جرى تصوير "المؤتمر الدولي لمناهضة العنصرية والتمييز العنصري وكره الاجانب واشكال التعصب ذات الصلة" في الولاياتالمتحدة باعتباره مؤتمراً مناهضاً لاسرائيل يستحق المقاطعة من قبل اميركا. والعامل الآخر الذي يعزز كره الولاياتالمتحدة للمؤتمر هو قضية التعويضات المالية عن تجارة الرقيق عبر الاطلسي، وهي قضية تحتل موقعاً لا يقل اهمية على الأجندة. لكن المؤتمر يمثل بشكل أساسي حدثاً تاريخياً يهدف الى إجتثاث تركة العبودية والاستعمار والعنصرية. تكمن تحت قضيتي الصهيونية والعبودية الاسس الاقتصادية للمؤتمر، التي تشكل مصدر قلق كبير لعالم الاثرياء والاقوياء. واخفقت محاولات الولاياتالمتحدة وبعض حلفائها لتشويه المعنى الحقيقي لمؤتمر ديربان والتقليل من اهميته كحدث محوري في المواجهة المستمرة بين قوى الاستعمار والعنصرية من جهة، وقوى التحرر والمساواة، من جهة اخرى. ولا تمثل فكرة ان تملي الولاياتالمتحدة ارادتها على الغالبية سوى مؤشر الى ازدراء اميركا لمبادىء الديموقراطية الكونية والوجود التعددي. ومع ذلك، تستهين الولاياتالمتحدة بهذا الحدث وتعتبره مجرد مناسبة اخرى لتبادل الاهانات والانغماس في مجادلات عدوانية وممارسة مهارات خطابية. لكن مثل هذا الترويج لصور نمطية لا يمكن ان يغيّر حقيقة ان تجمع ديربان يمثل منعطفاً حاسماً على الطريق نحو إشاعة الديموقراطية والتحرر الاقتصادي والاجتماعي، وتحقيق عالم اكثر مساواة. في الواقع، لا تعارض ادارة بوش هذا المؤتمر بشكل أساسي بسبب ما تعتبر انه "لغة مهينة" في مسودة الاعلان في ما يتعلق باسرائيل. الأهم من ذلك انها تحرص، باعتبارها الزعيمة المعترف بها للقوى الاستعمارية السابقة التي تناصر العولمة حالياً، على حماية هيمنتها والتحوّط من ظهور محتمل لأي صلات بين قرون من العبودية والاستعمار، من جهة، والفقر الحالي في افريقيا وبقية العالم الثالث، من جهة اخرى. هكذا، باسم حماية اسرائيل من "غوغاء من المعادين لليهود"، تتقدم الولاياتالمتحدة في الواقع للدفاع عن رزمة العولمة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والتجارة الحرة ومعارضة الغاء ديون افريقيا. وينبع خوف واشنطن الحقيقي من تجدد فاعل للدعوات التي اطلقت في السبعينات لانشاء نظام عالمي جديد. وبينما كان على الدول الصناعية ان تواجه الحركة المناهضة للعولمة في سياتل وجنوى، فإنها تواجه هنا في ديربان القوى ذاتها زائداً الحركات المناهضة للعبودية والمناهضة للصهيونية ايضاً. وبرفع مسألة الصهيونية واسرائيل الى مصاف القضية المبدئية، تأمل واشنطن بأن تدافع عن الوضع القائم عالمياً بكل شروره الاجتماعية - الاقتصادية وطبيعته الاستبدادية. كما انها تأمل بأن تحتفظ بهيمنتها بالاضافة الى ادامة التحريم السائد ضد اي شكل من التعويضات المالية عن الاعمال الجائرة التي ارتكبت في الماضي. وما يثير الاهتمام هو ان مثل هذه الاهداف الاستراتيجية تُطرح باسم حماية اسرائيل والشعب اليهودي الذي عانى الكثير جراء التعصب والتمييز، وجراء الافتراء ومزيد من التمييز. ولتحقيق هذه الاهداف لجأت ادارة بوش في البداية الى مقاطعة فعلية للمؤتمر بارسال وفد رمزي، ثم الانسحاب من المؤتمر كلياً في 3 ايلول سبتمبر الجاري بناءً على توجيهات وزير الخارجية الاميركي ذي البشرة الداكنة. وشجب كولن باول "اللغة المفعمة بالكره" للمؤتمر، لكن معظم المندوبين انتقدوا المقاطعة الاميركية. وكانت حكومات كثيرة تعرضت قبل المؤتمر بوقت طويل الى ضغوط كبيرة وابتزاز اقتصادي، ما دفع بعضها