يلتهم خروفا في 30 دقيقة    15 مليار دولار لشراء Google Chrome    أقوى 10 أجهزة كمبيوتر فائقة في العالم    تنافس شبابي يبرز هوية جازان الثقافية    لماذا رفعت «موديز» تصنيف السعودية المستقبلي إلى «مستقر» ؟    إصابة طبيب في قصف إسرائيلي استهدف مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة    مسودة "كوب29" النهائية تقترح 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة    «اليونيسف» تحذر: مستقبل الأطفال في خطر    3 أهلاويين مهددون بالإيقاف    اختبارات الدور الثاني للطلاب المكملين.. اليوم    "مركز الأرصاد" يصدر تنبيهًا من أمطار غزيرة على منطقة الباحة    "الداخلية" تختتم المعرض التوعوي لتعزيز السلامة المرورية بالمدينة    «الغرف»: تشكيل أول لجنة من نوعها ل«الطاقة» والبتروكيماويات    افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    المدينة: ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون مجمع طباعة المصحف ومواقع تاريخية    «مجمع إرادة»: ارتباط وثيق بين «السكري» والصحة النفسية    رصد أول إصابة بجدري الماء في اليمن    600 شركة بولندية وسلوفاكية ترغب بالاستثمار في المملكة    آل غالب وآل دغمش يتلقون التعازي في فقيدهم    أمراء ومسؤولون يواسون أسرة آل كامل وآل يماني في فقيدتهم    المملكة تعزز التعاون لمكافحة الفساد والجريمة واسترداد الأصول    نائب وزير التجارة تبحث تعزيز الشراكة السعودية – البريطانية    «واتساب» يتيح التفريغ النصي للرسائل الصوتية    بحضور سمو وزير الثقافة.. «الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    تحفيزًا للإبداع في مختلف المسارات.. فتح التسجيل في الجائزة السنوية للمنتدى السعودي للإعلام    فعاليات متنوعة    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    القِبلة    111 رياضيًا يتنافسون في بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    30 عاماً تحوّل الرياض إلى مركز طبي عالمي في فصل التوائم    الأكريلاميد.. «بعبع» الأطعمة المقلية والمحمصة    خسارة إندونيسيا: من هنا يبدأ التحدي    مشكلات المنتخب    تأثير اللاعب الأجنبي    فرع وزارة الصحة بجازان يطلق حزمة من البرامج التوعوية بالمنطقة    «النيابة» تدشن غرفة استنطاق الأطفال    «صواب» تشارك في البرنامج التوعوي بأضرار المخدرات بجازان    القبض على مقيم لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر وسرقة مبلغ مالي بالرياض    الخليج يُذيق الهلال الخسارة الأولى في دوري روشن للمحترفين    مستقبل جديد للخدمات اللوجستية.. شراكات كبرى في مؤتمر سلاسل الإمداد    "تقني‬ ‫جازان" يعلن مواعيد التسجيل في برامج الكليات والمعاهد للفصل الثاني 1446ه    الأساس الفلسفي للنظم السياسية الحديثة.. !    1.7 مليون ريال متوسط أسعار الفلل بالمملكة والرياض تتجاوز المتوسط    معتمر فيتنامي: برنامج خادم الحرمين حقّق حلمي    سالم والشبان الزرق    الجمعان ل«عكاظ»: فوجئت بعرض النصر    الحريق والفتح يتصدران دوري البلياردو    المدى السعودي بلا مدى    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    فيصل بن مشعل يستقبل وفداً شورياً.. ويفتتح مؤتمر القصيم الدولي للجراحة    وزير التعليم يزور جامعة الأمير محمد بن فهد ويشيد بمنجزاتها الأكاديمية والبحثية    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رداً على إدوارد سعيد : فاغنر وإسرائيل والتطبيع ... وقضايا أخرى تتصل بالنزاع في المنطقة
نشر في الحياة يوم 29 - 08 - 2001

في مقالة ضافية على صفحات "الحياة" الأربعاء 15 آب / أغسطس 2001 طاف بنا الكاتب والأستاذ الجامعي المعروف ادوارد سعيد في عوالم شديدة التداخل والتباعد في آن تدور كلها حول المؤلف الموسيقي الألماني الفذ المثير دوماً للجدل ريتشارد فاغنر. إلا أنه بعد الانتهاء من قراءة المقالة بعناية لا يملك المرء سوى أن يكتشف أن الدكتور سعيد لم يكتف بالمساهمة في الجدل الدائر منذ نحو قرن ونصف القرن حول فاغنر، بل طرح في قلب الموضوع وعلى هوامشه كثيراً من الرؤى والأحكام التي أقل ما يمكن وصفها به هو أنها شديدة الإثارة، ليس فقط للجدل، بل أيضاً للخلاف مع معظمها.
