كان الرئيس الأميركي جورج بوش الابن يتخذ موقفاً واقعياً من روسيا قبل أن ينتخب رئيساً، بمعنى انه كان ينوي أن يمشي على خطى كيسنجر ونيكسون من حيث الواقعية السياسية. وهي سياسة قائمة على موازين القوى. وكان بوش يعتقد أن الصين وروسيا هما من الدول الكبيرة التي يمكن أن تهدد مصالح الولاياتالمتحدة ولذلك ينبغي أن يحسب لهما الحساب. بمعنى ينبغي أن تعاملا طبقاً لموازين القوى من اجل احتوائهما واتقاء خطرهما أو شرهما إلى أقصى حد ممكن. وكان بوش المرشح يريد أن ينهي سياسة سلفه بيل كلينتون الذي بنى علاقات شخصية وحميمة تقريباً مع الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين. ومن وجهة نظره، فإن سياسة كلينتون فشلت وينبغي بالتالي أن تتبع أميركا سياسة أخرى. وأما كوندوليزا رايس،مستشارة الأمن القومي التي تم تعيينها لاحقا وزيرة للخارجية، فقالت آنذاك: بالطبع ينبغي على أميركا أن تعامل روسيا وكأنها لا تزال قوة عظمى، ولكن لا ينبغي التغاضي عن نواقص النظام الروسي كما فعل كلينتون. ومن بين هذه النواقص: المؤسسات الديموقراطية الضعيفة، والفساد الإداري، وعدم السير بالإصلاحات الاقتصادية إلى نهايتها. يضاف إلى ذلك بالطبع نقد السياسة الروسية المتبعة في بلاد الشيشان. فالرئيس بوتين يضرب بعنف هناك من اجل إرضاء الشعور القومي الروسي ولمّ الشعب حوله. هذه السياسة انتقدتها أميركا بشدة. ولكن بوش لم يطلق تصريحات عنيفة طيلة الشهور الأولى من حكمه ضد بوتين، وإنما ترك الأمر لوزارة الخارجية تتكفل به. وفي آذار مارس من العام 2001، أي بعد مضي ثلاثة أشهر فقط على وجوده في البيت الأبيض أمر بوش بطرد 15 دبلوماسياً روسياً من السفارة الروسية في واشنطن متهماً إياهم بالجاسوسية. ولكن كل شيء تغير بعد 11 أيلول سبتمبر، فسياسة بوش بعد هذا التاريخ أصبحت شيئاً آخر. إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عرف كيف ينتهز الفرصة ويلتفت إلى بوش فور وقوع الحادثة. وقد عبّر له عن تضامنه وتضامن الشعب الروسي مع أميركا. إن بوتين هو أول رئيس دولة يتصل هاتفياً بالرئيس الأميركي جورج بوش بعد تفجيرات 11 أيلول - سبتمبر بل وسبق في اتصاله رؤساء الدول الأخرى الحليفة والأكثر قرباً من الولاياتالمتحدة الأميركية.. وكان هذا يعود لأسباب عملية أولا إذا كان الكرملين والبيت الأبيض قد أقاما بينهما خطوط اتصال هاتفي مباشرة منذ عقد الستينيات الماضي وتمت المحافظة دائما على وسيلة الاتصال هذه . وكان لاتصال بوتين وقعه في نفس الرئيس الأميركي الذي هزّته الضربة. ثم لم يكتف بوتين بذلك، وإنما اتخذ عدة قرارات مهمة بتاريخ 24 أيلول - سبتمبر، أي بعد الحادثة بأسبوعين، وذلك لمساعدة الرئيس بوش، ومن بين هذه التدابير: تقوية العلاقات بين الاستخبارات الروسية والاستخبارات الأميركية، فتح المجال الجوي الروسي للطائرات الأميركية التي تقوم بنقل مساعدات إلى أفغانستان، إقناع دول آسيا الوسطى بالتعاون