القصيم تحقق توطين 80% من وظائف قطاع تقنية المعلومات    إجراء قرعة بطولات الفئات السنية للدرجة الثانية    «خليجي 26»: رأسية أيمن حسين تمنح العراق النقاط ال 3 أمام اليمن    الأخضر يتعثر أمام البحرين    المنتخب العراقي يتغلّب على اليمن في كأس الخليج 26    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية "أرويا"    رحلة تفاعلية    المدينة المنورة: وجهة استثمارية رائدة تشهد نمواً متسارعاً    الشرع : بناء سوريا سيكون بعيدا عن الطائفية والثأر    للمرة الثانية أوكرانيا تستهدف مستودع وقود روسيا    القمر يطل على سكان الكرة الأرضية بظاهرة "التربيع الأخير"    صلاح يعيد ليفربول للانتصارات بالدوري الإنجليزي    مشاهدة المباريات ضمن فعاليات شتاء طنطورة    وزير الداخلية يبحث تعزيز التعاون الأمني ومكافحة تهريب المخدرات مع نظيره الكويتي    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    شرطة العاصمة المقدسة تقبض على 8 وافدين لمخالفتهم نظام مكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص    39955 طالبًا وطالبة يؤدون اختبار مسابقة "بيبراس موهبة 2024"    الأمير فيصل بن سلمان يوجه بإطلاق اسم «عبد الله النعيم» على القاعة الثقافية بمكتبة الملك فهد    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    مقتل 17 فلسطينياً.. كارثة في مستشفى «كمال عدوان»    اتفاقية لتوفير بيئة آمنة للاستثمار الرياضي    السعودية تستضيف غداً الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    السعودية واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    نائب أمير الشرقية يفتتح المبنى الجديد لبلدية القطيف ويقيم مأدبة غداء لأهالي المحافظة    جمعية المودة تُطلق استراتيجية 2030 وخطة تنفيذية تُبرز تجربة الأسرة السعودية    ولادة المها العربي الخامس عشر بمحمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    نجاح عملية جراحية دقيقة لطفل يعاني من ورم عظمي    شركة آل عثمان للمحاماة تحصد 10 جوائز عالمية في عام 2024    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "الوعلان للتجارة" تفتتح في الرياض مركز "رينو" المتكامل لخدمات الصيانة العصرية    فتيات الشباب يتربعن على قمة التايكوندو    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    تنفيذ حكم القتل بحق مواطنيْن بتهم الخيانة والانضمام لكيانات إرهابية    أسمنت المنطقة الجنوبية توقع شراكة مع الهيئة الملكية وصلب ستيل لتعزيز التكامل الصناعي في جازان    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «كنوز السعودية».. رحلة ثقافية تعيد تعريف الهوية الإعلامية للمملكة    ضبط 20,159 وافداً مخالفاً وترحيل 9,461    ولي العهد يطمئن على صحة ملك المغرب    «العالم الإسلامي»: ندين عملية الدهس في ألمانيا.. ونتضامن مع ذوي الضحايا    إصابة 14 شخصاً في تل أبيب جراء صاروخ أطلق من اليمن    «عكاظ» تنشر توصيات اجتماع النواب العموم العرب في نيوم    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    «يوتيوب» تكافح العناوين المضللة لمقاطع الفيديو    لمحات من حروب الإسلام    معرض