ذهب الدارسون، الى ان زراعة القطن، انتشرت أول الأمر، منذ قديم الزمان، في مصر العليا، اذ كانت حاصلاتها منه وافرة للغاية، كما كان يتمتع بنوع من الجودة لا تضاهى. على ان هذه القطنيات عرفت أيضاً في نواح أخرى من الدولة الاسلامية خصوصاً في المناطق الشرقية منها، إذ شكلت مركزاً مهماً لصناعة القطن في المشرق لا يقل أهمية عن ذلك المركز الذي عرفته لصناعة الكتان والذي اشتهر في مغربها. وأنشئت مراكز لصناعة القطن في مرو ونيسابور في شرقي كرمان، واشتهرت المدينة الأخيرة بثياب القطن الفاخرة. فمن طرائف ما كان يصنّع فيها، الطيلسان المقدّر الذي ينسج "برفراف"، وكان غالي الثمن، إذ بلغ سعره مع "الشرب" الرفيع أكثر من ثلاثين ديناراً. وهذه الطيالسة المقدرة، كانت تحمل الى أقطار الأرض، كما كانت تصدر الى أسواق خراسان والعراق ومصر والمغرب. ومما يذكر عن تصنيع القطن في مرو أنه كان يبلغ درجة قصوى في اللين، لذلك كانت تتخذ منه العمائم كما ذكر الثعالبي في "يتيمة الدهر" 2/62. وإضافة الى مرو ونيسابور في شرق كرمان، كان يزرع القطن في تركستان، وكانت تحمل من هذا الاقليم الثياب القطنية ذات الصنعة الجيدة. لم يقتصر انتاج القطنيات على هذه المواضع من الديار الاسلامية وحسب، وإنما كثر هذا الانتاج أيضاً في بلاد الرافدين، ويقال ان امراء الحمدانيين هم الذين شجعوا زراعته حين كانوا يحكمون تلك البلاد، على رغم ما كان يعرف عنهم من الجور على الزرّاع وعدم اهتمامهم بالمزارع. هذا وقد انتشرت زراعة القطن منذ القرن الرابع، في شمال افريقيا، كما عرفت زراعته ايضاً في بلاد الأندلس، من دون أن ننسى انه اشتهر في مختلف الديار التي تقع في محاذات الحدود الهندية - الصينية كمدينتي كازرون وكابول، اذ ان الأخيرة، كانت تصدّر ثياباً من قطن مشهور بحسنه وجودة نوعه، واختصت بنوع من الألبسة عرفت ب"السبنيّات"، كانت تصدرها الى بلاد الصين وخراسان والهند وبلاد الشام. أزياء اسلامية لعل المعلومات القليلة النادرة، المبثوثة هنا وهناك بين صفحات الكتب التاريخية والأدبية القديمة، تشكل في نظرنا المصادر الأولى لدراسة الأزياء الاسلامية التي كانت منتشرة في العالم الاسلامي في العصور الوسطى. واحتوت هذه الفقرات المبثوثة على تفاصيل ذات شأن، تتصل بالأزياء السائدة آنذاك. كما احتوت بالتالي على بعض الأوصاف لقطع من الملابس، وذكرت أسماء الرجال الذين أسهموا في شكل أو بآخر بإدخال المعرض من جهة أولى، وتطوير الأزياء من جهة ثانية. على اننا نجد أيضاً اشارات واضحة الى المراسيم التي أطلقها رجال الحسبة أو الحكام، واقتضى بموجبها حظر ارتداء أزياء معينة أو فرض أزياء اخرى على الناس بألوان محددة ومعينة، أباحوها لهم دون سواها. وما يؤسف له ان تأتي مثل هذه المعلومات المهمة بصورة عارضة في كتب الأدب تتصل بموضوعات مختلفة، وحين تذكر يعتذر الأديب عن الاستطراد، كما حصل مع النويري في "نهاية الأرب" 3/228، حين اعتذر عن ذكره أشياء عملية، ليست علمية خالصة بنظره، وجَّهها الى موظفي الحكومة لمجرد الاحاطة والعلم بها، من باب معرفة الشيء وليس الجهل به. على أن أبا الطيب الوشّاء المتوفى عام 324ه 936م، أفرد في كتابه المعروف ب"الموشى"، باباً في ذكر زي الظرفاء في اللباس المستحسن عند سروات الناس ابتدأه بقوله: "إعلم أن من زيّ الرجال الظُّرفاء ، وذوي المروءة الأدباء، الغلائل الرقاق، والقُمُص السِّعاق، من جيد ضروب الكتّان، الناعمة النقية الألوان، مثل الدبيقي والجنّابي" نسبة الى دبيق مصر، وجُنابةفارس... ثم يسترسل في وصف الدراريع والمُلْحم والمبطنات والأزُر والأردية المحشاة والطيالسة النيسابورية والمصمتة الدبيقية، والجباب والوشي والخزوز والمطارف والأكسية. والوشاء ينسبها جميعاً الى المدن والأماكن التي اشتهرت بصناعة هذه الصنوف من الألبسة والأزياء. فالدرْجَرَد بفارس، كانت مختصة بصناعة الدراريع، والمبطنات كان من اختصاص قوهستان، ناهيك عن اشارته الى أزياء وملابس الاسكندرية ونيسابور واليمن والكوفة وقومس وسلول. وبعد تفصيل ذكر هذه الأزياء من الألبسة والأكسية، ونسبتها الى مواضعها والمدن