مع واشنطن عسكرياً لمحاصرة حكومة طالبان . وأضاف بوتين إلى كل ذلك مساعدة تحالف الشمال عسكرياً من اجل الهجوم على كابول . وقبل تفجيرات 11 أيلول - سبتمبر، كان بوش يستقبل أعضاء الحكومة الشيشانية المعارضة لموسكو والمشكّلة في المنفى. أو قل كان يترك أعضاء إدارته يستقبلونهم وأحيانا على مستويات رفيعة. ولكن بعد تلك التفجيرات أصبحت الأمور في اتجاه آخر. بل وضعت الإدارة الأميركية ثلاث منظمات فيها على قائمة المنظمات الإرهابية. وعندما زار احد قادة الشيشان واشنطن بعد تدمير مركز التجارة العالمي لم يقبل أي مسؤول أميركي باستقباله. وهكذا قدم بوش لصديقه بوتين هدية كبيرة. وكان مما قاله في صيف 2002 على هامش مؤتمر الدول الصناعية الكبرى: «إن الرئيس بوتين يتمتع بموقف صلب في الحرب الدائرة ضد الإرهاب. انه يفهم معنى الإرهاب ومدى التهديد الذي يشكله لعالمنا المعاصر وذلك لأنه يعيش في وسط الإرهاب وتحترق يداه به ويدفع ثمنه .. انه يفهم ما أفهمه ويحس بما أحس به أنا شخصياً. وهو يعلم علم اليقين بأنه لن يكون هناك سلام في هذا العالم ما لم ننتصر على الإرهاب .. ولهذا السبب فإني أرى في الرئيس بوتين حليفاً أساسيا في الحرب الدائرة حالياً ضد المنظمات الإرهابية التي ترعب الناس في كل مكان». وعلى الرغم من ذلك، فان السياسة الأميركية بعد 11 أيلول سبتمبر لم تنحز كليا إلى موسكو فيما يتعلق بالقضية الشيشانية، بل استمرت رسميا في نقد خياراتها . وعلى صعيد الرؤية الروسية الأساسية للعلاقة مع الولاياتالمتحدة، والغرب عموما، يمكن ملاحظة أن روسيا كانت دائماً مترددة بين خطين: الأول خط القوميين السلافيين والأرثوذكس المتشددين، وهو الخط الذي يحمل شعورا بالكراهية تجاه الغرب ويركز على شخصية روسياالشرقية المتميزة. والخط الثاني في روسيا يمثله الليبراليين المستغربين، الذين يريدون اللحاق بأوروبا بأي شكل. ولا تزال روسيا حتى هذه اللحظة مترددة بشأن الحسم بين هذين الخيارين. ولكن يبدو أن بوتين قد دفع نوعا ما باتجاه حسم الأمور لمصلحة الالتحاق بالغرب . والمعروف أن روسيا كانت من العام 1917 وحتى العام 1991 قد انتهجت الخط الشيوعي المضاد للغرب، ولكنه فشل في نهاية المطاف. وبالتالي فإن بوتين وجد نفسه في مواجهة هذه الحداثة الهجينة التي فشلت حتى الآن في إخراج البلاد من تخلفها الاقتصادي والسياسي بالقياس إلى دول الغرب المتقدمة. ويرى بوتين أن التجربة الشيوعية التي حاولت تحديث روسيا فشلت على الرغم من انه يرى فيها «بعض الفوائد» بالنسبة للبلاد، وأما محاولة يلتسين للتحديث فكانت مضادة للمحاولة الشيوعية، وقد كان مقدراً لها أن تنجح ولكن بثمن باهظ. وبالتالي فإن بوتين ينتقد محاولات التحديث التي شهدتها روسيا سابقاً ويسعى لاعتماد خط جديد، وهو يرى أن على روسيا أن تصبح بلداً رأسمالياً ملتحقاً بالمعسكر الغربي. ولكن ثمة اختلاف على الوسائل التي ينبغي اتباعها لتحقيق أهداف روسيا في التنمية