وزارة الداخلية (واحة الأمن).. مسيرة أمن وازدهار وجودة حياة لكل الوطن    رحلة إبداعية    «موسم الدرعية».. احتفاء بالتاريخ والثقافة والفنون    السعودية أيقونة العطاء والتضامن الإنساني في العالم    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    الأمر بالمعروف في جازان تفعِّل المعرض التوعوي "ولاء" بالكلية التقنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"مختارات" تكسر هيمنة الشعراء الأربعة "الكبار". الشعر اليوناني الجديد ينتمي الى حداثة العصر ويحاور ظلال الماضي

يحتل الشعر اليوناني الحديث منذ أواسط الستينات حيّزاً مهمّاً في حركة الترجمة الشعرية العربية على رغم أن معظم الترجمات اليونانية تمّت انطلاقاً من لغتين وسيطتين هما الفرنسية والانكليزية. وإن كان سعدي يوسف سبّاقاً في "توليف" ما يشبه الديوان للشاعر كافافيس فإن الترجمات لم تتوقف أبداً على مرّ السنوات وتعاقب الأجيال. وما برح الكثيرون من الشعراء العرب أو النقاد يفاجئون القراء ببعض الترجمات التي تنشر حيناً تلو حين في الصحف أو المجلات. على أن "نجم" هذه الترجمات هو يانيس ريتسوس، الشاعر الذي كان له أثر لافت على بعض الشعراء الجدد. وكان ينبغي انتظار بادرة الناقد المصري نعيم عطية ليقرأ العرب الشعر اليوناني مترجماً عن اللغة الأم. فهو نقل معظم شعر كافافيس ومعظم قصائد جورج سفيريس وأصدرها في القاهرة. لكن ترجماته لم تحل دون استمرار "المحاولات" التي يقوم بها الآخرون عن اللغتين الوسيطتين وكأن هذه الترجمات عن اللغة الأم لم تروِ غليل الشعراء والنقاد. ومضى بعضهم في نقدها وفي ظنهم أن معرفة اللغة اليونانية لا تكفي لصنع ترجمة مهمة في متن اللغة العربية. هكذا مضى الشاعر المصري رفعت سلاّم في ترجمة كافافيس عن ترجمات انكليزية عدة فيما استمرّت ترجمات ريتسوس من غير انقطاع. أما جورج سيفريس فلم يترجم إلا قليلاً وآخر مَن ترجم قصائد له الناقد صبحي حديدي وعن الانكليزية أيضاً. "الحدث" المفاجئ هو الترجمة الكاملة لديوان "أكسيون إستي" للشاعر اليوناني الكبير أليتيس وكان تصدّى له الشاعر العراقي شاكر لعيبي في ترجمته الفرنسية ساعياً الى تعريبه وشرح أسراره أو ألغازه.
ما برح الشعر اليوناني الحديث إذاً مقتصراً في اللغة العربية على هؤلاء الشعراء الأربعة. وإذا استثني كفافيس الذي عاش ومات في الاسكندرية 1863 - 1933 منتمياً الى عالم إغريقي - متوسطي خاص جداً فإن الشعراء الثلاثة انتموا الى جيل واحد يُسمّى في اليونان "جيل ما بعد الحرب الثانية". علماً أن جورج سفيريس يكبر يانيس ريتسوس تسع سنوات وأوديسياس إليتيس احدى عشرة سنة. وضم هذا الجيل أسماء أخرى لا تقل أهمية لكنها ظلّت أسيرة الانتماء اليوناني ولم يتسن لها أن تترجم كما يجب وأن تحظى بالشهرة أو الرواج. ولعل فوز سفيريس بجائزة نوبل 1963 وكذلك أليتيس 1979 ساهم في ترسيخ اسميهما عالمياً فيما لم يكن ريتسوس يحتاج الى جائزة عالمية كي يحظى بالرواج فهو كان في طليعة الشعراء العالميين المناضلين والمضطهدين الذين سلّطت عليهم الأضواء وخصوصاً في مرحلة الحرب الباردة. ولعل الطابع الأليف واليومي الذي اتسم به شعره ساعد على ترجمته وانتشاره أكثر من شعر رفيقيه في الجيل نفسه.
