يتطلب مفهوم "الأدب الفلسطيني المقاوم" نوعاً من اعادة النظر لكونه نشأ في شروط تاريخية محددة تقادم عليها الزمن فضعف المفهوم ورق حتى اختفى وقلّ تداوله. وإبان صعود بعض هذا الأدب في الآونة الأخيرة وخصوصاً عقب الانتفاضة الفلسطينية في الداخل لا بد من اعادة قراءة هذه الظاهرة الفريدة. ولد تعبير "أدب المقاومة" الفلسطيني مع صعود المقاومة الفلسطينية في النصف الثاني من الستينات واكتشاف ظاهرة شعراء الأرض المحتلة، محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وسالم جبران وراشد حسين ونايف سليم وآخرين غيرهم، التي سرعان ما أصبحت، خصوصاً بعد هزيمة 1967، علامة على أدب المقاومة وإسماً حركياً لعدد كبير من الشعراء الفلسطينيين الذين يعيشون في الأرض الفلسطينية، وكذلك في المنافي. وقد ضم غسان كنفاني الى شعراء المقاومة في فلسطينالمحتلة كاتباً قصصياً هو أبو سلام إميل حبيبي، وكاتباً مسرحياً هو توفيق فياض عندما كتب كتابه الثاني عن أدب المقاومة الفلسطيني موسعاً نطاق أدب المقاومة ليشمل أنواعاً أدبية أخرى غير الشعر الذي كان العلامة الفارقة التي ولد المفهوم على حوافها وأخذ معناه من سياق تطورها، أي من كيفية تعامل الشعر مع الاحتلال الصهيوني للأرض الفلسطينية وتلازم هذا الشعر مع التعبير عن ظاهرة المقاومة الفلسطينية الطالعة في الستينات. لكن المفهوم سرعان ما توسع مع صعود نجم المقاومة الفلسطينية، في نهاية الستينات وفي السبعينات، وتحول منظمة التحرير الى شبه وطن معنوي للفلسطينيين. وأصبحت أدبيات المقاومة، وما يصدر عن كُتاب التيارات والتنظيمات الفلسطينية المختلفة، عنواناً لحقبة جديدة من تاريخ الأدب الذي ينتجه الفلسطينيون، سواء في فلسطينالمحتلة 1948 أو في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين عام 1967، أو في المنافي التي توزع عليها الفلسطينيون. صار ما يكتبه الفلسطينيون بعامة، وما يتوافر على عناصر التعبير عن الالتصاق بالأرض والتحريض على المقاومة، جزءاً من كتاب الأدب المقاوم الذي ظل الفلسطينيون، وبعض الكتّاب العرب، يضيفون الى فصوله حتى تلاشت الظاهرة مع خروج الفلسطينيين من بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. وعلى رغم ان ظاهرة الأدب المقاوم، كما تجلت في نهاية الستينات، كانت بدأت في الانحسار منذ نهاية السبعينات مع بدء الحرب الأهلية اللبنانية ودخول منظمة التحرير الفلسطينية طرفاً في هذه الحرب، إلا ان الكتاب المنضوين تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية، والعاملين في صفوفها، ظلوا يتسمون بأدباء المقاومة، نسبة الى حركة المقاومة الفلسطينية لا الى ظاهرة أدب المقاومة الذي نبه اليه غسان كنفاني في كتابيه، اللذين نشرهما عام 1966 وعام 1968 على التوالي. فقد درس كنفاني ما تناهى اليه من انتاج أدبي للفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم بعد وقوع كارثة 1948، وحاول، مع شح المصادر وقلة ما وصل اليه من أدب مكتوب