ولأن فاغنر هو قلب الموضوع، فربما كان الأكثر ملاءمة ومنطقية البدء بالملاحظات المتعلقة برؤية الدكتور سعيد له وبالأحكام التي أطلقها عليه. وقد يكون مفيداً قبل أي شيء التأكيد على أن الجدل الواسع حول هذا العبقري الموسيقي الألماني لم يكن فقط - كما ذكر سعيد - بسبب أنه "كان يتقصد إثارة الجدل ويلح في سبيل جذب الانتباه"، بل كان وراءه ما أبدعه من موسيقى وما طرحه من آراء في قضايا شتى، وتكفي الإشارة هنا إلى أن أحد الباحثين الفرنسيين المتخصصين أحصى في المكتبة الغربية ما يزيد على 45 ألف دراسة ومقالة وكتاب ورسالة جامعية عنه بما يجعله الشخصية الثالثة الأكثر كتابة عنها بعد السيد المسيح ونابليون بونابرت في تلك المكتبة.
ووسط سيل من الكتابات الجدالية حول فاغنر اختار سعيد منذ الفقرة الأولى لمقالته أن يطلق أحكاماً مطلقة في ما يخص ما وجه إليه من اتهامات ب"معاداة السامية" وعلاقته بالنظام النازي في ألمانيا، منحازاً بذلك إلى الرؤية اليهودية والإسرائيلية الأكثر تشدداً تجاه الموسيقي الألماني والتي يرفضها بعض المعتدلين الإسرائيليين وفي مقدمهم - كما أشار هو في ثنايا مقالته - صديقه الموسيقار وعازف البيانو دانيال بارنباوم الذي كرس القسم الأكبر من تلك المقالة للاحتفاء بموقفه من عزف فاغنر في الدولة العبرية.
وتبدو ملامح ذلك الانحياز، ليس فقط في وصفه بأنه كان "لا سامياً متطرفاً مثيراً للاشمئزاز" ولا "بكونه الموسيقي المفضل لدى هتلر"، بل أكثر من ذلك حيث "ارتبط اسمه بالنظام النازي وما ارتكبه من أهوال وجرائم ابادة بحق اليهود وغيرهم من الأقوام "المنحطة". وتبدو صياغة ذلك الاتهام للعبقري الألماني موحية بأنه كان شريكاً مباشراً في تلك الأهوال والجرائم النازية على رغم وفاته قبل وصول هتلر إلى الحكم في ألمانيا العام 1933 بستين عاماً كاملة، وعلى رغم أن الذي قام باختيار فاغنر كموسيقى مفضل له كان هو هتلر إعجاباً منه بتمجيده "الروح الألمانية" الذي يعد جوهر انتاجه الموسيقي الأوبرالي، وليس بسبب ما يشاع عنه من "معاداة للسامية ولليهود". ويمضي الانحياز ضمنياً واضحاً في القسم الثاني من الجملة نفسها، حيث يضع سعيد اليهود باعتبارهم أول وأبرز من خضع لأهوال وجرائم الإبادة النازية، ثم بعد ذلك غيرهم من الأقوام الأخرى. ولا يبتعد ذلك الحكم وتلك الصياغة كثيراً عما تروّج له الأوساط اليهودية والصهيونية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على رغم مخالفته للحقائق الثابتة لما حدث في تلك الحرب والتي نتج عنها نحو 50 مليون قتيل منهم أكثر من 25 مليوناً في الاتحاد السوفياتي السابق وحده، وهي الأرقام التي لا تضع اليهود في موقع أول الضحايا حتى لو قبلنا رقم الستة ملايين يهودي الذي يصر عليه معظمهم رغم الشكوك الجادة الكثيرة التي تحيط بصحته. وضمن ذلك السياق التقديمي كان منطقياً أن يصل سعيد إلى التطابق مع الرؤية اليهودية والإسرائيلية الأكثر تشدداً بشأن فاغنر حين يردف فوراً بأنه "من هنا الحظر غير الرسمي في إسرائيل على تقديم عروض عامة لموسيقى فاغنر"، مقدماً بذلك تبريراً "عربياً" لتلك الرؤية مما يدعم ترويجها أكثر من الرواج الذي هي عليه فعلاً.