هذه "القضية" قضية رواج الشعراء الأربعة عرفتها أيضاً حركة الترجمة في فرنسا إذ حظي هؤلاء الشعراء اليونانيون الأربعة بالشهرة والأضواء وترجمت قصائدهم مراراً وراجت كتبهم في صيغ مختلفة فيما وقع الشعراء الآخرون "ضحايا" النسيان أو الاهمال. ويعترف أحد كبار مترجمي الشعر اليوناني الى الفرنسية ميشال فولكوفيتش انه طالما ظن أن الشعر اليوناني ينحصر في هذه الأسماء الأربعة. لكنه في "المختارات"* التي وضعها حديثاً بالفرنسية حاول أن يمنح الشعراء المنسيين بعضاً من حقهم راسماً صورة بانورامية وشاملة للشعر اليوناني الحديث بدءاً من العام 1945 وانتهاء في العام 2000. وقد تكون هذه "المختارات" هي الأهم والأعمق والأشمل بحسب ما تتيح مقولة "المختارات". وكانت سبقتها "مختارات" أخرى صدرت في العام 1990 عن دار "أكت سود" في سلسلة "مكتبة الأونسكو للشعر العالمي".
لعل مثل هذه "المختارات" هو ما ينقصنا في اللغة العربية ما دام الشعراء العرب والنقاد مشغولين بالشعر اليوناني المعاصر. وقراءة "المختارات" تؤكد حجم الظلم الذي حلّ بالشعراء الآخرين وبينهم أسماء كبيرة حقاً وأصيلة ومجدِّدة. إلا أن "الظلم" الذي حلّ بهؤلاء لا يعني أن الأسماء الأربعة لا تستحق الرواج الذي عرفته على رغم اختلاف تجاربهم بعضها عن بعض. الشاعر جورج سفيريس يحسّ دوماً، كما يعبّر جاك لاكاريير في تقديمه "المختارات"، أنه "تائه يبحث عن وطن مفقود"، وطن يسميه "أرض الرفاق في الضفة الأخرى". فهو، خلال حياته وشعره سيكون شاهداً على "يونان" حاضرة وغائبة في الحين عينه، وفيها "يضحي كل مكان حقيقياً كان أم أسطورياً، بمثابة شوكة معترضة في الذاكرة". إلا أن سفيريس لن يكون إلا ذلك الشاهد - الشاعر الذي سكن "بلاده" حلماً وواقعاً. "حيثما يحملني السفر تجرحني اليونان" يقول في احدى قصائده. أما أوديسيوس إليتيس السوريالي النشأة فهو يمثل تجربة أخرى وسط هذا الجيل، جيل ما بعد الحرب الثانية. وتكفي العودة الى قصيدته الملحمية "أكسيون إستي" كي تَبينَ مقدرتُه الكبيرة في دمج الشعر بالنثر واعتماد النفس الانشادي من غير الوقوع في الانشاد الديني. ففي هذه القصيدة "المتوهجة" تنبثق الصور المشعة التي يحفل بها التراث البيزنطي. ولم يتوان الشاعر في قصائده الملحمية ومنها "مريم الضباب" عن الاحتفاء باللغة - الأم، لغة هوميروس والألياذة. وبدا مفاجئاً كيف ان شاعراً، بدأ سوريالياً وترجم ضمن مَن ترجم: لوتريامون ورامبو، ولم يقع أسير هذا الانتماء الشعري، بل سعى الى ترسيخه انطلاقاً من جذوره الاغريقية من دون أن يشعر بأي تناقض أو اغتراب. وهكذا اختلطت في شعره أصداء الماضي الاغريقي القديم وأصوات التراث البيزنطي وايقاعات العصر الحديث والثورات اللغوية والشعرية. "إباحي صوفي، سوريالي بيزنطي" يصفه جاك كاريير ويضيف: "يبقى إليتيس خالق لغة مطلقة، شهوانية ومضيئة ظلّت في نظري، المفتاح السحري للعناصر التي أسست اليونان".