الى الدعوة الى "حلول وسط" و"حلول عملية". ومن ضمن هؤلاء كوفي أنان، الامين العام الدمث للامم المتحدة الذي عبّر هذه المرة عن أسفه لموقف الولاياتالمتحدة، والفاتيكان والسنغال وآخرون لا يريدون ان ينالوا غضب الولاياتالمتحدة ويجازفوا بالتعرض لعقوباتها. وهم يطرحون الرأي القائل بأنه في الوقت الذي سيكون فيه حساب التعويضات صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، فإن مجرد اعتراف بالطبيعة الجائرة للعبودية والاستعمار والعنصرية سيكون كافياً. وفي ما يتعلق بالقضية الاخرى، الصهيونية، يطرح انصار "الحل الوسط" و "الموقف العملي" بقيادة جيسي جاكسون فكرة ان المؤتمر أهم بكثير من ان يصبح ضحية لصدامات ايديولوجية. وفي الوقت الذي كسب هذا المنطق كما هو متوقع، تأييد نبيل شعث، ما يسمى بوزير التخطيط والتعاون الدولي في السلطة الفلسطينية، فإنه لقي عملياً الرفض في كلمة صريحة من حنان عشراوي. جاء في تعقيب شعث "نحن غير مهتمين بإثارة قضية ايديولوجية ضد اسرائيل. لذا لن نؤيد بيانات ضد الصهيونية، كما لن نؤيد بيانات تساوي الصهيونية بالعنصرية". في المقابل، قالت عشراوي معبّرة عن رأي قطاع اوسع بكثير من الجمهور الفلسطيني: "اناشدكم ألاّ تتبنوا موقف "الحياد الجبان"، فلا يمكن ان يكون هناك أي حياد في الكفاح ضد الاضطهاد والظلم والعنصرية والتعصب والاستعمار والاقصاء. لا يوجد هنا أي فيتو اميركي يحرمنا من الحماية ومن حقوقنا، ولا توجد رقابة او ابتزاز لتخويف حكومات تخضع لمصالحها الذاتية". بالفعل، لا يوجد أي فيتو رسمي اميركي في ديربان، لكن هناك قدر كبير من التهديد والتلاعب، كما يشير بوضوح صوت السلطة الفلسطينية الرسمي ولكن المفتقر الى الصفة التمثيلية. فقد استخدم الوفد الاميركي الرمزي القناة الديبلوماسية ل "اصلاح" اللغة بأمل التوصل في النهاية الى نسخة اكثر تمييعاً من مدرسة التفكير "العملي". وكان الهدف هو انتاج قرار ختامي يدين العبودية وهو ما يفعله الجميع، ويدين التركة الجائرة للاستعمار والعنصرية، ولكن فقط بعد ضمان عدم إدراج الصهيونية ضمن هذه التعريفات. وعندما فشل هذا المسعى، انسحبت الولاياتالمتحدة واسرائيل ووصفتا المؤتمر بأنه "مهزلة". هذا الموقف الاميركي، الذي اُنتقد على نطاق واسع حتى من قبل جيسي جاكسون وكوفي أنان، يطرح بالحاح اكبر ضرورة ان تتمسك المنظمات غير الحكومية الفلسطينية والعربية بقوة بموقفها الداعي الى ابقاء الصهيونية في الموقع الذي تستحقه تماماً باعتبارها ايديولوجية عنصرية - استيطانية. وفي الوقت نفسه، يجب ان تعارض هذه المنظمات بقوة أي استعاضة عن دفع فعلي للتعويضات بمجرد ادانة للعبودية. فالتمسك بهذه الاستراتيجية المزدوجة وحده سيمكّنها من تجنب وضعها في موقع محكوم بالفشل. عندئذ فقط ستكون قادرة على التحرك كمشارك فاعل في الصراع الجدلي بين الاستعمار والعنصرية، من جهة، والتحرر والمساواة، من جهة اخرى. عندما تقع القضايا المطروحة ضمن نطاق الجرائم ضد الانسانية، لا بد أن يكون السبيل الى العلاج قانونياً وبعيداً عن الحلول البراغماتية. وتبعاً لذلك، لا ينبغي التعامل مع العبودية والعنصرية في اطار ما هو "عملي" فحسب، بل في اطار ما هو عادل. قد يعتذر المتحدرون من تجار الرقيق وحتى يكفّروا عن خطاياهم، لكن يجب ان يدفعوا تعويضات ايضاً. اما المتحدرون من الصهاينة العنصريين والصهاينة المعاصرون فانهم لن يعتذروا او يكفروا عن ذنوبهم، ناهيك عن دفع تعويضات. ولن تؤدي القرارات المائعة الاّ الى تشجيعهم وطمأنتهم الى