خصّ الشاعر محمود درويش "الحياة" بقصيدتين جديدتين هما من جديده الشعري الذي كان ألقى بعضه في أمسية أحياها في عمّان مفتتحاً بها المهرجان الشعري الذي يضمّه مهرجان جرش. لكن الشاعر الذي أعاد صوغ القصيدتين آثر أن ينشرهما في صيغتهما النهائية بعدما عمدت بعض الصحف الى نشر احداهما منسوخة عن أشرطة التسجيل. وتنم القصيدتان عن المعالم الجمالية والرمزية التي بلغها شعره الجديد منفتحاً على آفاق اللغة المتوقّدة. موعد مع إميل حبيبي لا لأَرثيَهُ، بل لنجلسَ عشرَ دقائق في الكاميرا، جئتُ... كان الشريطُ مُعَدّاً لمعركةٍ بين دِيكَيْن، قُلْتُ له قبل موعدنا: عَمَّ تبحثُ؟ قال: عن الفرق بين "هنا" و"هناك" فقلتُ: لعلَّ المسافة كالواو بين هنا وهناك... مجازيَّةٌ قال: عَجِّلْ! تعال صباح غدٍ قبل موتي، وقبل تجعُّد زِيِّي الجديد.. خُذِ الشارعَ الساحليَّ السريعَ فرائحةُ المندرينة والبرتقال تُعيدُكَ من حيث مرَّ بعيدُكَ. أمّا أنا، فسأقضي نهاري الأخير على شاطئ البحرِ، أبحثُ عن سَمَكٍ هاربٍ من غِوَاية صُنَّارتي... لا لأرثيَهُ جئتُ، بل لزيارة نفسي: وُلدنا معاً وكبرنا معاً. أما زلتِ يا نَفْسُ أمَّارةً بالتباريح؟ أم صَقَلتْكِ، كما تصقُلُ الصخرةَ، الريحُ؟ تنقُصُنا هُدْنَةٌ للتأمُّل: لا الواقعيُّ هنا واقعيٌّ، ولا أَنتِ فوق سُطوح "الأولمب"، هناك، خياليَّةٌ. سوف أكسرُ أُسطورتي بيديَّ لأرشدَ نفسي الى نَفْسها... لا لأرثيَ شيئاً أَتيتُ... ولكن لأمشي على الطُرُقاتِ القديمةِ مَعْ صاحبي، وأَقول له: لن نُغَيِّرَ شيئاً من الأمس، لكنَّنا نتمنَّى غداً صالحاً للإقامةِ... لن يندمَ الحالمون ويعتذروا للروائيِّ أو للمؤرِّخ عمَّا يَرَوْنَ، وعما يريدون أَن/ يَروْا في المنامات. فالحُلْمُ أَصدقُ من واقعٍ قد يُغَيِّر شكلَ البناياتِ، لكنه لا يُغَيِّر أَحلامنا... أتيتُ، ولكنني لم أَصِلْ ووصلتُ ولكنني لم أَعُدْ. لم أَجِدْ صاحبي في انتظاري ولم أَجدِ المقعدين المُعَدَّيْن، لي ولَهُ، ولمعركةٍ بين ديكَيْن... كانَ كعادته ساخراً. كان يسخَرُ منَّا ومن نفسه. كان يحملُ تابوته هارباً من جنازته، قائلاً: سينما... كلُّ شيء هنا سينما! في بيت ريتسوس في دار بابلو نيرودا، تذكَّرْتُ يانيس ريتسوس. كانت أثينا تُرَحِّبُ بالقادمين من البحر، في مَسْرحٍ دائريّ مُضَاءٍ بصرخة ريتسوس: "آهِ فلسطينُ، يا اسمَ التراب ويا اسمَ السماء ستنتصرين..." وعانَقَني، ثُمَّ قَدَّمني شاهراً شارةَ النصر: "هذا أَخي". فشعرتُ بأني انتصرتُ، وأَني انكسرتُ كقطعةِ ماسٍ، فلم يبق منِّي سوى الضوءِ.../ في مطعمٍ دافئ، نتبادلُ بعض الحنينِ الى بَلَدَيْنا القديمين، والذكرياتِ عن الغد: كانت أَثينا القديمةُ أجملَ، أمَّا "يَبُوسُ" فلن تتحمَّل أكثَرَ، فالجنرالُ استعارَ قناعَ النبيّ ليبكي، ويسرقَ دمع الضحايا: عزيزي العَدُوَّ! قتلتُكَ من دون قَصْدٍ، عدوِّي العزيزَ، لأَنَّكَ أَزعجتَ دبَّابتي! قال ريتسوس: لكنَّ اسبارطة انطفأتْ في مَهَبّ الخيال الأَثينيِّ... إن الحقيقةَ والحقَّ صنوان ينتصران معاً. يا أخي في القصيدة! للشعر جسْرٌ على أمس والغد. قد يلتقي باعةُ السَمَك المُتْعبَون معَ الخارجين من الميثولوجيا. وقد يشربون نبيذاً معاً. قُلْتُ: ما الشعرُ... ما الشعرُ في آخر الأمر؟ قال: هُوَ الحادثُ الغامضُ، الشعرُ يا صاحبي هو ذاك الحنينُ الذي لا يُفَسَّر، إذ يجعلُ الشيءَ طيفاً، ولكنه قد يُفسِّرُ حاجتَنا لاقتسامِ الجمال العموميِّ.../ لا بَحْرَ في بيته، في أثينا القديمة، حيثِ الآلهاتُ كُنَّ يُدِرْنَ شؤونَ الخيال مَعَ البَشَر الطيّبين. وحيث إلكترا الفتاةُ تناجي إلكترا العجوزَ، وتسألها: هل أنا أنت حَقّاً؟ ولا ليلَ في بيته الضيِّق المُتَقشِّفِ فوق سطوحٍ تُطلُّ على الغابة المعدنيّةِ. لوحاتُهُ كالقصائد مائيَّةٌ. وعلى أرض صالونه كُتُبٌ رُصِفَتْ كالحصى... قال لي: عندما يحرُنُ الشعرُ أرسمُ فوق الحجارةِ بعضَ الفخاخ لِصَيْدِ القطا. قلتُ: من أين يأتي الى صوتك البحرُ يا صاحبي؟ قال: من جهة الذكريات، وإن كُنْتُ "لا أتذكَّرُ أنّيَ كنتُ صغيراً"... وُلدتُ ولي أخَوان عَدُوَّان: سجني ودائي - وأين وجدتَ الطفولَةَ؟ - في داخلي العاطفيِّ. أنا الطفلُ والشيخُ. طفلي يُعَلِّم شيخي المجازَ. وشيخي يُعَلِّم طفلي التأمُّلَ في خارجي. خارجي داخلي... كلما ضاق سجني تمدَّدْتُ في الكُلّ، واتَّسَعَتْ لُغَتي مثلَ لؤلؤة كُلَّما عَسْعَسَ الليلُ ضاءت. وقلتُ: تعلَّمْتُ منك الكثير. تعلَّمت كيف أحبُ الحياةَ، وكيف أجدِّفُ في الأبيض المتوسط/ لم يكترث لتحيَّة قدَّم لي قهوة. ثم قال: سيرجع أوديسُكُمْ سالماً. سوف يرجع. آه، فلسطين، يا اسم التراب، ويا اسم السماء، ستنتصرين...