ا ستقبلت جدران قاعة المعارض الموقتة معرضاً بعنوان: "فنانون سوريون معاصرون" يستمر حتى التاسع من أيلول سبتمبر المقبل. اختير للمعرض ثمانية تشكيليين معروفين من جيلين. جيل الستينات: نذير نبعة والياس زيات وخالد المز وغسان السباعي، وجيل الثمانينات: أحمد معلا وباسم دحدوح ونزار صابور وصفوان داحول. يبدو نذير نبعة والياس زيات من أعرق العارضين على مستوى التراكم الأسلوبي والذاكرة والارتباط بالخصائص الثقافية المحلية. ولكن نتائجهما في المعرض تبدو متباعدة بسبب قوة تمايز شخصية كل منهما. حافظ زيات على شخوصه، على رغم عبوره بمرحلة تجريدية في السبعينات، ورسا اسلوب نذير نبعة على التجريد في السنوات الأخيرة، على رغم تاريخه التشخيصي الطويل. يجتمع تاريخ الاثنين على الدراسة في القاهرة في نهاية الخمسينات، ثم عملهما المشترك في التعليم في كلية الفنون في الستينات، ثم وهو الأهم شراكتهما في تأسيس "جماعة العشرة" في اوائل السبعينات، عُرف الياس زيات باستلهامه من الأيقونة المسيحية السورية وممارسته ترميمها في الكنائس المحلية، تبدو تقاليدها الروحية شديدة العمق في حداثته الشمولية، يستخدم تقنية "التامبيرا" على صفائح الخشب او القماش كما يستعير احياناً تقنية التصوير التراثي على الخشب العجمي، وتملك شخوصه مقدرة على التحليق في مناخ معراجي من دون اجنحة او اهلة. ولكننا نحس بعلاقتهم الطهرانية مع حواريي الأيقونة. تبدو سيرة نذير نبعة اقرب الى اساطيره المثالية، اذ رسّخ تربوياً فضيلة الرسم الذي لا يُروض إلا بالموهبة والتدريب الشاق، وهنا يبدو تمايزه الغرافيكي. تبدو لوحات نذير في المعرض اقرب الى استراحة المحارب وانسحابه الى محاريب الطبيعة والتأمل الكوني، ينتزع من أكباد الصخر وغروبات الصحراء والبتراء أبعاداً ميتافيزيقية في السطح، يسيطر على تضاريسها صمت بليغ يذكّر بالجدران المتغضّنة التي تحفظ مخالب الريح والزمن والحق. ويمر في أخاديده شعاع قزحي مرير، يتحرك في باطن خلايا المادة فتشبه رفيف الرمال في الصحراء، نعثر في هذه النقطة على لقاء أصيل مع تجارب نبيل نحاس التي يقترب فيها اكثر من نذير من أنظمة "الفراكتال" البيولوجية. يخرج الاثنان في الحالين من الطريق المسدود الذي وصل إليه التجريد الغنائي. كذلك الأمر بالنسبة الى غسان السباعي وخالد المز فهما درسا في مصر في الفترة نفسها. الأول في الاسكندرية لدى سيف وأدهم وانلي والثاني في القاهرة. حافظ الأول على خصوبة المادة الصباغية وكثافاتها العجينية التي امتازت بها مدرسة الاسكندرية وحافظ الثاني على أسلبة الأجساد الفرعونية. يعتمد الاثنان على السرد الرمزي، الأول بمحموله السياسي والثاني بمحموله الأسطوري المصري. يعتمد الأول على تكتيل الأشكال ذات اللون الفخاري او الآجري، ويعتمد الثاني على التبادل بين السالب والموجب كما هي احوال تظليل الأيدي والمستقى من نظام التقابل في الأوابد المصرية. برز في المعرض من رباعية الجيل الثاني أحمد معلا، شغلت لوحاته مساحة عملاقة تضج بالحيوية الغرافيكية مقتصرة في حشودها المشهدية على اللونين الأسود والأبيض. تكشف اعماله حيويته التخيلية، وخصوبة ثقافته