في نطاق الأرض الفلسطينية التي ضاعت في نكبة 1948، أن يتتبع ظاهرة من سماهم شعراء، وأدباء، المقاومة في فلسطينالمحتلة، ليفهم كيف استطاع هؤلاء في ليل النكبة الطويل أن يكتبوا أدباً ناضجاً يعبر عن شرطهم الوجودي المعقد تحت الاحتلال. وكان الفضل له ثانياً، وليوسف الخطيب أولاً، في التعريف بهؤلاء الشباب الصغار الذين تعلم منهم الوطن العربي في هزيمة 1967 المدوية معنى الصمود وتحويل هذا الصمود المادي والمعنوي الى أدب مقاوم يصطف بكل جدارة الى جانب آداب الشعوب التي قاومت الاستعمار والاحتلال الذي استوطن أراضيها وأرواحها ربما. لكن استجلاء كنفاني بذور أدب المقاومة في منجز فلسطينيي 1948 فتح الباب واسعاً لامتداد هذه الظاهرة خارج أسوار السجن الإسرائيلي الكبير. لقد بدأت قصائد شعراء المقاومة، درويش والقاسم وزياد وجبران وآخرين. وكذلك قصص ومسرحيات وروايات اميل حبيبي وتوفيق فياض، وكتّاب آخرين أقل شهرة تتسرب الى الصحف والمجلات ودور النشر العربية. وكانت هذه القصائد والقصص والروايات القليلة التي احتفى بها الكتّاب والنقاد العرب شرارة أشعلت جسد الكتابة الفلسطينية في المنافي، فكان أن تسمى الأدب الفلسطيني كله بأدب المقاومة الفلسطينية خصوصاً بعد أن أصبح لمنظمة التحرير مؤسسات اعلامية وصحف ودور نشر تعنى بالأدب الفلسطيني ونشره والترويج له وتوجيهه كذلك. بهذا المعنى أصبح هذا الأدب جزءاً من المؤسسة الثقافية - السياسية الفلسطينية، وجرى إهمال كل منجز أدبي يشذ خارج هذا الإطار، المتسامح نسبياً، والذي يجمع في نطاقه الكتابة المقاومة الفلسطينية. في الوقت نفسه أصبح شعر المقاومة في فلسطينالمحتلة هو مركز ظاهرة الأدب الفلسطيني المقاوم في المنفى. وبغض النظر عن المستوى الفني، والمنجز الجمالي لشعراء المقاومة في فلسطينالمحتلة 1948، فإن شعرهم قوبل بحفاوة بالغة في الثقافة والنقد العربيين انطلاقاً من الشرط الوجودي الذي أنجز فيه هذا الشعر وتعبيراً عن العرفان تجاه هذه الكوكبة من الشعراء الذين نبهوا العرب الى ضرورة الصمود بعد هزيمة 1967، وكيف يتعلمون درس المقاومة ممن ظلوا غائبين عن المشهد العربي عشرين عاماً تقريباً خلف أسوار السجن الإسرائيلي الرهيب. كان شعر المقاومة في الأرض المحتلة، الى جانب كونه ظاهرة جمالية لها شروطها وقاموسها النوعي وطرائقها الخاصة في مقاربة موضوعاتها وتجربتها التعبيرية، ظاهرة سوسيولوجية كذلك عبرت بصورة مدهشة عن الصمود في وجه احتلال يريد ان يسرق الروح والهوية قبل ان يحتل الأرض. وكما يقول محمود درويش في تقديمه لمجلد الدراسات الأدبية من أعمال غسان كنفاني الكاملة: "كنا مجموعة من الشباب دون الثلاثين نفتقر الى أدنى مقدمات الرد العملي على الهزائم التي يعاصرها وعينا وعارنا، كنا نحاول كتابة الشعر من دون ان نعي أنه شعر. كنا نصرخ، نتوجع، نحتج، فلم نملك أداة تعبير أخرى". يربط درويش تلك الكتابات الأولى بالاحتجاج والتحريض والتعبير الأولي عن العمل، مجرداً أشعاره الأولى، وأشعار