والتطور واللحاق بركب الحضارة المعاصرة. والواقع أن التحديات التي واجهت بوتين منذ وصوله إلى السلطة في العام 2000 كانت كبيرة، فقد كان عليه أن يوقف الفوضى الليبرالية، أو الرأسمالية المتوحشة، التي اكتسحت البلاد في عهد يلتسين بعد سقوط النظام الشيوعي مباشرة في العام 1991، وحيث انتعشت المافيا كثيراً في البلاد آنئذ، وظهرت طبقة الأغنياء الجدد، والطفيليين المتحلقين حول يلتسين. التوفيق بين معادلتي الداخل والخارج وعلى صعيد تأثير البيئة الداخلية الروسية على العلاقات بين موسكووواشنطن، ساد اعتقاد في العاصمة الأميركية بأن القرار الذي اتخذه بوتين في أيلول - سبتمبر الماضي، والذي ينص على إيقاف العمل بنظام الاقتراع الشعبي المباشر عند انتخاب محافظي الولايات الروسية، وانتخاب البرلمان الروسي على أساس قوائم أسماء يمثل خطوة على طريق الاستبداد في روسيا. وعندها ذهب بعض المعلقين الأميركيين إلى القول إن بوتين يحاول فرض ديكتاتورية من الطراز القديم على الشعب الروسي مثل تلك التي فرضها فرديناند ماركوس، واناستاسيو سوموزا، وبارك تشنج (رئيس كوريا الجنوبية من 1936-1979) من قبله . إن إستراتيجية بوتين الرامية إلى بناء الدولة الروسية القوية التي وعد بها قد تمحورت كلها حول رفع القيود والرقابة المفروضة دستورياً على السلطات الرئاسية. وبذلك فقد انصرفت الإستراتيجية عن واجب تقوية وتعزيز فاعلية مؤسسات الدولة وأجهزتها. كما أخطأ بوتين خطأ فادحاً بمماثلته بين الديموقراطية والضعف، وبين مركزية السلطة وقوة الحكم. وبذلك فقد قوّض أي مصدر مستقل للسلطات، بدءاً بسلطة الصحافة القومية، ثم زحفه على تقويض السلطات التنفيذية في الأقاليم والجمهوريات، وصولا إلى انقضاضه على طبقة الأغنياء الروس. وضمن ذلك، أضعف بوتين سلطات وصلاحيات المجلس الفيدرالي، بصفته الهيئة البرلمانية العليا. كما أفلحت الحملة الانتخابية التي أجريت في كانون الأول ديسمبر من العام 2003، في تحويل مجلس النواب الأدنى، وكذلك مجلس «الدوما»، إلى مجرد أجهزة للبصم على قرارات الكرملين. وفي الاتجاه ذاته، فقد تم دفع الأحزاب السياسية المستقلة، ومنظمات المجتمع المدني، إلى هامش الحياة السياسية الروسية. وإن إعادة هيكلة الحياة السياسية في روسيا، لم تسفر عن ميلاد جهاز دولة أكثر قوة وفاعلية، بل تمخضت عن نظام هزيل، فاسد وغير مسؤول. ولعل أفضل ما يمكن أن يوصف به هذا النظام، هو أنه شمولية بلا سلطات. وطبقاً لذلك، فقد أصبحت حكومة بوتين نظاماً لحكم الفرد . ولما كانت روسيا تلك الدولة القارية الشاسعة المترامية الأطراف، المعقدة الواقع في آن، فما أشق المسؤولية وأكبر العبء على شخص واحد كي ينهض به منفرداً. وقد انتقدت الولاياتالمتحدة بصفة رسمية توجهات بوتين الجديدة هذه، وقال وزير الخارجية الأميركي كولن باول في منتصف أيلول - سبتمبر الماضي، إن لديه مخاوف بشأن التغييرات السياسية الكبيرة التي يجريها الرئيس الروسي. وقال باول