يحاول الفن السوري استعادة حيويته في الداخل والخارج، تلك التي عرف بها إبان الستينات والسبعينات وأعقبها ركود ايديولوجي، ربض على مفاصل سياقه التاريخي خلال عقود عدة. وقد يكون المعرض السوري الذي أقامته صالة منى أتاسي في قاعة اليونيسكو - بيروت أول مظاهر استعادة هذه الصحة أقيم في العام الفائت وفاجأ اللبنانيين بعمق تعبيريته وتراكم خصائصه الرهيفة، الخصائص التي مزقتها الانقسامات بين المحترفين وهم النخبة والهواة الطفيليين وهم الغالبية المطلقة. نتلمّس التنفس من خلال الحوار التشكيلي بين تجمعات الفنانين، والتي تفرّخ بعضها بصورة تلقائية، وذلك على تنوّع الأمزجة والحساسية، تحرضها الأسباب التي لمت شمل المحترفين منهم في بداية السبعينات، خصوصاً "جماعة العشرة". وانتعاش القطاع الخاص المتمثّل في صالات العرض اتخذ إثر ذبولها النسبي بسبب الضائقة الاقتصادية أشكالاً أكثر صحية وأقل فوضى كمجمع "عالبال": مقهى ثقافي وصالة عرض تقع في قلب المدينة القديمة، وقلدها آخرون بصورة سياحية مثل "الواسطي"، قد تكون المهرجانات الدورية الثقافية التي قدمها منتجع "مونت روزا" بالغة الجدة. فقد تقاسم مبادرات الدولة برعاية وزارة الثقافة أو الإعلام والسياحة، وكرمت دورة هذا العام ست تجارب فنية عربية، وأقيم معرض مشترك لهم شارك فيه حسن جوني لبنان وأحمد نوار مصر والياس زيات سورية وباقر البحرين والوزاني المغرب، مع ندوات يومية شاركت فيها أسماء من مثال موليم العروسي المغرب وأحمد بزون لبنان وسعد القاسم سورية وغيرهم. وتعدّدت في هذه الفترة المعارض الشمولية شبه الخاصة مثل معرض "المرأة والحرب" الذي انتقل من حلب الى دمشق بإشراف هيئة الصليب الأحمر الدولي، وكانت شراكة الشابة الموهوبة سارة شما أول إعلان لدخول تجربة "البوب آرت" والمستهلكات الطباعية بصورة متمفصلة مع الحساسية المحلية، وتقوم حالياً بمعرض مشترك مع فادي يازجي في لندن وهو أبرز تعبيريي ما بعد الحداثة، كما يقوم نزار صابور بمعرض شخصي بدعوة من تختارية مدينة ليون الفرنسية. تذكر نجاحات سارة شما بتفوق ميدان الاتصالات البصرية في كلية الفنون، التي غذاها إحسان عينتابي وأحمد معلا، حتى فكر البعض بإلحاق قسم الحفر بها، وأدت الضغوط الإدارية الى شلّ دور الاثنين، فخرج أحمد معلا وصب عينتابي جهده في عمله الخارجي. تقع في هذه النقطة الأزمة الحقيقية التي يعانيها المحترفون هؤلاء، وذلك بتجنبهم الإنسياق خلف حاجات العمل المستقل وبما يهيئ لفنهم التفرغ اللازم، تلحظ هذا الصراع لدى أحمد معلا نفسه. ومن يزور محترفه يحس بأن اللوحة تشكل هاجسه اليومي، أما إحسان عينتابي فيهمل بين الفترة والأخرى مسؤوليات مكتبه للتفرغ للوحة. وهجر النحات مصطفى مكتبه وورشته ثلاثة أشهر كاملة ليشارك في أعمال النحت المباشر في "سمبوزيوم" اسباني. وتبدو ذروة الصراع لدى فنان بالغ الأهمية هو ادوار شهدا الذي يستهلك وقته في أعمال دائرة "الإسكان العسكري" بدلاً من التفرغ... ورأينا كيف استقال نشأت الزعبي أحد رموز المحترف الأساسيين من عمله في الكويت ليتفرغ للوحته التي هجرها خلال هذه الفترة. من يطلع على أعماله الأخيرة يدرك مدى الخسائر التي مني بها المحترف بغياب أمثاله على ندرتهم. في معرض للقطاع الخاص عنوانه "أسود وأبيض"، تتكشف الشروط المستجدة في التشكيل السوري. فصيفة صالة العرض في أحد أشهر البيوتات التقليدية الدمشقية بيت جبري، وضمن الحركة الشعبية اليومية بسبب تحويله مطعماً تقليدياً وعناية صاحبه بترميمه وتخصيص أغلب ريع المطعم للعناية بالفنون، وهكذا ضخت أمثال هذه المشاريع الحياة في قلب المدينة القديمة التي كانت عرضة في الستينات "لتنظيم ايكوشار" والذي قضى على نسيجها المتراكم وعزل أوابدها الروحية عن هيكلها الاجتماعي فانقلبت أوابد سياحية أو أثرية. خلف المعرض السيدة الكوميسير عبير جمعة، وهو دور جديد غير مألوف في تنظيم المعارض، ولعل أبلغ ما أعطى أهمية للمعرض هو عناية إحسان عينتابي بتصاميمه الغرافيكية. وليس أدل على نمو القطاع التشكيلي الخاص من تحويل مرسم "فاتح المدرس" بفضل زوجته شكران الى صالة عرض تحمل اسمه.