زملائه، من شروط البحث الجمالي الذي لا شك في أنه كان في ذيل اهتمامات هؤلاء الشعراء الذين فصلوا بخنجر حاد عن الرحم الثقافية العربية. ولم تتواصل هذه الكوكبة من شعراء المقاومة مع التحولات الكبيرة في المشهد الشعري العربي في الخمسينات وبداية الستينات إلا من خلال ما كان يتسرب اليهم من كتابات شعرية عربية جديدة على نحو يسير. ولعل هذا الانقطاع القسري عن الانحناءات الحادة في جسد القصيدة، والانقلابات الثورية في شكلها وموضوعاتها وقاموسها اللغوي، ما أخر الاهتمام بجماليات القصيدة في شعر عدد ممن يسمون "شعراء المقاومة"، أكثر من أن يكون ضعف هذا الاهتمام وليد الانشغال بالاحتجاج والرغبة في الصراخ والتوجع. ومع هذا حدد الاستقبال العربي لظاهرة شعراء المقاومة الشروط التي قرئ استناداً اليها شعر هؤلاء، فقد سكت النقاد والدارسون بعامة عن الاهتمام بشعرية الشعر وانشغلوا باستجلاء المضامين وشروط الانتاج والظرف التاريخي الذي كتب ضمنه ذلك الشعر. وتساوى صوت صاعد بقوة مثل محمود درويش مع أصوات أخرى أثبتت الأيام أنها مجرد أصوات هامشية سرعان ما ذوت بمجرد استقرار الظاهرة وصعود أصوات فلسطينية موازية في المنافي. وعلى رغم ان ثقل ظاهرة شعر المقاومة ظل مقيماً في داخل فلسطين حتى خروج محمود درويش منها عام 1971، إلا ان الظاهرة استقطبت عدداً كبيراً من الأسماء التي صعدت مع صعود منظمة التحرير الفلسطينية وتأوج حضور المقاومة الفلسطينية في المشهدين العربي والعالمي. لكن شروط الاستقبال، والغاية التي حكمت هذا الاستقبال، ظلت مقيمة في طريقة النظر الى الأدب الفلسطيني، الذي رافق عودة الروح الى الشعب الفلسطيني بعد ما يزيد على خمسة عشر عاماً من نكبة فلسطين. فما كان يبحث عنه النقاد والدارسون ليس جمالية الشعر، ومن ثمّ كيفية انبثاق التعبير عن القهر وروح مقاومته في هذا الشعر الذي استكمل شروط شعريته، بل التعبير المباشر على السطح والصراخ والاحتجاج، ما دعا محمود درويش لكي يصرخ قائلاً: "ارحمونا من هذا الحب القاسي"، مدركاً في وقت مبكر نسبياً النتائج السلبية لمثل هذا النوع من الاستقبال غير الجمالي للأدب الفلسطيني بعامة. ضمن شروط الاستقبال المقيدة تلك جرى حذف تجارب أدبية فلسطينية كبيرة من دائرة ما سمي ب"الأدب الفلسطيني المقاوم"، وأدرجت تحت هذا العنوان العريض تجارب ضعيفة وهامشية في سلسلة الانتاج الأدبي، ما أضعف المدونة الأدبية الفلسطينية وحد من آفاق استقبالها. وعلى رغم أن أدباء بحجم محمود درويش وإميل حبيبي وغسان كنفاني كانوا في قلب هذه الظاهرة على الدوام، واستطاعوا إثراءها وتأكيد حضورها بما أنجزوه من شعر ورواية وقصة، إلا أن شاعراً كبيراً مثل توفيق صايغ، وروائياً كبيراً مثل جبرا إبراهيم جبرا، استقرا خارج قوسي "الأدب الفلسطيني المقاوم وكأن الأدب المقاوم يساوي المباشرة والصراخ والاحتجاج والتعبير عن الظاهر من دون الالتفات الى شروط عيش الفلسطيني المعقدة في فلسطين أو في المنافي. لا أعني بما سبق أن