بقدر ما ينحو النظام الامبراطوري نحو المزيد من الإقصاء والإخضاع والاستبعاد جراء تحولاته الجارية، فإن من سيكونون عرضة لهذا التهديد سينتجون النقيض المباشر لمثل هذه التحولات والردود العنيفة عليها. حملت المتغيرات العالمية التي تتالت متسارعة منذ الثلث الأخير من القرن العشرين أعراضاً تاريخية وسياسية هامة. من بينها صعود حركات أصولية عديدة، اتخذ بعضها من الدين مسلكاً لتحقيق أغراضه السياسية، وبعضها الآخر التحف عباءة مختلف الدعوات الإيديولوجية الراديكالية الأخرى، سواء يسارية كانت أم يمينية. لكن الملاحظ في الخطاب الجيوسياسي لمفكري النظام الإمبراطوري الجديد هو تركيزهم على إبراز الأصوليات بوصفها الخطر الأول الذي يتربص بالحكم الإمبراطوري، من منطلق عدائها لنمط وأسلوب حياة النظام الأمريكي. وفي هذا السياق يركز منظرو "نهاية التاريخ" و"صراع الحضارات" على الأصولية الإسلامية، ويقصدون بها كل حركات ومنظمات الإسلام السياسي، التي يصورونها كتهديد دائم للعالم الحرّ، عالم المثل والخير. وهنالك تحليل يفيد بان الأصوليات عموماً على اختلاف انتماءاتها، إسلامية كانت أم مسيحية أم يهودية أم سواها، هي تعبير عن حركات معادية للحداثة وقيمها، كونها جميعاً ترفض التحديث، وتشكل حركات تمردّ، أو ردات فعل لهويات وقيم أولية وماضوية، وبالتالي هي نوع من التدفق التاريخي نحو الماضي السحيق، أي هي مجرد حركات ارتداد ونكوص. لكن مثل هذا التحليل يفتقد إلى رؤية متغيرات العالم كما هي متحققة بالفعل، ويستند إلى رؤية إيديولوجية متحيزة. وبالافتراق عن مثل هذه التحليلات، يذهب "مايكل هاردت" و "أنطونيو نيغري" في كتابهما الهام "الإمبراطورية" (دار العبيكان، الرياض، 2002) إلى اعتبار أن مختلف الأصوليات هي تعبير عن رفض شديد للمعبر التاريخي المعاصر الذي شهده العالم نحو إمبراطورية جديدة، ومختلف الإرهاصات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المرافقة له. بمعنى أن الأصوليات مثلها مثل نظريات ما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثة، ليست إلا عرضاً من أعراض المرور إلى الإمبراطورية الجديدة. لكن الدوائر المتنفذة التي صاغت الخطاب السياسي الأمريكي تختزل الأصولية ومختلف التشكيلات الاجتماعية والسياسية المنضوية تحت هذا العنوان إلى الأصولية الإسلامية، ثم تجري عليها عملية اختزال أخرى لتماهي ما بين الأصولية الإسلامية وبين "الإرهاب"، والذي يمكن - كمفهوم تمّت عولمته في أيامنا هذه- أن تضع تحت عنوانه مختلف الأشكال والألوان والدعوات المناهضة للحكم الإمبراطوري الجديد، حتى تغدو الأصولية الإسلامية فقط، مجرد تعصب ديني إرهابي متشدد، لا يعرف معنى التسامح، ولا يؤمن إلا بلغة العنف، فضلاً عن كونه يعادي الغرب قبل كل شيء. وفي هذا تزييف متعمد من قبل منظري هذا الخطاب الثقافوي الاختزالي، أمثال "برنارد لويس" و"فوكوياما" و"هنتغتون" وسواهم من منظري اليمين الأمريكي الصراعي، الذين ينهلون من منهل التمركز الغربي على الذات ومنتجاته المتمثلة بالاستشراق التاريخاني والأنثروبولوجي. إن حركات الإسلام السياسي المعاصرة شديدة الاختلاف والتنوع، وهي لا تمثل كتلة صلبة واحدة، بل تحمل متعارضات كثيرة فيما بينها. أما الأصولية الإسلامية فهي كذلك تحمل اختلافات وتباينات عديدة. وقد كانت النزعتان الإحيائية والإصلاحية، كما عهدهما الواقع العربي إبان القرن الثامن عشر والتاسع عشر، عربية التوجه، ولم تكن معادية للغرب الأوروبي في معظمها، بل كان همها النهوض القومي والخلاص من حالة الفوات والتخلف. ثم ظهر التشدد في بعض حركات الإسلام السياسي مع متغيرات القرن العشرين، لكن ظهوره يعود إلى ممارسات وأسباب داخلية بالدرجة الأولى، تتعلق بظروف وأوضاع البلدان العربية والإسلامية، وخارجية تتعلق بالممارسات الاستعمارية والمتغيرات الدولية الحاصلة. حيث أن فقدان الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وفقدان مختلف أشكال التعبير الحر، وسيطرة العسكر على مقاليد الحكم، وفشل برامج التنمية ومشاريع التحديث، وتردي الأوضاع المعيشية لغالبية البشر، وأسباب كثيرة غيرها. كل ذلك ساهم في بروز حركات متشددة، إسلامية وغيرها. لكن الحديث عن "الأصولية الإسلامية" لا ينفي أن العالم المعاصر شهد صعود أصوليات مسيحية في الغرب، وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية خصوصاً، وكانت في مجملها تعبيرا عن رفض التحديث الاجتماعي، وزيادة على ذلك، تحمل هذه الحركات الأصولية المسيحية عنصرية مميزة، تقوم على أفكار تفرّد وتفوق الرجل الأبيض والنقاء العنصري، إن حركات الأصولية الدينية، أياً كانت، تحمل بين طيات دعواتها، ليس فقط مجرد العودة إلى ماض تليد، أو عداء سافر للحداثة، وبالتالي فإن إرجاعها إلى مجرد مشروعات تنتمي إلى ما قبل الحداثة فيه كثير من الاختزال، كونها نشأت في لحظات العبور إلى ما بعد الحداثة، وهي تعدّ منتجاً من منتجات هيمنة العولمة الجديدة المميزة بهيمنة أمريكية على المجال الكوني. ووفق تحليل كهذا يعتبر الخطاب الإمبراطوري الجديد و الخطاب الأصولي الجديد وجهان لعملة واحدة، رغم كونهما على طرفي النقيض: هجنة مقابل نقاء، حركة ضد ركود. كذلك فإن التمركز الشديد للعولمة الجارية يفرز نقيضه على الدوام، فهذا النظام العالمي الجديد ينحو إلى المزيد من الحركة والقلق والهجنة. وبقدر ما ينحو هذا النظام نحو المزيد من الإقصاء والإخضاع والاستبعاد جراء تحولاته الجارية، فإن من سيكونون عرضة لهذا التهديد سينتجون النقيض المباشر لمثل هذه التحولات والردود العنيفة عليها.