نتساءل ابتداء، عن معنى العودة - الآن - الى "الحديث عن ادب المقاومة الفلسطينية، بعد ان اصبحت هذه الظاهرة في طي النسيان"؟ ففي حين جاء بعض المشاركين في الحلقة النقدية في مهرجان جرش هذا العام، حاملاً رؤية تقليدية تمّ تجاوزها، رأينا كيف وسّع البعض الآخر من المشاركين مفهوم "ادب المقاومة"، فجاءت الندوات متفاوتة المستوى، ولا تلبّي سوى جزء يسير من اضافة جديد الى البحث في القضية التي اشبعت بحثاً منذ عقود اربعة تقريباً. وشارك في الندوات عدد من الكتّاب والنقّاد العرب، من مستويات متفاوتة، ومن بلدان عدة فخري صالح وابراهيم ابو هشهش وابتسام الصمادي من الأردن، ونبيل سليمان ونعمت خالد ويوسف اليوسف من سورية، ومحمد لطفي اليوسفي من تونس، وتغيّب النقاد والمفكر محمود امين العالم، وهنا وقفة مع الاوراق التي حصلنا على نسخة منها. يقاوم محمد لطفي اليوسفي، بالقراءة، نظرة الاستشراق في نص ادونيس وخطابه - في كتابه "الكتاب" تحديداً، ويستخرج من قصائد نزار قباني آثار النظرة الاستشراقية نفسها، مقدماً بذلك نمطاً جديداً من المقاومة المتمثلة في القراءة. فالناقد التونسي تناول القضية من زاوية جديدة ومغايرة ولافتة، اذ قلب زاوية النظر، وبدلاً من قراءة ادب المقاومة، قدّم "القراءة المقاوِمة"، ملاحظاً - ابتداء - ان الخطاب النقدي المعاصر "يتشكل مرصعاً بالمفاهيم والمصطلحات المستقدمة قهراً من المدارس والمناهج المستحدثة في الثقافات الغربية". وتناول اليوسفي، للمرة الأولى - ربما - في النقد العربي، وعبر المثالين الشعريين المذكورين، كيفية "اندساس الرؤى الاستشراقية الظلامية الى نصوص يعتقد منتجوها انهم يكرّسون التغاير مع تلك الرؤى، وينشدون الاسهام في تحرير الانسان العربي من قوى القهر والتسلط والظلام". فعملية محاسبة التاريخ العربي عند ادونيس تتحول الى عملية "تشهير وإدانة وفضح"، وكثيراً ما أدّت هذه "التمثلات المضللة والتوهمات الآسرة الى انتاج خطابات اكثر ظلامية من اشد الخطابات عنصرية في التصور الاستشراقي نفسه". وعلى النحو نفسه، يتناول اليوسفي خطاب نزار قباني الذي كثيراً ما يكرس "التصورات التي اخترعها الخطاب الاستشراقي ليبرر بها ضرورة هيمنة الغرب باعتباره عالماً فردوسياً على الشرق منبع السموم والويلات التي تهدد الغرب نفسه". لكن اليوسفي يكتفي بتناول صورة العربي الرجل في مواجهة المرأة، كما تبدو في شعر نزار قباني، والصورة - اعتقد - ليست من اختراع الغرب، بمقدار ما هي محاولة لعكس صورة الحريم كما تعيشها المرأة العربية. اما البحث القصير لفخري صالح، في عنوان "نحو اعادة تأهيل مفهوم الأدب الفلسطيني المقاوم"، فإنه بعد عرض لتاريخ مفهوم ادب المقاومة وتحولاته، يتساءل عن ضرورة العودة الآن الى هذا النقاش، و"هل تتم هذه العودة بوعي جديد يأخذ في الحسبان تطور الأدب الفلسطيني ومنجزه الفني وحال النضج النسبي التي وصل اليها؟ ام اننا نعود الى احياء الظاهرة والمفهوم لدواعي ظرفية آنية...؟". ويرفض صالح الانطلاق من "الحادثة"، والتعلق "بأهداب الانتفاضة الثانية لكي نعيد اطلاق "ادب المقاومة" من قمقمه، ونفسّر الحاضر الأدبي بماضيه القريب". وأهم ما يفعله بحث صالح هو توسيع المفهوم "بحيث يضم كل ما يكتب في مقاومة الاستعمار والاستيطان والاحتلال، وينشط لوضع التجربة الفلسطينية في قلب الأدب الانساني العميق الذي يجدل تجارب المعذبين في الأرض بعضها ببعض. كما اننا في حاجة الى مقاربة ما يكتب عن الحب والضعف الانساني وقضايا الميتافيزيقا التي تشغل الكائن البشري على هذه الأرض، بوصفها جزءاً من المقاومة غير المعلنة للاضطهاد والظلم...". ولذا فهو لا يجد حرجاً في ادراج مجموعتي درويش "سرير الغريبة" و"الجدارية" ضمن هذا "الفهم الواسع، الشامل، لأدب المقاومة الانساني ... مقاومة الموت والفناء ورغبة الآخر في قتلي وحذفي من الوجود". فيبدو ان صالح لا يرغب في ان يفرق بين مقاومة موت يأتي من طرق الاحتلال، وموت بيولوجي يرتبط بقضية وجودية كما هو الحال في الجدارية الدرويشية! فيجعلنا نسأل ان كان كل ما يكتبه "شاعر المقاومة" هو، بالضرورة، شعر مقاوِم؟ وهل نستطيع ان نضع في اطار هذا المفهوم كل الشعر الذي يقاوم الموت، الموت في صوره المختلفة؟ وتبقى اعادة التأهيل هذه مشروعة "لأن غايات التأهيل ذات أفق انساني ثقافي، تعيد الى المنجز الأدبي العميق وظيفته التعبيرية الرفيعة عن معاناة الفلسطينيين في صورة فنية". واختار الناقد يوسف سامي اليوسف ان يتحدث عن "شعر المقاومة في نصف قرن: 1917 - 1967"، في صورة عامة، فقال: "ان فلسطين عرفت نهضة شعرية جديرة بالانتباه ابتداء من اواخر القرن التاسع عشر او ربما بعد انتصافه بقليل...". وتوقف عند ابرز ظواهر شعر المقاومة في الفترة المشار اليها في عنوان بحثه، لكنه اشار الى ان "الشعر المقاوم في فلسطين برز اثر صدور وعد بلفور في نتاج الشاعر اسكندر الخوري البيتجالي، صاحب ديوان "البستان" الذي تصدى بشعره للصهيونية والامبريالية منذ بداية الانتداب، لكن "الشعر المقاوم لم يتأجج إلا مع ثورة البراق التي تفجرت عام 1929، ثم ابتداء من الثورة الكبرى التي انطلقت مع استشهاد الشيخ عزالدين القسام اواخر عام 1935، واستمرت حتى بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939"، وبرز في هذه المرحلة الشاعر عبدالرحيم محمود، صاحب القصيدة الشهيرة "سأحمل روحي على راحتي/ وألقي بها في مهاوي الردى"، والشاعر ابراهيم طوقان، فكان في شعرهما ما يؤكد "ان فورة الشعر بوجه عام في ذلك العقد الدامي دليل حاسم الى التحام الفن بالحياة التحاماً حميماً"، وأن "الحدث التاريخي هو المعلم الأكبر للشاعر المقاوم، وربما جاز للمرء الزعم بأن الشعر في فلسطين قد انجز وثبة نوعية مع طوقان حصراً ... لأن اسلوبه المرهف الحساس كان جديداً لم يعرفه اي من الشعراء الفلسطينيين الذين سبقوه". ثم جاء بعد الشاعرين المذكورين جيل من الشعراء منهم: عبدالكريم الكرمي ابو سلمى، حسن البحيري، محمود شفيق الحوت، هارون هاشم رشيد، فدوى طوقان، سلمى الخضراء الجيوسي، ويوسف الخطيب ...الخ. اما الروائي والناقد نبيل سليمان، فكتب "مقاومة الاحتلال في الرواية الفلسطينية"، مستعرضاً اكثر من خمسين عنواناً لروايات صدرت في عقد الستينات، وأكثر من مئتي رواية صدرت في العقود الثلاثة الاخيرة من القرن العشرين. وتساءل الناقد والروائي في بحثه عما اذا كان مفهوم المقاومة يتعلق ب"الحدث" او ب"التاريخ" او ب"الشهادة"، ما يعني المضمون مرة، والموضوع مرة اخرى، وما يعني ايضاً تحرير المعنى، وما يدفع باشكاليات شتى ليس أولها ولا آخرها ما بين السياسة والفن، ممثلاً على