في مقابلة مع رويترز : «هذا في الواقع تراجع عن بعض الإصلاحات الديموقراطية التي حدثت في السابق حسبما يرى المجتمع الدولي .. نتفهم الحاجة لمحاربة الإرهاب... لكن اعتقد انه خلال السعي لتعقب الإرهابيين على المرء أن يقيم توازنا لضمان عدم التحرك في اتجاه يأخذه بعيدا عن الإصلاحات الديموقراطية أو العملية الديموقراطية.. إن واشنطن ستثير الأمر مع موسكو» «في الأيام القادمة». أما المتحدث باسم الخارجية الأميركية ريتشارد باوتشر فقال في وقت متزامن أن «هذا يثير مشاعر قلق بشأن التوازن الصحيح والتقدم إلى الأمام وليس إلى الوراء على طريق الديموقراطية». و قد رفضت روسيا هذه الانتقادات، وقال سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي : «قبل كل شيء العملية الجارية في روسيا هي شأن داخلي». وقال : «انه شيء أقل ما نصفه به هو إنه غريب أن يتحدث (باول) عن قدر من التراجع، كما وصفه، في الإصلاحات الديموقراطية في روسيا الاتحادية ويحاول في نفس الوقت أن يؤكد مجددا اعتقاده بان الديموقراطية يجب أن تكون صورة طبق الأصل من صيغة ديموقراطية لشخص آخر. نحن من جانبنا على سبيل المثال لا نعلق على النظام الأميركي لانتخابات الرئاسة». خفض التسلح ومنع الانتشار النووي من جهة أخرى، تمثل قضية خفض التسلح ومنع الانتشار النووي ملفا رئيسا آخر في معادلة العلاقات الأميركية الروسية . وقد وقع الرئيسان بوش وبوتين في موسكو في الرابع والعشرين من أيار مايو من العام 2002 اتفاقية تاريخية لخفض ترسانة بلديهما النوويتين بمعدل الثلثين بحلول عام 2012 وتبنيا سلسلة إعلانات مشتركة حول تطوير العلاقات الاقتصادية وصفت بأنها شراكة من نوع جديد بين البلدين . وقال بوش بعد توقيع الاتفاق : «أنا مقتنع بأن هذا يخلق ظروفاً ملائمة من اجل تعاون عظيم لم يسبق أن قام بين بلدينا». ومن جانبه، أشاد بوتين «بالنوعية الجديدة» للشراكة بين روسياوالولاياتالمتحدة. ومن ناحية ثانية، تمكنت إدارة بوش من تبني مبادرة من شأنها تحسين مستوى أمن المواد النووية والمشعة في روسيا، وقد عرفت هذه المبادرة ب «مبادرة خفض الخطر الدولي»، وقد تم تبنيها في أيار مايو الماضي . وتقوم المبادرة المذكورة، على جهود أميركية- روسية مشتركة، للحد من انتشار الأسلحة النووية بين البلدين. وهي الجهود التي تمت بلورتها على أساس ما يعرف ببرنامج «Nunn-Lugar» للتعاون في مجال خفض الخطر النووي، وهو برنامج أميركي تموله الخزانة العامة الأميركية، وقد تم إنشاؤه خلال الحرب العالمية الثانية، بغرض تأمين ترسانة الأسلحة النووية الروسية. أما المبادرة النووية الجديدة التي قامت على أساسه، فتستهدف جمع مادتي البلوتونيوم واليورانيوم المخصب، القابلتين للتطوير والوصول إلى مرحلة جمع المواد النووية من مختلف أنحاء روسيا الواسعة، علاوة على تلك المنتشرة في عشرات الدول الأخرى، ثم حفظها في مكان آمن، مخصص لحفظ هذا النوع من المواد. وصحيح أن