والحقيقة أن اتهام فاغنر بمعاداة السامية واليهود وتأثيره على هتلر وأفكاره النازية المتطرفة يحتاج إلى بعض التوضيح والمناقشة. فالاتهام الأول يقوم أساساً على ما جاء في كراسة صغيرة لا تزيد عن 25 صفحة حملت عنوان "اليهودية في الموسيقى" نشرها الموسيقي الألماني للمرة الأولى باسم مستعار العام 1850 ثم أعاد نشرها بإسمه الصريح العام 1869، بالإضافة إلى كتابات قصيرة متفرقة له أتى فيها على ذكر اليهود. ولا شك أن رؤية فاغنر في كراسته وكتاباته لليهود يمكن وصفها بالسلبية، والتي جرى العرف على وصف أي درجة منها بأنها "معاداة للسامية" من جانب الدوائر اليهودية والصهيونية حول العالم وهو ما حدث بصورة مكثفة مع فاغنر. ولكي تتضح أبعاد هذا الموقف من اليهود فمن الضروري التعرف على مضمونه الحقيقي والدوافع التي كمنت وراءه فضلاً عن السياق التاريخي الذي أعلن ضمنه. فأما مضمونه فمن الواضح أنه يرتبط مباشرة برؤية فاغنر للمُلكية والثروة، فهو يرى أن الشر الحقيقي هو هذان الشيئان، ويعد اليهود في تقديره التجسيد الحي للشر من هذه الزاوية نظراً لسيطرتهم على الثروة والملكية، وهو تقدير لا يبتعد كثيراً عن حقيقة الأوضاع السائدة في ألمانيا وكثير من الدول الأوروبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ويرتبط تبني الموسيقار الألماني لهذا التقدير بما عرف عنه من انتماء إلى الاتجاهات الثورية والرومانسية، وهي الاتجاهات التي كانت تتبنى مثل ذلك التقدير وأكثر منه تطرفاً في عموم القارة الأوروبية. وتؤكد مسيرة فاغنر، الفنية والفكرية السياسية، أنه كان ثائراً سياسياً صلباً إلى جانب كونه فناناً رومانسياً أصيلاً، وازداد انخراطه في الحركات الثورية لأوروبا آنذاك مع توافق الثورتين الكبيرتين لفرنسا وألمانيا عامي 1830 و1848 مع صباه وشبابه. وأدت مشاركته الفاعلة في الأخيرة في ألمانيا إلى مغادرته بلاده والإقامة في سويسرا لاجئاً ل15 سنة من دون عمل تقريباً. وضمن السياق نفسه يؤكد المؤرخون أن الأطروحات السلبية تجاه اليهود والتي تصل فعلاً إلى العنصرية، لم تكن شائعة فقط في الأوساط الثورية والرومانسية القومية، بل أيضاً بين عموم الناس وفي الدوائر الأكاديمية والجامعية التي كانت تتداول كتابات يمكن وضعها ضمن تلك النزعة.