الشاعر يانيس ريتسوس "العملاق" الثالث في ذلك الجيل كما يصفه أيضاً جاك لاكاريير قد لا يحتاج الى تعريف، فهو حظي بقراءات نقدية كثيرة في اليونان والعالم امتدحت "حداثته" الخاصة و"تقنياته" الشعرية التي لم تكن مألوفة في السابق. وهو نجح أيما نجاح في التوفيق بين البعد الميتافيزيقي والبعد اليومي في القصيدة، بين النفس الشخصي والالتزام، بين التفاصيل والجوهر، بين الغنائية أو الانشاد والواقعية المشهدية... شاعر ملتزم ومناضل أدخل السجون ونُفي وعذّب واضطهد. لكنه أيضاً شاعر الشمس والضوء والبحر، شاعر الماوراء الذي لا يختلف بحسبه عن جوهر الحياة نفسها، شاعر الفردوس الأرضي الذي لا يضيره ان يشبه فردوس أفلاطون الغائب.
شعراء واجيال
قد لا يجوز الكلام عن هؤلاء الثلاثة وحدهم وفي منأى عن جيلهم الذي ضمّ أيضاً شعراء كباراً من مثل: انجلوس سيكيليانوس وأندرياس أمبيريكوس ونيكوس أونغونوبولس وسواهم. ولكن يصعب تناول هؤلاء كشعراء فرادى من خلال ترجمات قليلة لهم. أما ما ينبغي التوقف عنده فهو جيل السبعينات في اليونان. وقد برز هذا الجيل في المرحلة التي أعقبت فترة "الانتقال" إن جاز التعبير بين شعر أو جيل ما بعد الحرب الثانية والشعر الراهن على اختلاف أجياله. وفترة الانتقال هذه صنعها شعراء معاصرون من مثل مانوليس أناغنوستاكيس وميلتوس ساكتوريس وتاسوس ليفاديتيس وتاكيس سينوبولوس وتيتوس باتريكيوس... وهؤلاء كانوا أيضاً شهوداً على التجارب نفسها التي واجهها الشعراء السابقون وخاضوا التحديات نفسها كذلك. غير ان هؤلاء الشعراء لم يعقبوا الشعراء الثلاثة الكبار مقدار ما رافقوهم على رغم اختلاف الأعمار. وينبغي عدم نسيان أن ريتسوس وأليتيس ظلاّ يكتبان حتى منتصف الثمانينات. ويختصر جاك لاكاريير في مقدمته السنوات الممتدة بين 1950 و1970 في ما يسميه "مناخ خريف دائم، رائحة أو لون خريف دائم". والخريف هنا، في الشعر اليوناني، يعني الوضوح و"حتمية الربيع المفقود". ولعل هذا الربيع المفقود هو الذي "غنّاه" هؤلاء الشعراء. والربيع المقصود هو ربيع الثورة أو النهضة المجهضة. ويرى لاكاريير ان شعراء هذا "الربيع" المجهض عبّروا عن التقزز والاضطراب والقلق واليأس كما واجهها جميعاً جيل شاهد أحلامه تنهار. فلا وطن حراً ومستقلاً وجديداً. وبعض هؤلاء الشعراء أدخلوا السجون ونفيوا على غرار ريتسوس وسواه في ظل النظام العسكري وحكم اليمين.
