شكلت تجربة الاسلاميين التقدميين في تونس حالاً فريدة في التطور النظري والفكري لحركات الاسلام السياسي. وعلى رغم عدم شعبية هذه التجربة على المستوى السياسي فإنها مثلت علامة فارقة في سياق التاريخ الفكري للحركات الاسلامية على مستوى تونس والمغرب العربي ... وعلى مستوى الوطن العربي ايضاً. ما يهدف اليه كتاب "الاسلاميون التقدميون" لصلاح الجورشي القاهرة، مركز الدراسات هو التعريف بهذه التجربة وبقلم احد روادها ومن اسهم في شكل فاعل في بلورة افقها الفكري، وهو يؤكد بداية ان الأهمية الحقيقية للتجربة الاسلامية التقدمية، لا تكمن في كونها رقماً تنظيمياً انضاف الى رقعة الحركات الاسلامية التونسية، فهي لم تخض غمار الصراعات السياسية الكبرى، ولم تهدد موازين القوى المحلية، ولم تشتبك مع النظام لكي تشد اهتمام الصحافة وتشغل الرأي العام، كما كان الشأن بالنسبة الى "حركة الاتجاه الاسلامي" او "حزب النهضة" لاحقاً. فهي كانت شيئاً مختلفاً عن ذلك، لأن هاجسها المركزي لم يكن السياسة والتفكير في الوصول الى الحكم وإنما كانت صوتاً ارتفع في لحظة متقدمة من تاريخ الحركة الاسلامية التونسية، ليضع حداً لحال الاستسلام الفكري والحركي للخطاب الاسلامي السائد، ويخضعه للنقد والمراجعة، ويناقشه في فروعه وأصوله، ثم يعمل من اجل تجاوزه وإرساء رؤية مغايرة لقضايا الفكر والسياسة والتربية والتشريع والتنظيم. بدأت "حركة الاسلاميين التقدميين" ضمن حاضنة الحركة الاسلامية في تونس التي نشأت رداً على التهميش المستمر الذي يمارسه النظام البورقيبي بالنسبة الى المجتمع وعلى حركته، لا سيما ما يتعلق بالدين. وهذا ما دفع الشباب الجامعي الى الانخراط ضمن "الجماعة الاسلامية" التي بدت في ظهورها كفرع تونسي عن "الاخوان المسلمين" في مصر، وهي لذلك تبعت تنظيمياً للتنظيم العالمي للاخوان المسلمين وهذه كانت نقطة اساسية في الخلاف الذي سينشأ لاحقاً بين الاسلاميين التقدميين وحركة الاتجاه الاسلامي وسيتوسع من مسألة تنظيمية الى مسألة فكرية تتعلق بأفكار سيد قطب ورؤيته الحادة والمتعالية في تعامله مع الجماهير. هذا اضافة الى الرؤية النقدية التي تحلى بها اعضاء "حركة الاسلاميين التقدميين" وعلى رأسهم احميده النيفر وصلاح الدين الجورشي وزياد كريشان وغيرهم، كما لعبت بعض الكتابات النقدية لفتحي عثمان في مقالاته عن "اليسار الاسلامي" ثم حسن حنفي لاحقاً الذي أسس مجلة اسمها "اليسار الاسلامي" ولم يصدر منها سوى عدد وحيد، لكنها تضمنت ارهاصات لمشروع فكري وإيديولوجي ظهرت بوداره في كتب حسن حنفي الأخرى "التراث والتجديد" و"من العقيدة الى الثورة". وكانت محصلة النقاشات هذه التي دارت بين اعضاء مجموعة الاسلاميين التقدميين صوغ مجموعة نصوص ذات طابع ايديولوجي اطلق عليها في تلك الفترة اسم "اللوائح". وشكلت ما يشبه البرنامج السياسي العام، وعكست توجهات المجموعة خلال الفترة الفاصلة بين عامي 1979 و1984. وعندما عقد الاسلاميون التقدميون مؤتمرهم التأسيسي في 24 و25 تموز يوليو 1980 تمت المصادقة على "اللائحة المستقبلية" التي تضمنت جملة من الرؤى العقدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومثل هذا الاجتماع اول محاولة تقوم بها المجموعة للانتقال من موقع الاسئلة النقدية الى بلورة اختبارات بديلة ذات طابع تقريري. كان الاختلاف الاول يتعلق بالمسمى نفسه "الاسلاميون التقدميون" بدلاً من "اليسار الاسلامي"، ولا يعود رفض مصطلح "اليسار الاسلامي" الى اي مانع حركي او شرعي من استخدامه كما ابانت الاجتماعات، إلا ان مصطلح "اليسار" كما رأت المجموعة التصق بالتجارب الماركسية الفاشلة ولوّثته الممارسات المختلفة، لذلك جاءت تسمية "الاسلاميين التقدميين" كدلالة على الفهم الحركي الذي تتمتع به المجموعة للواقع والفكر والمجتمع، اضافة الى الايمان بأن تطور المجتمع يتحقق في شكل سهمي او اضطراري وعلى شكل سنن وقوانين اجتماعية