الولاياتالمتحدة، تمثل رادعاً نووياً لروسيا، بجعلها آلاف القطع والأسلحة النووية رهن إشارة الانطلاق في أي لحظة، بما في ذلك أوقات السلم العادية، بيد أن ذلك يرغم روسيا في المقابل على وضع أسلحتها النووية المنتشرة في مختلف أنحائها وجمهورياتها الشاسعة رهن إشارة الانطلاق في أية لحظة تقتضي شن حرب نووية واسعة النطاق ضد أميركا. وللإبقاء المستمر على قدرة الترسانة الروسية على الانطلاق في أية لحظة، فإن ذلك يطالبها بأن تظل في حالة مستديمة من نقل وترحيل قطعها النووية، من مناطق إعادة التصنيع إلى مواقع القواعد العسكرية المنتشرة على طول البلاد وعرضها، وبالعكس. وهذا الانتقال المستمر هو الذي يعرض الأسلحة والمنتجات النووية للخطر ويجعل منها نقطة الضعف الرئيسية في إستراتيجية الأمن النووي. والأكثر من ذلك، هناك من يعتقد أنه إذا كان في وسع مجموعة من المسلحين السيطرة على مسرح في قلب العاصمة موسكو، واحتجاز جمهوره رهائن بأيديهم لبضعة أيام، ألن يكون في مقدورهم اقتحام مواقع الصواريخ النووية الواقعة في أقاصي الأرياف الزراعية الروسية، ووضع أيديهم على عدد منها، فيجوبون بها الأرياف، ثم يطلقونها باتجاه أوروبا أو الولاياتالمتحدة الأميركية؟ توسيع الناتو وعلى صعيد ثالث، تشكل قضية توسيع الناتو ملفا آخر من ملفات العلاقات الأميركية الروسية . ولقد بدأ التقارب الروسي - الأطلسي بتوقيع «الميثاق المؤسس» لعلاقات التعاون الأمني في باريس في أيار مايو من العام 1997، من قبل الرئيسين يلتسين وكلينتون ونظرائهما من قادة بلدان الحلف، ولم يكن المجلس في واقع الأمر أكثر من هيئة إعلامية تتبادل المعلومات في أفق الاتفاق على عمل مشترك، بيد أن الميثاق الأساسي الذي تم على أثره إنشاء مجلس مشترك يضم روسيا والبلدان الأعضاء التسعة عشر في الحلف الأطلسي قد تم توقيعه في 22أيار - مايو 2002 من قبل الرئيس بوتين وقادة بلدان الناتو الآخرين . بيد أنه إذا كانت روسيا قد أصبحت داخل جدران الأطلسي فإنها لم تدخل إليه عبر قوس النصر كعضو كامل العضوية، وإنما من باب التعاون في مجموعة من الميادين تشمل مكافحة الإرهاب وإدارة الأزمات وعدم تكاثر الأسلحة النووية والسيطرة على التسلح والتعاون في ميدان الإنقاذ البحري والتعاون بين العسكريين، ومن اجل إعداد الخطط المدنية في حالات الطوارئ وفي مواجهة التهديدات والتحديات الجديدة . ومثل هذا الواقع الجديد يتماشى مع فكرة كان بوتين قد أطلقها أثناء زيارته الرسمية لبريطانيا في كانون الأول ديسمبر من العام 2001 حيث قال: «تدريجيا»، ومع توسيع إطار العمل المشترك: ستتسع قائمة المشاكل التي تتطلب اتخاذ قرار مشترك حيالها. وفي حزيران - يونيو الماضي، قال الأمين العام للناتو جاب هوب شيفر بعد اجتماع مجلس روسيا-الأطلسي، الذي عقد على مستوى وزراء الخارجية على هامش قمة الأطلسي في اسطنبول، إن الحلف «يشير إلى التقدم الذي تحقق في مجال التعاون» لمحاربة الإرهاب، ولكن «لا