ضمن ذلك السياق اجتمعت للموسيقار الألماني دوافع أخرى أكثر شخصية لكي يتبني الموقف السابق. فمن ناحية مثلت منافسته الفنية مع مؤلف الأوبرا اليهودي الألماني المعروف مايربير، وكذلك الموسيقار المشهور مندلسون، دافعاً واضحاً لتبني آرائه السلبية، وبخاصة في ظل اضطراره الى الاقتراض من منافسه الأول بفوائد ربوية عالية. كذلك فإن خبرة فاغنر المؤلمة مع كثير من المرابين اليهود الذين اضطر الى الاقتراض منهم أثناء سنوات أزمته ونفيه، زادت من حدة موقفه الثوري المعادي لأصحاب الملكية والثروة والذين أصبح اليهود بالنسبة إليه ووفقاً لخبرته معهم النموذج الأسوأ لهم.
ومع كل ذلك فإن تبني الموسيقار الألماني لتلك الرؤية لم يمنع من أنه كان محاطاً من كل جانب باليهود من أصدقائه وتلاميذه وزملائه، بل أساتذته سواء كانوا فنانين أو مفكرين. بل يؤكد دارسو فاغنر أنه تأثر في أعماله بوضوح بإنتاج عدد منهم مثل أوبرات مايربير نفسه وهاليفي وموسيقى مندلسون السمفونية. كما لم يعرف عنه مطلقاً رفضه لمشاركة فنانين يهود في عروض أوبراته على مسرحه الذي كان يمثل له مشروع عمره في مدينة بايروت حيث شاركوا فيها أثناء حياته كعازفين أو مغنين أو قائدي أوركسترا. كما يسوق المؤرخون واقعة توضح طبيعة موقف فاغنر من اليهود، إذ رفض التوقيع على بيان يهاجم "الاسغلال اليهودي المتزايد"، مبرراً ذلك بأنه لن يؤدي إلى أية نتيجة طالما أن الثروة والملكية الفردية قائمتان. فالحل الجذري الوحيد وفقاً له هو إلغاؤهما تماماً. والأهم من كل ما سبق هو ما أكده ادوارد سعيد نفسه في مقالته نقلاً عن صديقه دانيال بارنباوم من أن "أعمال فاغنر الأوبرالية تخلو تماماً من أي أثر مباشر للاسامية"، ونضيف: وأيضاً لا أثر غير مباشر على رغم محاولات تأويل بعض نقاد فاغنر اليهود لبعض تلك الأعمال لكي تتوافق مع الصورة اللاسامية التي يشيعونها عنه وبخاصة أوبرا "أساطين الغناء في نورمبرغ" ورباعيته الخالدة "خاتم البلونغن". ولا شك أن خلو أوبرات فاغنر من أي أثر لما يسمى "معاداة السامية" يؤكد مدى خلو ذلك الاتهام من أي حقيقة، خصوصاً أن العبقري الألماني لم ينتج طيلة حياته الموسيقية سوى أوبرات بلغ عددها إحدى عشر كتب كلماتها وألف موسيقاها، وهي الأعمال التي كان لا بد أن تظهر في كلماتها أو شخوصها أو أحداثها أو موسيقاها آثار لاساميته لو كان بالفعل كما يتردد "معادياً للسامية ولليهود".
أما عن تأثير فاغنر على هتلر وأفكاره النازية المتطرفة ومسؤوليته عما اقترفه نظامه من جرائم وأهوال، فهو أيضاً اتهام لا يصمد كثيراً للمناقشة. فالموسيقار العبقري الألماني كما سبق القول لم تتضمن أعماله الأوبرالية أي نزعات معادية للسامية أو غيرها من الأعراق، وكل ما حوته هو التمجيد للروح والقومية الألمانية التي استوحى من أجلها التراث الأسطوري الألماني والأوروبي الشمالي في تلك الأعمال. كذلك فإن وضع فاغنر باعتباره المؤثر الرئيسي على تشكيل رؤى هتلر النازية المتطرفة - فضلاً عن أنه شريك في المسؤولية عن أعماله الإجرامية - يعد في ذاته تطرفاً مخالفاً للحقيقة التي تسطع بأن الرجل لم يكن سوى موسيقي خلت كل أعماله من هذا التطرف النازي، رغم تبحره في قراءة الإنتاج الفلسفي والتاريخي والاجتماعي ومن انتاجه المكتوب، الأمر الذي لا يضعه بأي حال في مصاف الفلاسفة أو المؤرخين أو علماء الاجتماع أو المفكرين عموماً.