لعل اللافت في الشعر اليوناني مدى ارتباطه بالتاريخ، تاريخ اليونان. هذه الظاهرة ربما ورثها الشعراء اليونانيون المعاصرون عن معلمهم الأول هوميروس. وربما فرضها التاريخ المأسوي والمتقلب الذي شهدته اليونان في العصر الحديث: من الاحتلال الألماني 1941 الى الحرب الأهلية 1944 - 1949 فإلى الحرب الباردة وحكم العقداء أو "الكولونيلات" 1967 - 1974... وخلال هذه الفترات فُتحت أبواب السجون وأوقف المعارضون وعذّبوا. وكان الكثيرون من الشعراء في عداد المعارضين والمعذبين والمسجونين. ولم يكن على الشعر إلا أن يكون شاهداً على ما يجري. كان عليه أن "يلتزم" قضايا المواطنين وهمومهم السياسية وأن يكون بمثابة "الجبهة" التي تواجه حكم العسكر. وتكفي العودة الى القصائد التي كتبها ريتسوس في هذه الفترة، داخل السجن أو في مخيمات التأهيل لإدراك أبعاد هذه "المواجهة". غير أن الالتزام الذي عرفه الشعر اليوناني لم يكن مجرّد التزام حتى وإن أغرق في السياسة أو التسييس. فالشعر الملتزم تصخب فيه أصداء الماضي البعيد والقريب، الاغريقي والبيزنطي. وهو لا يتخلى عن غنائيته وإنشاديته وملحميته "الموروثة" ولا عن الإرث الفلسفي والتراجيدي أو المأسوي العظيم ولا عن القضايا العميقة التي أثارها الأسلاف بدءاً بهيراقليط وانتهاء بأفلاطون. وقد يبدو الشعر اليوناني غريباً حقاً في قدرته على الجمع بين المتناقضات التي يصعب الجمع بينها: الالتزام والماوراء، الغنائية والواقعية، الملحمية والسوريالية، الأصالة والحداثة، الخاص والعام، النخبوية والشعبية. هكذا لم يتوان الشعر عن أن يكون فسحة لقاء وانصهار على رغم انفراده ب"عبادة" التاريخ اليوناني والجغرافية اليونانية، الطبيعية والروحية والحضارية. يقول الشاعر تاكيس سينوبولس مختصراً هذه المسألة: "الشاعر ينقسم الى اثنين".
جيل السبعينات
وعودة الى جيل السبعينات في اليونان لا بد من الاشارة بدءاً الى أن هذا الجيل نشأ على أنقاض الثورة التي أُجهضت قبل أن تولد ووسط الخراب العام الذي كانت تركته الحرب الأهلية. في مثل هذا الجو القانط واليائس الذي توّجه موت الحلم الديموقراطي على أيدي "عقداء" الجيش كان على شعراء جيل السبعينات أن يبحثوا عن لغتهم الخاصة وعن شهادتهم الخاصة على الواقع والتاريخ. وكان لا بد للشعر من أن يزدهر في هذه الحقبة وأن تشهد الحركة الشعرية ما يشبه النهضة الأخرى. بعض الشعراء الجدد عادوا الى منابع الشعر الشعبي في بعض الأحيان ميكايلس غاناس وثاناسيس هادزوبولوس. وتحرّر بعض الشعراء الآخرين من ربقة التاريخ والمرجعيات الاجتماعية والسياسة ومن المعايير الأخلاقية والدينية. ويقول جاك لاكاريير في هذا الصدد: "الثورة والارثوذكسية اللتان كانتا من الموضوعات الأساسية في الإبداع الشعري اندثرتا خلال هذه السنوات". واستوحى بعض الشعراء الأساطير القديمة ولا سيما المأسوية القاتمة ولكن رافضين أن يكونوا "رائين" أو مهووسين بالموتى. "شعر صريح، يمكن أن نقول وفي طريقة ما، شعر جديد". يضيف لاكاريير واصفاً شعر جيل السبعينات. ومن أسماء هذا الجيل: يانيس كوندوس، كريستوفوروس ليونداكيس، مانوليس براتيكاكيس، أناستيس إيفانغيلو... ويلمس قارئهم نزعة تشاؤمية بارزة تعتري قصائدهم لكنها لا تحول دون صعود "الضرورة" الشعرية لديهم ولا دون فرادتهم أو صراحتهم. وعلى رغم