الاسلامية التي أنشأتها، يتحدث أبو الطيب الوشّاء في الباب ذاته من كتابه، عمّا كان يُستحسن منها وما لا يستحسن فيقول مثلاً: "ليس يستحسن لبس الثياب الشنعة الألوان، المصبوغة بالطيب والزعفران، مثل المُلحم الأصفر، والدبيقي المعنبر، لأن ذلك من لبس النساء، ولبس القينات والإماء". وذكر انه لا يجوز لبس الثياب الدّنسة مع غسيل، ولا سره لبس غسيل مع جديد. وعلى هذا لم يكن يستحسن لبس الكتان مع المروي ولا البابياف، وهو نوع من النسيج المعروف في عصره، مع القوهي، الذي هو صنف من الثياب البيض التي كانت تصنع في قوهستان. وذكر لنا الوشّاء أيضاً ان الناس في عصره، كانوا يلبسون في وقت الشراب والخلوات، "الغلائل الممسكة والقُمُص المعنبرة والأردية الملونة والأور المعصفرة". ويضيف انه ربما كانوا يستعملونها لفرشهم ويلبسونها في وقت قصفهم ويتظرّفون بها في مجالسهم ويتخففون بها في منازلهم. وبسبب ذلك كان يرى ان الظهور بها قبيح لدى العامة من السوقة والظرفاء، غير انه مستحسن من أهل النعم ورجال الحاشية وابناء الخلفاء والوزراء والأمراء. على ان الوشاء ختم بحثه عن "اللباس المستحسن عند سروات الناس" بقوله: "وأحسن الزي ما تشاكل وانطبق، وتقارب واتفق". فهو يشير الى أن الأقدمين كانوا يستحسنون في لباسهم ما تجانس من حيث المادة واللون وما تقارب من حيث الشكل والزي، وكأن في نفوسهم اصولاً فنية توجههم في حسن الانتقاء والاختيار للظهور في الزي الذي يتناسب مع الطابع القومي والديني. أزياء... وخِلَعٌ للخلفاء لا شك في أن الخلفاء العباسيين في العصر الوسيط، كانوا يحافظون على لبس السواد، وقد ظل هذا الزِّي يميز ملابسهم عن غيرهم، ومن ثَمَّ اتخذ شعاراً لجميع اتباعهم، ومن كان يلوذ بهم ويعيش في ظلهم. ولعل لذلك صلة كما يرى بعض الباحثين، بمنصبهم الذي كان روحياً أكثر منه دنيوياً، ولهذا السبب، كانوا في الغالب، يرتدون زيّهم الديني الذي تميزوا به. ووصف غطاء الرأس عند الخلفاء العباسيين، فقالوا انه يتكوّن من عمامة وروّرة لطيفة لها "عزبة" تتدلى خلف الظهر، وكانت تعرف بالرفرف، وصفها لنا القلقشندي في كتابه الشهير "صبح الأعشى" فقال ان "الرفرف" كان نصف ذراع في ثلث ذراع. أما عرض هذه "العزبة" فقدمٌ واحدة، وهي ترسل من أعلى العمامة الى أسفلها. ومن خلع الخلفاء، الخلعة المعروفة ب"القباء"، وهي عبارة عن ثوب ذي أكمام ضيقة، كما عرف في أزيائهم "الكاملية"، وهو لباس كانوا يضعونه فوق ثيابهم، ضيق الأكمام مفرّج الذيل من خلف، إذ تبدأ من الحافة السفلى مرتفعة الى أعلى. وذكر لنا صاحب الخطط، المقريزي 2/242 وصفاً لمظهر الخلفاء وذلك أثناء الاحتفالات الرسمية، فذكر ان الخليفة المستكفي بالله شهد موقعة شقحب بصحبة السلطان المملوكي محمد بن قلاوون، فكان يرتدي عمامة لها عزبة طويلة، ويتقلّد سيفاً محلّى بالزخارف، فوق كتف ردائه الأسود. ويبدو لنا أيضاً، ان ملابس الخليفة، لم تكن كلها سوداً دائماً. فقد ذكر ان الخليفة ظهر في حفلة تتويج الملك المنصور أبي بكر بن محمد بن قلاوون، وهو يرتدي ثوباً أخضر للتشريف، "خلعة" التشريفات، ويضع فوق عمامته طرحة سوداء فيها زركشة بيضاء، بديعة الجمال. ويقال ايضاً ان الخليفة، ظهر في ذي الحجة من العام 920ه اثناء دخوله الى القاهرة، وهو يرتدي العمامة البغدادية والقباء الأبيض من الصوف بالقلابة الصوفية الخضراء. ان ملابس الخلفاء وخلعهم، كانت متنوعة ومتفاوتة في آن. فقد لبسوا من الأزياء ما يدل على الأبهة، حين ارتدوا الفاخر منها، كما لبسوا من هذه الأزياء ما يدل على التواضع والزهد. ومما يروى، ان الخليفة المستعين بالله حين بويع في دمشق، كان يرتدي ثوباً خاصاً بالتشريف وكان عبارة عن ثوب "فوقاني" أسود اللون تناوله من خزانة ملابس خطيب الجمعة بمسجد قريب، كما يذكر ابن تغري 6/305. هذا وارتدى الخليفة ثوباً غير ثوب الخلافة، مفضلاً ملابس الطبقة العسكرية السائدة في عصره، فظهر مثلاً وهو يرتدي ثوباً من الحرير الأطلس المبرقش بزخارف متموجة، كما لبس قمصان الصوف البيض المبطنة بالفراء، وكانت تشابه ملابس السلاطين والأمراء. * استاذ في الجامعة اللبنانية.