وبصورة أكثر عمومية فإن معظم دارسي الموسيقار الألماني يؤكدون أن تأثيراته الفنية والفكرية لم تقف بحال عند حدود تيار فكري أو سياسي واحد، بل تراوحت لتشمل كثيراً من التيارات من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين منذ حياته وحتى اليوم، وذلك عبر تأويل كل منها لأعماله وبخاصة الموسيقية، الأمر الذي ينأى به عن أن يكون مصدراً للإلهام لتيار واحد، هو ذلك العنصري المتطرف "المعادي للسامية ولليهود" كما يريد ناقدوه - ومنهم الدكتور ادوارد سعيد - أن يروجوا له.
أما على هامش فاغنر والذي هو قلب مقالته، فقد كان للدكتور سعيد أيضاً كثير من الرؤى والأحكام التي أقل ما يمكن وصفها به، مثل سابقتها، بأنها شديدة الإثارة ليس فقط للجدل بل أيضاً للخلاف مع معظمها. وأولى تلك الرؤى ليست بعيدة عن فاغنر الذي تصفه المقالة بأنه ظاهرة معقدة ترى أن التنكر الكامل والإدانة اللاعقلانية المطلقة لها "أمر لاعقلاني مرفوض"، مطابقة فور ذلك بين هذا الموقف وبين ما يحدث في منطقتنا إذ "كان من الغباء وتضييع الوقت لنا كعرب اتباع سياسة تستعمل تعابير مثل "الكيان الصهيوني" وترفض بشكل مطلق فهم وتحليل إسرائيل والإسرائيليين، مصرة على إنكار وجودهم لأنهم سبّبوا النكبة الفلسطينية". وتوحي هذه النقلة المفاجئة من الهجوم الكاسح على الموسيقار الألماني إلى اعتباره مثالاً مطابقاً للدولة العبرية في سوء الفهم لكل منهما واتخاذ مواقف لاعقلانية تجاههما، بوجود خط ثابت رئيسي في المقالة يميل بوضوح إلى الرؤى والتفسيرات اليهودية والإسرائيلية لكثير من القضايا، وهو ما تؤكده الأجزاء المتبقية منها. فأما عن المطابقة شبه الصريحة بين فاغنر وإسرائيل باعتبار أن كليهما "ظاهرة" معقدة لا يجب اتخاذ موقف "الإدانة اللاعقلانية المطلقة" منها، فهي تتجاهل الاختلاف العميق بين "الظاهرتين" حيث يمكن أن تحتمل الأولى حتى ما ذكره سعيد من أن "فاغنر موسيقي عظيم، وأنه في الوقت نفسه انسان منحط"، بينما لا تحتمل الثانية أي اختلاف حقيقي حول طبيعتها كدولة استيطان لأرض شعب آخر بعد طرده بقوة السلاح والعدوان، وهو ما يحرمها أي صفة عظيمة ويجعلها فقط "دولة منحطة".