الشك بالتاريخ وغموض المستقبل راح هؤلاء الشعراء يسائلون أنفسهم ويغرقون في ذواتهم من غير أن يشغلهم همّ مجاراة العصر. وتمّت أخيراً تسوية "الأمور" بين المرجعية الذاتية والحميمة للابداع الحقيقي وبين الطابع "الارغاميّ" للتاريخ، بين الأنا العميقة والمجتمع، بين اللاوعي الفردي والذاكرة الجماعية. ولم يبد أي شاعر من هذا الجيل مهموماً في أن يجاري عصره وأن يتبعه أو أن يكون شاعر هذا العصر أو شاهداً عليه، ساكناً إياه أو متهماً إياه أيضاً. ومضى بعض الشعراء في جعل اليأس المطلق أو الخيبة مادّة شعرية بامتياز. ولعل أكثر ما يميّز شعراء هذا الجيل، جيل السبعينات، قضايا عدة، شعرية ولغوية، فكرية واجتماعية ومنها: استيحاء الذات والغوص عليها، رفض أي نموذج شعري جاهز ورفض أي وصاية وأي "معلّم"، شبه تخلّ عن نظام العروض، التحرّر من الطوق التقليدي والجماعي ومن الانتماء السياسي والديني والفلسفي... واستطاع هذا الجيل أن ينفتح على الشعر العالمي من خلال الترجمات التي دأبت على نشرها المجلات الشعرية التي أنشأها الشعراء أنفسهم. أما الأجيال التي تلت جيل السبعينات فلم تقلّ عنه تحرراً وكسراً للتقاليد وتخطياً للخطاب الشعري الذي كان سائداً. وقد تجاوز الشعراء الجدد كل المحظورات والممنوعات التي عرفها الشعراء السابقون ليكتبوا شعراً حراً في لغته وأساليبه وأنواعه. ولا يختلف الشعراء الجدد عن الشعراء الذين يجايلونهم اليوم سواء في أوروبا أم في أميركا. فالموجات ما بعد الحداثية تتخلل "المختارات" وأثر الشعر الأميركي وخصوصاً إرث جيل "البيت" بدا واضحاً في بعض الشعراء. ولكن يصعب فعلاً تحديد الخريطة الشعرية الراهنة في اليونان انطلاقاً من "مختارات" تمثل قرابة نصف قرن على رغم أهميتها وشموليتها. فالأجيال الجديدة وضمنها أصوات نسائية مميزة تحتاج الى "مختارات" خاصة ترسّخ تجاربها والمدارس التي تنتمي إليها والثورات التي تخوضها داخل اللغة اليونانية التي غالباً ما تفترض الكتابة بها "حواراً" أسطورياً مع ظلال الماضي العريق.
* Anthologie de la poژsie Grecque Contemporaine 1945 - 2000, Gallimard, Paris 2000.
العلبة السوداء
العلبة السوداء علبةُ حياتنا
مَن سيجدها بين الحطام المحترق؟
من سيخرجها بخفة ومن سينحني
فوقها باغتمامٍ
ليتبيّن أسبابَ المأساة؟
وما دام حصل ما كان ينبغي أن يحصل
فما الجدوى إذاً
ما دمنا سننكفئ شاحبين تماماً
الى الأرض المنقوبة،
أرضِ اليفاع
من دون أن نعرف أحداً
من دون أن نبحث عن شيء.
هكذا إذاً من الأفضل أن تختفي
علبتنا السوداء
أن تنتنَ في ناحية من الحقول
أن يرتمي العشب فوقها صامتاً
وأن يغطيها تماماً
ولا يترك إلا نتوءاً في الأرض
وهذا كل شيء.
ديمتريس هولياراكيس
هكذا سيهرم العالم
سيهرم العالم، كمثل مدينة،
تشعل في غارب النهار، جواهرها الشاحبة،
وكمثل حفيف حرائرها الناعم،
كمثل هذه النداوة التي تهفّ من مساكبها،
أزهارها الأثيرة ستقطفها أيدينا.
هكذا ستنأى حياتنا، عود المشعل
سينهض الى المصابيح،
وكما تشتعل الأنوار في السماء ليلاً،
كما يتحد الموت والنعناع على شرفة،
سنُرفع نحن، التماثيل، نحو آبائنا.
هكذا سنرحل في مغيب هذا العالم
منزلقين وحدنا على مركب مسحور،
ورجل منحنٍ، نادر الإسم،
يهجر الضوء المحتضر بهدوء نظرته
وبصوت هامس يشرع
في انشاء تسابيح الصباح.