انطلاقاً من الرؤية الاسلامية، لذلك جرى احتفاظ مصطلح "الاسلاميين" ضمن المصطلح التعبيري. يمكن القول اذاً ان مجموعة "الاسلاميين التقدميين" مرّت بمرحلتين: الأولى تركزت فيها الجهود على نقد البناء النظري والحركي للجماعة الاسلامية في تونس ولحركة الاخوان المسلمين عموماً. وطغى على المرحلة الثانية السعي الى التميز فكرياً وتنظيمياً، وذلك عندما قررت المجموعة تأسيس نفسها ضمن حركة منظمة خلال سنة 1980، فأرادت ان تتميز وذلك بوضع تصور للمجتمع البديل الذي يجب ان تناضل من اجله. فحركة "الاتجاه الاسلامي" لم تكن وقتها تملك برنامجاً سياسياً واضحاً، وهو ما حاولت تداركه عندما قررت التشكل في حزب سياسي سنة 1981 سيطلق عليه اسم "حزب النهضة" وسعت من اجل الاعتراف بها ومنحها تأشيرة الترخيص القانوني، في حين ان "الاسلاميين التقدميين" كان موقفهم من العمل السياسي تطور بعد ان خاضوا تجربة تنظيمية دامت اربع سنوات، ارهقتهم وجعلت اولوياتهم تتأسس على الرهان على الثقافي قبل السياسي. لذلك اعادوا طرح الكثير من القضايا الاشكالية في الفكر الاسلامي كإشكالية النص وطبيعة التفسير المقاصدي والموضوعي وقضايا المرأة والتجديد والتراث والغرب. كانت مجلة "15/21" بمثابة المشروع الذي بلور تجربة "الاسلاميين التقدميين" عكس اسمها الرؤية المستقبلية الاستشرافية فرقم "15" يعني القرن الخامس عشر الهجري والرقم "21" يعني القرن الحادي والعشرين الميلادي. وطرحت خلال اعدادها 22 عدداً الكثير من القضايا النقدية التي اثارت حولها النقاشات والأسئلة التي لعبت دوراً بارزاً في تطوير الوعي النقدي في الحركة الاسلامية المعاصرة. عملت التجربة الفكرية لمجموعة "الاسلاميين التقدميين" على ترسيخ مفاهيم الديموقراطية وحقوق الانسان في الشعار الاسلامي المعاصر وعلى ضرورة النظر النقدي الى التاريخ الاسلامي وتطوير نموذج مدني للدولة الاسلامية ما أثار حفيظة حركات الاسلام السياسي ذات النظر التقليدي. ويؤكد الجورشي ان تجربة "الاسلاميين التقدميين" كشفت عن ان الاسلام الرسمي والاسلام الاجتماعي المحافظ ينهلان من النبع نفسه ويعملان من اجل اهداف مشتركة، ويتعاونان باستمرار للحيلولة دون ان يشق الفكر الاسلامي التجديدي طريقه نحو الجماهير. وكانت العلاقة بين "حركة النهضة" ومجموعة "الاسلاميين التقدميين" متوترة، اذ عملت حركة النهضة باستمرار على تهميش مجموعة "الاسلاميين التقدميين" ونبذ أفكارهم وحصارهم وتشويه صورتهم في تونس وفي العالم العربي وهذا ما ظهر في عدد من الكتب والمقالات التي دانت وشككت في تجربة "الاسلاميين التقدميين" واعتبرتها بمثابة هجوم على الاسلام من داخله. ويؤكد الجورشي ان رموز حركة النهضة عادت وثبتت ما قد نفته ورفضته سابقاً من أفكار "الاسلاميين التقدميين" كما ظهر مع تبني حركة النهضة لأفكار المجتمع المدني والحريات العامة وغيرها مما يؤكد باستمرار على الريادة الفكرية لتلك المجموعة. يبقى ان نذكر ان الكتاب حاول التأريخ فكرياً لتجربة "الاسلاميين التقدميين" الا انه بقي في حدود الاطار النظري من دون تعريفنا بالشخصيات الفكرية والتنظيمية التي ساهمت في هذه التجربة. ولا نلحظ حضوراً سوى لشخص يتكرر اسمه باستمرار أحميدة النيفر مع حضور جزئي وهامشي لكل من صلاح الجورشي وزياد كريشان، وكأن المجموعة اقتصرت على جهود هؤلاء الاشخاص المحددين مما أوقع الكتاب في فخ الخطأ التاريخي. يضاف الى ذلك ان الكتاب تحول لعرض مفاهيمي للسياقات النظرية التي تفكر ضمنها المجموعة وجرى تضخيمها حتى اسقطت كل الخطوات النظرية والفكرية التي قدمتها حركة النهضة التي عرف عنها عربياً تأسيسها لعدد من المفاهيم بشكل يختلف عن باقي الحركات الاسلامية كالديموقراطية وحقوق الانسان ونبذ العنف. الى ذلك فالتأريخ للتجربة بعد مرور سنوات عليها يفرض نوعاً من الحس النقدي حين التعامل معها، وهذا ما افتقدناه في ثنايا الكتاب. * كاتب سوري.