إن الانزلاق إلى مثل تلك المطابقة بحجة العقلانية لا يعني في الحقيقة سوى إضفاء بعض الصفات الطيبة غير الواقعية على المشروع الصهيوني في فلسطين والتماس بعض الأعذار لمؤسسيه عما اقترفوه من جريمة في حق شعب بأكمله لم يعرف مثلها العالم في كل عصوره الحديثة على الأقل. ولا تبدو تلك المطابقة غريبة عن إدانة المقال لاستخدام تعبيرات مثل "الكيان الصهيوني" لوصف تلك الدولة بحجة أن ذلك لا يعني سوى إصرار غبي على اتباع سياسة "ترفض بشكل مطلق فهم وتحليل إسرائيل والإسرائيليين...". والخلط هنا واضح وربما متعمد، أولاً بين رفض استخدام تعبير الدولة الإسرائيلية، وثانياً بين رفض فهمها وتحليلها. فالرفض الأول حدث فعلاً تاريخياً ولا يزال قائماً في أوساط عربية وفلسطينية واسعة، وهو مبرر ومفهوم من زاويتين على الأقل: أولاً زاوية رمزية، حيث يصعب أن نطلب من الضحية أن تقبل الاعتراف "العقلاني" بذابحها لتفقد تدريجياً عبر استخدامها تعبيراته ورؤيته أجزاءً متتالية من اقتناعها بعدالة موقفها وقضيتها. والزاوية الثانية تتعلق بطبيعة هذا الرفض باعتبار أنه كان في معظم الأوقات السلاح الوحيد الذي تملكه الضحية لمقاومة المعتدي الساعي من دون توقف إلى إلغاء وجودها وكيانها ذاته طارحاً نفسه عبر مصطلح "الدولة اليهودية، أو إسرائيل" باعتباره الحقيقة الوحيدة التي يجب قبولها كما هي. فإنكار الوجود الإسرائيلي في فلسطين لم يكن لأنه كان سبباً للنكبة الفلسطينية التي ليست مجرد هزيمة في حرب، كما يسوقها الدكتور سعيد مخففة في مقالته، بل لأن هذا الوجود كان السبب المباشر في إلغاء الوجود الفلسطيني نفسه. أما عن الرفض الثاني، أي فهم تلك الدولة وتحليلها، فإن الربط المستتر بينه وبين رفض وجود واسم الدولة اليهودية يحمل في الحقيقة دعوة لقبولها بحجة فهمها وتحليلها، وهو الأمر الذي لا شك أن الدكتور سعيد أكثر علماً بعدم صحته من الناحية النظرية والمنهجية حيث لا علاقة من الناحية المعرفية بين قبول أو رفض أي ظاهرة وبين ا لقدرة على فهمها وتحليلها بصورة صحيحة.
ومرة أخرى تعود المقالة لكي تربط بين فاغنر وظاهرة لا علاقة له بها، حيث ترى أن "الحملة على "التطبيع" مع إسرائيل ... تحمل بعض أوجه الشبه مع التحريم الإسرائيلي لموسيقى فاغنر والشعر الفلسطيني". فمن ناحية أولى تحمل تلك المطابقة حكماً ضمنياً بأن كليهما "ظاهرة معقدة" تحمل في داخلها شيئاً "عظيماً"، في الوقت الذي تحوي شيئاً آخر "منحطاً"، وهو الحكم الذي لا شك في خطورته سواء من زاوية افتئاته على حقيقة ظاهرة مقاومة التطبيع التي تعد واحدة من أنبل ظواهر الفعالية العربية تجاه العدوان الإسرائيلي المتواصل، أو سواء من زاوية إعلاء شأن "التطبيع" بمساواته مع ظاهرة فاغنر من جهة ومع الشعر الفلسطيني من جهة أخرى بحيث تتساوى في النهاية مواقف التحريم الإسرائيلي لهما مع مقاومة "التطبيع".
من ناحية ثانية تطلق المقالة في سياق حملتها على مقاومة "التطبيع" حكماً آخر مخالفاً لحقيقة ما هو قائم في الواقع حيث ترى أن "مشكلتنا أن للحكومات العربية علاقات سياسية واقتصادية مع إسرائيل، في ما تحاول مجموعات من الأفراد فرض حظر شامل على الاتصال بالإسرائيليين"، وهو الحكم الذي يبدو خلله الجوهري في الإيحاء الذي يحمله بأن تلك الحكومات التي يتحدث عنها إنما هي منتخبة ديموقراطياً ومفوضة من أغلبية شعوبها بالتطبيع مع الدولة اليهودية، في حين أن رافضي التطبيع هم مجرد "مجموعات من الأفراد"، وهو ما يخالف ليس فقط الواقع، بل أيضاً ما هو شائع من آراء سابقة للدكتور إدوارد سعيد.