تزال هناك مواضيع خلافية». وان الحلف ذكر خصوصا روسيا بوعدها سحب قواتها ومستودعات الأسلحة من جورجيا وجمهورية مولدافيا الانفصالية. وفي مقابل ذلك، دعا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الدول المشاركة في الناتو إلى «الوفاء بالتزاماتها» وإلى توقيع المعاهدة حول القوات التقليدية في أوروبا. وكرر لافروف أيضا قلق موسكو حيال «سياسة توسيع الناتو على حدودها»، خصوصا بعد انضمام دول البلطيق الثلاث إليه في آذار - مارس الماضي. وكان قائد قوات الدفاع الروسي فلاديمير ميخايلوف قد قال في نيسان أبريل الماضي، إن القوات الجوية في روسيا وبيلاروسيا قادرة على اتخاذ تدابير مضادة للناتو، وإن بلاده ليست بحاجة إلى تعزيز قدراتها العسكرية الجوية في الجبهة الغربية. وعلى خلفية المعطيات ذاتها، سعت روسيا لإعادة تأكيد حضورها الأمني في آسيا الوسطى، وقد نجحت في تشرين الأول أكتوبر الماضي في الحصول على قاعدة عسكرية دائمة في طاجيكستان . ومع وجود نحو سبعة آلاف جندي، أعلنت روسيا أن مقر الفرقة 201 في طاجيكستان سيكون أكبر قاعدة عسكرية روسية على أراض أجنبية. وقال الرئيس بوتين بعد محادثات مع نظيره الطاجيكي إمام علي رحمانوف إن «وجودنا العسكري في طاجيكستان لن يضمن فقط استثماراتنا ولكنه سيضمن أيضا الاستقرار في المنطقة». وكانت طاجيكستان قد تباطأت بشأن اتفاقية أبرمت في العام 1999 لمنح الفرقة الروسية قاعدة رسمية، بيد أن وعود روسيا لها بضخ استثمارات كبيرة وإعفائها من الديون قد دفعها نحو تغيير موقفها. وأكدت طاجيكستان أيضا بصفة رسمية ملكية روسيا لمركز التحكم الفضائي في نوريك، والذي شيد في العام 1980 لبرنامج الفضاء الروسي. وعودة إلى المناخ العام للعلاقات الأميركية الروسية، يمكن القول إنه كان قد تم الوصول في واشنطن منذ سنوات إلى نوع من التوافق النسبي حول عدة مبادئ خاصة بالعلاقة مع روسيا، تتمثل بصفة أساسية في دعم اندماجها في دائرة البلدان الديموقراطية والانتقال بها نحو الرأسمالية، ولكن في الوقت نفسه الحذر حيال أي طموح امبريالي وليد قد تعرفه موسكو، ومن هنا جاء وهم أوكرانيا وبيلاروسيا، وتوسيع إطار الناتو وتعزيز مشروعات الطاقة في منطقة بحر قزوين. وكان زبيغنيو بريجنسكي المستشار الأسبق للأمن القومي الأميركي قد تعرّض للحديث عن العلاقات الأميركية - الروسية في كتابه الشهير «رقعة الشطرنج الكبيرة، أميركا وبقية العالم»، وجاء في بعض ما قاله: «في هذه الشروط ينبغي على النخبة السياسية الروسية، وبدلاً من أن تبذل الجهود عبثاً من أجل أن تستعيد موقعها السابق كقوة كبرى على الصعيد العالمي، أن تفهم أن المهمة الدولية الملقاة على عاتق روسيا تتمثل في تحديث بناها. ونظراً لاتساع رقعتها ولتنوع مكوناتها، فإن تبني نظام سياسي يقوم على اللامركزية واقتصاد السوق هو أفضل ما يكون من أجل تحرير الطاقات الكامنة للشعب الروسي وجني أكبر الفوائد من الثروات الطبيعية للبلاد. ولاشك