البصرية، وهي التي سمحت بتجواله في ادراج تاريخ الفن وإعادة استحواذه بما يخضع الى ذائقته الحدسية. فيستحضر قيامة الفنان الاسباني غويا بإعادة حياكة ضمن توليفاته المتمايزة والصلبة. تجتمع الجماهير في ثنائية عملاقة حول مربع اسود على اليمين ومربع ابيض على اليسار، لعلها الخصائص الثقافية الدفينة التي يتنكر لها وعي معلا الشمولي. فاته ان النظام الجبري الذي يتظاهر في بصرياته يملك اصوله البعيدة في الثقافة المحلية، وهي التي تفور حتى قلم "الكوفي المربع" وأنماط المملوكي المتأخر في مصر وبلاد الشام، مع مفاتيحه المعمارية وبحراته ونظم جدرانه التي يتواتر فيها الشريط الاسود مع الأبيض بطريقة شطرنجية، يلتبس فيها معنى الفراغ بالامتلاء، وهو ما يدعى بنظام المرآة او التبادل الجبري. يشارك نزار صابور زميله معلا في التوجه المشهدي ومحاولة الخروج عن تقاليد سطح اللوحة. يجهّز احياناً عمله التشكيلي بطريقة مركّبة اشبه بعناصر المحراب او المذبح مستعيراً بعض العناصر الطقوسية كالمباخر وسواها، ولكنه يتدخل بتلوينها مستحوذاً على ارواحها من جديد، يعانق المعرض واحدة من إنشاءاته هذه، والتي تنتمي لونياً الى المقام المتخم والمتشبع بالصباغة وهي العلاقات اللونية القريبة من توهج نورانية الزجاج المعشق، ولكن بقية لوحاته تمثل منعطفاً جديداً في درجات اللون، فتبدو صمّاء ومحايدة الألوان بسبب تجديده الأدائي او التقني. فهي نوع من ملصقات رمادية مغبرة كابية تذكر بأشباح لوحاته التي تستمر في أسلبة هيئة الحواريين في الأيقونات وأهلّتهم، وذلك ضمن ايقاع متجدد على الدوام مثل البوابات القدسية. يعتبر باسم دحدوح من التعبيريين المؤسسين لتقاليده التأملية، فتعبيريته متأنية على تأجج وتسارع عنفه الخطي واللوني، هي تفرغ مكنونات الواقع المعاش ضمن سياق تجريدي في الشكل، تحفل درجاته اللونية برهافة عجينية وتفاصيل لونية رهيفة ملحوظة، وفي النتيجة تبدو الموضوعات ذريعة لمخاطراته اللونية والخطية. اقتصر في العرض على هياكله النسائية وأقنعة وجوهه المتسلسلة في حالاتها الوجدانية، وغابت اعماله عن "الطبيعة الصامتة" التي تعطي التجربة خصوبة أكبر، فتصوير الجمادات يرسّخ لديه الجانب الشطحي المجرد في التعبير. اقتصر صفوان داحول في العرض مثل غسان على لوحة يتيمة، فقد رفعت لوحته الثانية لأنها لا تختلف عن الأولى إلا بزرع المسامير. وعلى رغم ما يملك هذا الفنان من محبين ومعجبين فإن دماثته سمحت له بالتوقف عن المحسّنات البديعية في الرسم، والرومانسية الأطلالية في الموضوعات ممثلاً الجانب الأدبي والمؤسلب في المعرض، ولا شك ان شعبيته ونجوميته ترد من انجاز ما اعتاد عليه المتفرج صارفاً من زاد موهبته، وهو ما يتناقض مع طبيعة اللوحة الصيرورية غير المتماثلة مثل نواظم الطبيعة والحياة الداخلية. يتمتع المعرض بفرسانه الثمانية بحرفية عالية، فمعظمهم متفرغ ولا يملك أي صفة إدارية او رسمية، ومستوى المعرض يتناقض مع تواضع عدد الحضور يوم الافتتاح. ولا شك ان الكتاب الملون البالغ العناية الطباعية، والذي اصدرته وزارة الثقافة بتصميم احمد معلا وإشرافه، رفد المعرض بمادة توثيقية مهمة.