ويمضي الكاتب بعد ذلك في سعيه إلى تدمير الأساس السياسي والأخلاقي والتاريخي لمقاومة التطبيع بالقول إن "حظر التطبيع موقف يفتقر إلى التماسك لأن مبرر وجوده، أي اضطهاد إسرائيل للفلسطينيين لم يتراجع بسبب الحملة"، واضعاً بذلك مبرراً غير حقيقي لذلك الحظر، بحيث أن عدم تحققه يعني فوراً ضرورة إلغائه.
والحقيقة أن حظر التطبيع لا يهدف مباشرة كما يطرح متبنّوه إلى إجبار الدولة العبرية على التراجع عن اضطهادها للفلسطينيين وعدوانها على كل جيرانها. فلكي يتم ذلك لا بد من تبلور موقف عربي وإسلامي جماهيري ورسمي موحد وقوي ضد تلك الممارسات بحيث تشعر تلك الدولة بالحصار في أدنى الحدود أو بالتهديد الأمني والعسكري في أقصاها، وهو ما يمكن له فقط أن يوقف ذلك الاضطهاد وهذا العدوان.
تلك هي مهمة التطبيع الرئيسية والأولى. أما الهدف الأبعد للتطبيع فمرتبط بطريقة النظر إلى الصراع العربي - الاسرائيلي، لا فقط الفلسطيني - الإسرائيلي، كصراع اجتماعي حضاري ممتد يظل قائماً بصور شتى أيا كانت المعاهدات الرسمية. فمقاومة التطبيع تظل دوماً القاعدة التي يقوم عليها الرفض لجريمة قيام الدولة العبرية ذات الطابع اليهودي العنصري الديني، والتي يمكن الاستناد إليها وحدها في حصار تلك الدولة ومنع دمجها بطبيعتها هذه في الإطار العربي.
وبعىداً عن الحالة المصرىة أو العربىة في رفض التطبيع فإن الغرب الأوروبي والأميركي - والذي يعيش فيه الدكتور سعيد وينتمي إليه فكرياً - لا ىتحرك فى مساراته السىاسىة والإجتماعىة والثقافىة ضمن فلسفة "التطبيع" مع أي شيء. فهناك دائما حضور كثىف للفلسفة الأخرى، أي "حظر التطبيع"، والتي تتجلى فى ذلك المنع القانوني والإجتماعي لوجود بعض القوى الفكرىة والسىاسىة التى اجتمع معظم الغربىىن على إعتبارها خارج حدود "المسموح" فى بلادهم، وهو ما ىنطبق بصورة واضحة على القوى والأفكار النازىة والفاشىة.
فإذا كان الغربيون - ومعهم الدكتور سعيد - يعطون أنفسهم الحق لرفض التطبيع مع جزء من تاريخ بلادهم أو بعض من أبنائها، أفلا يحق لنا نحن أن نرفض التطبيع مع من جاؤوا من خارج بلادنا واستولوا على جزء منها عنوة طاردين منها شعباً بأكمله واستمروا في عدوانهم وغصبهم طيلة قرن تقريباً غير متراجعين؟
إن مقاومة التطبيع لا تعني رفض مصافحة الإسرائيليين أو فهمهم وتحليلهم، كما تحاول المقالة الإيحاء، بل هي ما نملكه اليوم نحن المحكومين بغير رضانا في العالم العربي والإسلامي، لكي نرفض إعطاء شرعية الوجود لمغتصب أرضنا وشرعية التفويض لمن يحكموننا ويتفاوضون بغير تفويض منا مع هذا المغتصب متنازلين له، وهو لا يستحق، عما لا يملكون.
* كاتب مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.