ان المذابح التي يرتكبونها لن يطالها القانون. بعد إبطال قرار الاممالمتحدة الذي يساوي بين الصهيونية والعنصرية كان بوسع اسرائيل ان تدعي رفع النزاع من سياقه الاستعماري، لتحوله الى نزاع بين حركتين تتنافسان على قطعة الارض ذاتها. واُلغي تعبير الاحتلال كلياً من قاموس اوسلو، ما جعل أي انتفاضة ضد الاحتلال تبدو شكلاً من "العنف"، في احسن الاحوال، او حتى ارهاباً. هكذا، عندما تقوم الطائرات الحربية الاسرائيلية من طراز "إف-16" او مروحيات "أباتشي" بقصف مراكز مأهولة بالسكان، من دون عقاب، تدعي اسرائيل الدفاع عن النفس ضد اعمال ارهابية وتبرر اغتيال قادة سياسيين فلسطينيين بمباركة ديك تشيني. طالما بقي نموذج "عملية السلام" سالماً، مع إزالة تعبير "الاحتلال" من القاموس الديبلوماسي، ستستمر اسرائيل في المجادلة بان الكفاح التحرري الفلسطيني ليس كما يدعي، وان نظام الفصل العنصري ليس جزءً من المعادلة. لن تؤدي أي محاولات من امثال نبيل شعث لاسترضاء اسرائيل باسم الاعتدال الى رد اقل تعنتاً من جانب اسرائيل والولاياتالمتحدة. والرد الوحيد الذي يمكن للمنظمات غير الحكومية ان تعطيه على التصريح الفج لبوش بان المؤتمر "يستهدف اسرائيل" يجب ان يكون جدياً وحازماً. اولاً، ان القضايا المطروحة في ديربان متلازمة ومترابطة على نحو وثيق: الاستعمار والعنصرية والعبودية مسؤولة عن الشرور الاجتماعية والاقتصادية الحالية التي تبقي قوة العمل السوداء في افريقيا في حال استغلال مريع وفقر دائم تفاقمها العولمة. ثانياً، يجب وقف ممارسات اسرائيل الاستعمارية والعنصرية قبل ان ينهي الفلسطينيون انتفاضتهم الذي يعتبره جورج دبليو. بوش شرطاً مسبقاً لاعادة تنشيط الدور الديبلوماسي لاميركا. ان اميركا، في الواقع، جزء من المشكلة، ولذا فإنها لا يمكن ان تكون جزءً من الحل. والعودة الى "عملية السلام" لا يمكن الاّ ان يعني عودة الى الظروف ذاتها التي انتجت الفوضى المؤدية الى مزيد من دمار الحياة والاملاك وتكريس الفصل العنصري ومصادرة الارض وترسيخ الاحتلال، التي يمثل معظمها جرائم ضد الانسانية. ليس مؤتمر ديربان مكاناً لعرفات ونبيل شعث يمثلان فيه كيفما اتفق دور الشرطي الشرير والشرطي الطيب. انه حدث تاريخي هام يمكن الحكم عليه بمدى ما يتحقق من عملية تحكيم ومصالحة في المستقبل، وهي عملية يجب ان تتضمن إشغال العقل سعياً الى الحقيقة والمصالحة. ويجب ان تؤدي الى تكفير عن الخطايا، واعتذارات، وتعويضات، ونهاية لآخر الحروب الاستعمارية. لا يمكن لحصيلة مشرفة للنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي ان تنجم عن عملية السلام المتصدعة التي قادها كلينتون او عن أي كلمات يتفوه بها بوش في النهاية تحت تأثير محتمل لجماعات الضغط. بل انها ستنجم عن ولادة جديدة لإجماع عالمي ذوى مع مجيء اوسلو والاستبداد العالمي. لا يمكن للعدالة ان تتحقق على يد القوة العظمى الوحيدة، التي تزود اسرائيل ما يمكنّها من ارتكاب جرائم الحرب. بل سيتعيّن نيلها عبر تحالفات دولية على مستوى المجتمع المدني بالاضافة الى الحكومات. وتقتضي العدالة في المطاف الاخير ان يُظهر الفلسطينيون التضامن مع كفاح الآخرين الذين تظاهروا تأييداً للتعويضات وحقوق الفلسطينيين. ان المعركة في ديربان هي المعركة ذاتها تماماً بالنسبة الى الفلسطينيين والافارقة والاميركيين من اصل افريقي والسكان الاصليين في اماكن اخرى وغيرهم من ضحايا التعصب والعنصرية وكره الاجانب. * بروفسور علوم سياسية في جامعة دارتموث - ماساشوستس.