حتى عندما يتابع الواحد منا مباراة بين فريقين أوروبيين لا صلة له بأي منهما، فإنه يشعر بالفرح حين يأتي الهدف بتوقيع لاعب إفريقي، وفي مباراة فرنسا الأولى في المونديال طلبت من ابني أن يحسب لي كم لاعب من غير البيض في الفريق الفرنسي، حيث تبين أنهم ثمانية، بينما كانوا تسعة في أكثر مباريات المونديال السابق، من دون أن يغير ذلك في الموقف المنحاز ضد «منتخب الديوك» كما يسمونه تبعا لمواقف فرنسا من قضايانا، تحديدا خلال ولاية ساركوزي، لكن الحسبة كانت لمجرد التأكيد على أن فرنسا التي تمارس مختلف أشكال العنصرية بحق السود والملونين، لا تلبث أن تحتفل بالانتصارات التي يصنعونها، ما يذكر ببيت عنترة بن شداد في وصف حال قومه معه «ينادونني في السلم يا ابن زبيبة.. وعند اشتعال الحرب با ابن الأكارم». باستثناء بعض الأولاد الذين لا يدرون ما يفعلون، ويشجعون من باب الفانتازيا، وقلة أخرى من عشاق الكرة، فإن الغالبية الساحقة من الجماهير (العربية على وجه التحديد)، وكذلك حال الإسلامية وسائر أنحاء العالم، إنما يشجعون تبعًا لمواقف سياسية مسبقة من الدول المشاركة. على هذه الخلفية كنا دائمًا نشجع البرازيل، فيما نقف ضد الولاياتالمتحدة وأكثر الدول الأوروبية، بينما نصطف إلى جانب أي بلد إفريقي أو من العالم الثالث، فضلًا عن أن يكون عربيًا أو مسلمًا، مع العلم أن دول أمريكا اللاتينية كانت ولا تزال قريبة منا، الأمر الذي تعزز في السنوات الأخيرة، ولو شارك المنتخب التركي على سبيل المثال في هذا المونديال لكان الفريق الأول في العالم الإسلامي، وربما قنت البعض من أجله في الصلوات. هي إذن معارك ذات صلة واهية بفنون اللعبة، والاستمتاع بها. صحيح أن هذا البعد يبقى حاضرًا بشكل ما، لكنه يغيب تمامًا عندما يحضر الموقف السياسي، ولو قدم الفريق الذي نشجعه أسوأ العروض، ولم يصل شباك مرمى الخصم سوى مرة واحدة أسفرت عن هدف، ثم فاز في المباراة لما تغير موقفنا، ولقلنا إن خطة فريقنا الدفاعية كانت رائعة! في هذا السياق أعجبني ما نقله الكاتب السوري صيحي حديدي عن مقالة للروائي الأمريكي «بول أوستير» اعتبر فيها أن الرياضة هي «البديل عن سفك الدماء في الحروب الكونية»، والأهلية بالضرورة، وأنها «معجزة الأمم الأوروبية في ممارسة كراهية الآخر دون الاضطرار لتمزيق أوصاله في ساحة قتال»، وأن «الذاكرة الخفية لتناحرات الماضي تخيم على كل مباراة، وكلما سُجّل هدف ترددت أصداء الانتصارات والهزائم القديمة». هذه الظاهرة هي جزء من تجليات الدولة القومية بطبعتها الحديثة، والتي أعلت من شأن الشعور القومي، لكنها أيضا جزء لا يتجزأ من الحساسيات العرقية والطائفية في الداخل أيضًا، وقد أثبت استطلاع للرأي أجري مؤخرا أن غالبية مواطني اسكتلندا، وهم بريطانيون يتوزعون بين من يتمنى هزيمة إنجلترا، وبين من لا يكترث، وقلة هم من كانوا معنيين بفوزها، وبالطبع بسبب الحساسيات المذكورة. بالنسبة لنا نحن العرب يبدو الأمر أكثر صعوبة بكثير، فنحن شعوب معجونة بالسياسة، وهي تعيشها في الملاعب وفي الأندية وفي كل مكان، فعندما حُظرت جبهة الإنقاذ في الجزائر وزج بقادتها في السجون، كان المشجعون في المباريات يهتفون «يا علي ويا عباس... الجبهة راهي لا باس»، أي يا علي بن حاج ويا عباس مدني، الجبهة بخير. لكن الموقف يبدو أكثر قوة عندما تكون المعركة مع بعض أعداء الأمة أو ألد أعدائها، وكم كانت الفرحة كبيرة عندما تعادلت الجزائر مع بريطانيا، مقابل الخيبة عندما هزمت أمام سلوفينيا، وبشكل أسوأ عندما هزمت في الدقيقة الأخيرة أمام الولاياتالمتحدة. وقد فرحنا ومعنا الكثيرون عندما هزمت أمريكا أمام غانا الإفريقية، وإنجلترا أمام ألمانيا. هي السياسة إذن، وهي الثارات وهي الحروب تنفس عن مخزونها في ملاعب الكرة، لكنها لن تغني تمامًا عن الحروب التقليدية عندما تستدعي المصالح الإمبريالية ذلك، بدليل أكثر من 300 ألف جندي أمريكي وغربي يعيشون بين ظهراني المسلمين محتلين في هذه اللحظة، فضلًا عن احتلال الصهاينة لبلد بأكمله وتشريد جزء كبير من أهله، واستمرار التنكيل بمن تبقى منهم.