رواية اميل حبيبي "اخطية"، التي "عمّقت تجربة الكاتب الثرة الفريدة باستثماره التراث السردي، واستثمار العيش الشعبي في القاع ... فحبيبي "نسيج وحده" ينهض على تشغيل خاص للغة وللسخرية قائم على الخبرة في الشأن الصهيوني والشأن الفلسطيني وبالحس الانساني العميق والدافق والفاجع". وطرح الشاعر والناقد ابراهيم ابو هشهش تطبيقاً لجانب من جوانب مفهوم المقاومة على قصيدة محمود درويش "الخروج من ساحل المتوسط" من مجموعة: "محاولة رقم 7"، ورواية توفيق المبيض "اسطورة ليلة الميلاد" اللتين تنطلقان من اشاعة تحرّك القبور في غزة عام 1973، اذ عالجت القصيدة والرواية هذه الاشاعة على نحو يجمع الاسطورة بالواقع. وليظهر الدارس علاقة الموت الاستشهاد بالمكان، كون ارتباط الموت الشهادة بالأرض الفلسطينية "ممارسة حياتية قبل ان تكون تجلياً أدبياً"، ففي قصيدة درويش ارتكاز على تصور مؤسطر للموت يرى اليه بوصفه اذعاناً وسكوناً، بينما يرى المقاومة اعتناقاً للحياة في معناها الشامل، ما يجعل المقاومة هنا "تتجاوز مفهومها العادي او اطارها الوطني، لتصبح سلوكاً كونياً ينطلق من التصور الدرويشي الخاص للأرض بوصفها رمزاً كلياً ومبدأ اول". الشاعر والناقد محمد عبيدالله تناول "ماجد ابو شرار: قصص اولى من اجل المقاومة"، فرأى في بعض قصصه هواجس مقاومة وشخصيات مقاومين وفدائيين، ليضيء معنى المقاومة ومعنى الموت في الحال الفلسطينية، وتشخيص عنصر الموت في قصص ماجد بوصفه الموت مصدر اعتزاز وليس مصدر ضعف وانهيار. ويشير عبيدالله الى ان استخدام ضمير المتكلم الذي استخدمه ابو شرار في السرد، جاء ليلغي المسافة بين القارئ والقصة. ثم ينتهي عبيدالله الى ان ماجد لم يكمل مسيرته القصصية لأنه "انتقل من الكلمة التي تحلم بالفعل الثوري وتهيئ له، الى الفعل الثوري نفسه". ولم تلتزم القاصة والروائية نعمت خالد العنوان الضيق للموضوع، فاستعرضت قائمة "السردية الروائية للمقاومة في الأردن"، بدءاً بروايات زياد قاسم "ابناء القلعة" و"الزوبعة"، وروايات سميحة خريس "شجرة الفهود" و"القرمية"، وسواهما من الروائيين، من كتب منهم رواية يمكن تصنيفها في باب ادب المقاومة، ومن لم يكتب. لتخلص الى ان "مفهوم المقاومة في المبدَعات - ومنها السردية الروائية - قد تبدل ... ليغدو قيمة انسانية حضارية وتاريخية نبيلة، وخصوصاً في فضاء كفضائنا العربي حيث تتوحد فيه المقاومة للصهيونية بمقاومة الفساد والاستبداد، كما تتوحد قضية الهوية والحداثة وقضية النهضة". اما ابتسام الصمادي الأردن فتناولت "صورة الشهيد في شعر المقاومة"، منطلقة من فهم خاص لأدب المقاومة يقول بأنه "كل أدب حقيقي ... يستشرف المستقبل في محاولة لتجاوز الواقع او رفضه" من جهة، ومنطلقة ايضاً "من عدم التسليم ان المقاومة لا تعني سوى إزالة آثار العدوان"، فشعر المقاومة - بحسب الصمادي - ينبثق من كون الفلسطيني تعوّد الموت لأنه يعرف انه طريقه الى العزة والكرامة. فعشق توفيق زياد للموت ليس نابعاً من حبه لسفك الدماء وإنما باعتبار الموت وسيلة لتحقيق الحياة. وتعدد الباحثة مستويين لصورة الشهيد، في المستوى الأفقي تتمثل الخصوبة والانتشار ورمز الحياة والبقاء، وفي المستوى العمودي يتمثل التجذر والرسوخ والصعود نحو الخلود في حركة أزلية مقدسة صاعدة نحو السماء وهابطة منها".