أوسع مفهوم "الأدب الفلسطيني المقاوم" الى حد وصف كل ما كتبه فلسطينيون بأنه مقاوم، بغض النظر عن موضوعاته وأشكال مقاربته للقضية الفلسطينية وتجارب العيش في هذا العالم، لكنني أريد التنبيه الى ضرورة اعادة النظر مجدداً في الظاهرة والمفهوم، وإعادة قراءة المنجز الأدبي لتلك الفترة حيث نعيد الاعتبار لعدد من الأسماء التي استقرت على هامش التجربة الثقافية للفلسطينيين، ونحذف من هذا المنجز ما كان عبئاً عليها لا يستحق التهليل الذي قابله به النقد العربي في ذلك الحين. * والآن لماذا نعود الى الحديث عن أدب المقاومة الفلسطينية بعد أن أصبحت هذه الظاهرة طي النسيان، واغتنى الأدب الفلسطيني، شعراً ورواية وقصة، بتيارات واتجاهات وانشغالات تبتعد من الموضوعات المركزية التي كانت تحتل قلب الأدب الفلسطيني في الستينات وشطر من السبعينات؟ هل تتم هذه العودة بوعي جديد يأخذ في الحسبان تطور الأدب الفلسطيني ومنجزه الفني وحال النضج النسبي التي وصل اليها؟ أم أننا نعود الى احياء الظاهرة والمفهوم لدواعٍ ظرفية آنية تنشغل بالحدث وتمسه مساً خفيفاً من دون ان تدرك أن الأدب ليس ظاهرة ظرفية بل هو قطاع من التجربة الإنسانية تتطلب الاختمار والتأمل العميق للظواهر والتجارب الإنسانية لكي تتمكن من تشكيلها جمالياً وفنياً؟ إننا في الحقيقة نحيي رميماً إذا انطلقنا من الحادثة، وتعلقنا بأهداب الانتفاضة الثانية لكي نعيد اطلاق "أدب المقاومة" الفلسطينية من قمقمه، ونفسر الحاضر الأدبي بماضيه القريب. ونحن نقع في خطأ النقد العربي الأول حين ضيّق رؤيته لشعر المقاومة، وأدبها وأعلام هذا الأدب، واكتفى من الظاهرة بموضوعها لا بجمالياتها وطاقاتها الفنية الواعدة التي تجلت في ما بعد من خلال ما كتبه شعراء وروائيون وقصاصون داخل فلسطين أو خارجها. ما نحن بحاجة اليه الآن هو اعادة تأهيل مفهوم "أدب المقاومة"، وإدراجه ضمن دائرته العربية والكونية الأوسع حيث يضم كل ما يكتب في مقاومة الاستعمار والاستيطان والاحتلال وينشط لوضع التجربة الفلسطينية في قلب الأدب الإنساني العميق الذي يجدل تجارب المعذبين في الأرض ببعضها بعضاً. في المعنى السابق يوفر شعر محمود درويش فرصة للنقاد والدارسين لكي يعيدوا تأهيل مفهوم "الأدب الفلسطيني" المقاوم من وجهة نظر جديدة لا تأخذ من التجربة سطحها، وظاهرها الانفعالي، بل تعيد قراءة تجربة درويش في سياقها التاريخي أولاً ثم تنعطف لبحث جماليات شعره وأثر هذه الجماليات في تعميق فهمنا للتجربة الفلسطينية المعاصرة، وكذلك دراسة تعالق تجربة درويش مع المنجز الشعري والثقافي الإنساني حيث نضع قضية فلسطين في قلب الوعي الإنساني المعاصر. انطلاقاً من التصور السابق يكون تأهيل مفهوم الأدب الفلسطيني مشروعاً في نظري لأن غايات التأهيل ذات أفق انساني، ثقافي، تعيد للمنجز الأدبي العميق وظيفته التعبيرية الرفيعة عن معاناة الفلسطينيين في صورة فنية، ولا تكتفي بالبحث عن الشعر والاحتجاج بصورته الفجة في هذا الأدب. * ناقد قلسطيني.