنا بحالة مرََضية من البارانويا أو عقدة الاضطهاد: أكنا من سكان القاهرة أو بوسطن، عمان أو نيويورك، باريس أو بيروت. ودخلنا بذلك في المزيد من دهاليز الخوف الجهنمي، فلم يعد يهنأ لنا بال بغير جرعات إضافية منه... لنعود مظلومين اكثر مما كنا. ضحايا أكثر مما كنا. تفترسنا كل واحدة من الاصوليتين في المجال الذي تطاله من ذواتنا. وينتهي بنا الأمر بأن نتلطّأ خلف واحدة منهما، حفاظً على الحد المتبقي من طاقتنا. علينا الآن ان نوقف نزيف الخوف هذا. والحادثة الكونية الاخيرة يجب ان تكون مرآتنا، كما كانت مرآة الاصوليتين. فشراستنا اللفظية ذات المنبت الاصولي اللينيني، والتي فسرها العديدون على انها تعويض عن ضعف صميمي، أعادتها الحادثة الكونية الى الارض السفلية للواقع. وذلك بعدما كانت محلقة فوق، في الفضاء، تهدد وتتوعد وتهدر. والخطابة هذه تقف اليوم امام مسؤوليتها: فإما ان التهديدات المباشرة للمصالح الاميركية كانت صادقة وبريئة، فأتت أقوالها من غير حساب لذيولها. و في هذه الحالة، نكون سلمنا القيادة لأبطال تراجيديين، لا يحسنون غير الاعمال المفضية مباشرة الى الموت المعمّ، وإما ان اصحاب التهديدات يلمّون بهذه الذيول، لكنهم لا يودون ان يحسبوها لأن المستقبل غائب عن وجدانهم. فهم لا يقبلون أقل من قيادة هذه الامة. وسبيلهم الوحيد الى هذه القيادة تأجيج الخوف، وأرضه خصبة. وتمجيد الموت في روحها ووجدانها. وفي الحالين، فان هذه الخطابة سوف تكون الذريعة الذهبية، التي تستعيد بواسطتها الاصولية الاميركية شيئاً من الوهج الذي افتقدته بعد الحادثة الكونية. وتكون فرصة لها، لتضع لمسات إضافية على هيمنتها الامبريالية. فالتهمة كانت حاضرة منذ دوى أول انفجاراتها، والعقاب المتصوّر سوف يكون مرعبا. وهكذا نبقى على تاريخنا: إذ نكون قد أضَفنا الى هزائمنا السابقة، والتي ما زالت طرية، هزيمة أخرى جديدة نورثها لذريتنا... كل هذا لأننا شعوب مكابِرة في إحباطها: نقول عن أنفسنا إننا "مهزومون" بأطراف الشفاه، فيما اليأس متوغّل في أعماقنا. وعيُنا لهزيمتنا سطحي، وإحباطنا عميق. وحياتنا لا قيمة لها. لذلك نصغي للاصولية ونلبي نداءها للموت، البطيء منه والسريع... ويسهل علينا رمي الخائفين منا بال"الانهزامية" والخيانة" و"انعدام الوطنية". فغاب وعينا الدقيق بالهزيمة وسط الرطانة التهديدية و إغراءاتها البطولية. وعندما يغيب الوعي بالهزيمة، يغيب الوعي بالانتصار: فتتحول لحظة، مثل الحادثة الكونية، الى مناسبة للتشفّي. تتبعها "تظلمات"، ثم دهشة من ان العالم بأجمعه يتهمنا. فتتأكد النظرية الاصولية الاميركية، من ان الصراع القادم هو "صراع حضارات" بين إسلامية بدائية وأميركية مشعة بالانوار. فندفع الثمن من مستقبلنا . كل ذلك لأننا كنا عشية الحادثة لقمة سائغة في فم الاصوليتين، الاسلامية حيناً، الأميركية أحيانا. فغبنا حيث كان علينا ان نكون، ولم نحضر في المشهد العالمي الا بصفتنا مهدَّدين ومهدِّدين... مظلمومين وظالمين. فماذا فعلنا، مثلا، من اجل فهم الاصولية الاميركية والتعامل مع مترتبات سياستها الامبريالية؟ لا أثر لنا في الحركة المناهضة للعولمة. أما مساهمتنا في الحركة المؤيدة لها، فتقتصر على الإتيان برجال اعمال الى السلطة. لا حركات لدينا ولا مجموعات ولا تيارات. ولا حتى أشخاص، او أفراد محددين لهم نظرتهم أو رؤيتهم للزمن الجديد، فيما نحن غارقون في استهلاك ثقافته وقيمه وتقليد ألفاظه في الصالونات. وتائقون أيضا الى تبني أنماطه وطرق عيشه، ومتعاملون مع هيكلياته الجديدة ومثقلون بقروضه. ومع ذلك، ماذا أعطينا نحن العرب للبشرية من مساهمة لفهم العولمة، فحوى الاصولية الجديدة، ومن اقتراح في طرق التعامل معها؟ وهل يكفي ان نكون معادين لأميركا لكي نهزمها؟ ثم لماذا نريد ان نهزمها؟ هل لنا بدائل عنها؟ هل تطلعنا الى انفسنا جيدا؟ أما إذا أردنا منها مجرّد تأييد لحقوقنا العادلة، فهل يصح ان نهزمها؟ فلنتوقف عن التصفيق لزوار الموت الدائمين. و لننْصت الى نبض العالم. ولنسلم بأن اميركا هي الاقوى، وان أصوليتها هي المشترك الآن بيننا وبين الشعوب المتبقية. ولنتعاون مع هذه الشعوب لنتعلم العيش في ظلها بأقل الاضرار الممكنة وبالقدر الاكبر من الوعي لمصالحنا. فهيمنة اميركا وامبريالتها دورة من دورات التاريخ: سبقتها روما والفرس والفراعنة. بل سبقناها نحن. وفي جميع دورات السيطرة، لم تقاوم الشعوب المسيطَر عليها بالعمليات الانتحارية، بل بالحيوية المتدفقة من ثقافتها. وهذه مهمة تحتاج الى الاحتفال بالحياة، وليس الى التدثّر بأكفان الموت...