أن روسيا مع نظام لامركزي ستكون أكثر بعداً عن التطلعات الامبريالية. ووجود اتحادية - كونفدرالية - روسية أكثر انفتاحاً تضم روسيا الأوروبية وجمهورية سيبيريا وجمهورية من الشرق الأقصى، فمثل هذه الاتحادية تستطيع أن تطور علاقات اقتصادية أكثر قوة مع أوروبا، ومع الدول الجديدة في آسيا الوسطى والشرقية، والذي لابد أن يزيد من تسارع إيقاع التنمية في روسيا نفسها. ثم إن كل وحدة من هذه الوحدات الثلاث ستكون قادرة أكثر على استثمار المخزون الإبداعي المحلي الكامن والذي كان قد جرى خنقه عملياً خلال قرون عديدة من قبل البيروقراطية الثقيلة لموسكو. «وسوف تكون روسيا أكثر ميلاً نحو تبني الخيار الأوروبي، إذا نفذت الولاياتالمتحدة بشكل جيد النقطة الثانية من إستراتيجيتها حيال روسيا، أي تعزيز التعددية الجيوسياسية ذات الأرجحية في الفترة ما بعد السوفياتية. ذلك أن تعزيز مثل هذه التعددية سيقلل على الأرجح من النزعة الامبريالية وإغراءاتها. إن روسيا ما بعد امبريالية ومتجهة نحو أوروبا يفترض بأن ترى في المبادرة الأميركية وسيلة لتقوية الاستقرار الإقليمي ومنع حدوث نزاعات على طول حدودها الجنوبية الجديدة والتي كانت بؤراً لعدم الاستقرار. لكن لا ينبغي لسياسة التعددية الجيوسياسية هذه أن تكون مشروطة بوجود علاقات جيدة مع روسيا، بل على العكس إنها تشكل أيضا ضماناً للأمن في حالة تدهور العلاقات الأميركية مع روسيا، ذلك لأنها تعيق العودة إلى سياسة امبريالية روسية تكتنفها المخاطر حقاً. كذلك يمثّل الدعم الاقتصادي والسياسي للدول التي استقلت حديثاً جزءاً من إستراتيجية أكثر اتساعاً بحيث إنها تشمل القارة الآسيوية كلها، ويتم اعتبار تعزيز وجود أوكرانيا ذات السيادة، والتي سيتم تعريفها من جديد على أنها إحدى دول أوروبا الشرقية والتي ستدخل في عملية تكامل أكثر عمقاً مع المنطقة، بمثابة عنصر حاسم في مثل تلك السياسة. وتطوير علاقات وثيقة بين الولاياتالمتحدة الأميركية والدول المهمة مثل أذربيجان وأوزبكستان يكتسي أيضا أهمية حاسمة إلى جانب المبادرة الأكثر عمومية والرامية إلى جلب آسيا الوسطى إلى دائرة الاقتصاد العالمي، على الرغم من محاولة روسيا كبح جماح مثل هذا التوجه بأقصى ما لديها. «إن القيام باستثمارات كبيرة خارجية في المنطقة التي تشمل شواطئ بحر قزوين وآسيا الوسطى، بعد أن أصبح الوصول إليها أكثر يسراً سوف لن يساعد في تعزيز استقلال هذه البلدان الجديدة فحسب، وإنما سيكون ذا فائدة كبيرة أيضا بالنسبة لروسيا ما بعد الامبريالية والديموقراطية. ثم إن استثمار مصادر الطاقة والثروات المعدنية في المنطقة سيجلب الازدهار وبالتالي قدراً أكبر من الاستقرار والأمن مع التقليل من إمكانات حدوث نزاعات شبيهة بتلك التي عرفتها منطقة البلقان. ولاشك في الميزات التي يقدمها تحقيق تنمية إقليمية سريعة بواسطة تمويلات أجنبية، وسيكون لهذا آثاره على المناطق الروسية المجاورة والمتخلفة غالباً».