ديونيزيس كابساليس
ملاك زاهد
روحي تركل الأحلام
ولكن في النهار أتقيأ الصفراء
التي تسقيني إياها الظلمة
أطلب من الأحياء أن يأكلوا
أن ينسوا الشهوات
احتفي بذكرى جسدي
حداداً مسكوناً بأله
أرثي المتوفين المحتملين
وأحياناً في الغياب تستأثر بي
هالة الموتى.
ثناسيس هادزوبولس
الأصدقاء
هنا يبدأ السفر
عبر هذه المنحدرات التي تتنفس
بلا روح. عبر هذه الأشجار
التي قبل زمنٍ غفرت لي كلّ ما اقترفت
والتي لا يتناهى اليها
الا انسياب الماء في الحلوق.
سأذهب. اني تلقيت النعمة الباطلة
في أن أسمع كلمة البارئ:
كان ما زال يمشي على الأمواج.
كان يبكي قدْر كانت المياه تصعد.
حين انحسرت المياه، لم أجد سوى
زغب الأرياش.
هنا يبدأ الأزل الودود
حيثما التأوه له مكافأته
حيثما الدم يبتسم وسط مرارته
وكل فقدان يخرس
والعصفور الذي في القفص
يتذكر شجرة الكستناء التي تمتد جذورها الى النهر
حتى أقصى الطلقات الأولى للبندقية.
وان أحببت، من دون مكان
شرعيّ أُلقي فيه حياتي،
فإن نوعي ذو أصالة.
إنّ في أروقتي ذهباً.
إنني أصغي الآن الى القمر عن قرب
الى الدخان المتكاسل، دخان المراكب
التي ترسو هناك
الرجل الذي على صدره أزهار
خائفٌ
وكذلك الرجل ذو الخدين الأبيضين
ولكنْ أنتن، يا صديقاتي،
ايتها القطرات، ايتها اللآلئ بين العشب،
اللواتي شئت منهن الروح والجسد
باكيةً في خدمتهن
أين تكنّ في هذا العقاب
في هذه الشدّة الصافية
حينما الجبال لا أصدقاء لها.
ديمترا كريستودولو
الجهل القديس
ها إني أصبح أسطورة
تتيه تحت معطف من إثم.
لا تعيبوا عليّ الشجاعة أو الحلم
إنْ رأيتم خُفّيَّ،
ذينك المسترسلين على سقفية الأرق.
حريق شخصي، هوذا ما كنت أبغي.
لم أكن أعلم أنّ عليّ أولاً
ان أحرق فردوسي.
أثينا باباداكي
الذهب
يوماً ما
سنتوقف
مثل عربة جياد زرقاء سماوية
في عمق الذهب
لن نحصي
الجياد السود
ولا اضافات نقوم بها
لا شيء نوزّعه
في يدنا
قطعة خشب
سنعبر
الثقبَ الأسود
ثقبَ الشمس
الذي يحترق.
ميلتوس ساكتوريس
فصل السقوط
ذهبُ الخريف
سالَ في غرفتنا
راح جسدك يحفّ فيَّ
كأوراق يابسة
يطأها الأولاد
لدى عودتهم من المدرسة.
الطبيعة تجمعت كلها
في شجيرة واحدة
تهيء بشجاعة
سقوطها القرمزي.
بدرت حركتك
كمثل قُبلِ الريح
التي تعرّي الأغصان
من بهارج الأنانية.
آه! لا تكون بشرى النهاية أبداً
على حماسةٍ كهذه
إلا عندما تبين الشمس قليلاً
لتتكئ لحظة
على الذرى اليائسة
للأشجار نصف العارية.
لا يكون الحبّ أبداً
ناعماً في الفم
إلا عندما أحمل زهرتك
الى كم من الوقت؟ قليلاً أيضاً
قوتي مسحوبةٌ
مطعّمة بالبروق.
صفيقةً بعد الآن أتحدّى
الظلماتِ، الموتَ،
وشقاء النهاية.
كاتيرينا انخيلاكي - روك
* ترجمت هذه القصائد عن الفرنسية.
تعريب: ع. و.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.