أقرأ مهنة وهواية، الا ان اجمل قراءة عندي هي جرائد لندن السبت والأحد ومجلات هذه الجرائد، فهي تعادل "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" ومجلاتها عندما كنت أقيم في الولاياتالمتحدة. وربما اهملت يوماً قراءة مادة سياسية، الا انني لا أهمل جرائد السبت والأحد، حتى لو كنت مسافراً، فالسكرتيرة تحتفظ لي بالأعداد، وأعود لأقرأها مهما كثرت، او قدم بها العهد. وعدت الى لندن في منتصف الشهر بعد غياب اسبوعين، ووجدت مجموعة كبيرة من الجرائد بانتظاري فقرأتها، الا انني لم استطع قراءة المجلات فحملتها معي، على رغم الوزن والحجم، وأنا اتنقل بين مطار وآخر. وأخيراً تعبت، وقررت ان اتخلص منها في مطار نيس، الا انني كنت كلما حاولت رمي مجلة اجد ان فيها موضوعاً على الأقل أريد قراءته. وأكتب اليوم، بعد ان قرأت المواضيع هذه، ولا أقول سوى انني وجدتها تستحق عناء حمل المجلات بين مطارات أوروبا وفنادقها. ثمة عبارة بالانكليزية هي: "هيكل عظمي في الخزانة"، والمقصود سر غير شريف، او نظيف، للعائلة أو فرد فيها. ومجلة "التايمز" بدأت منذ مطلع الشهر سلسلة بهذا العنوان عن أسرار عائلية لا افهم رغبة اصحابها في نشرها. الحلقة الأولى كتبتها جين هيلتون عن طفولتها في ويلز، وقالت ان امها كانت تتلقى علاجاً في مصح عقلي، وهي اكتشفت متأخرة ان سبب حزن امها وبكائها والانهيارات العصبية التي اصابتها هو انه كان لها أخ سبقها، وقدمه والداها للتبني واختفت آثاره. كان الموضوع كله حزيناً، وفي صفحات عدة، الا ان ما خفف من وطأته كان تحقيقاً جميلاً ازدان بلوحات بالألوان المائية للملكة فكتوريا عندما كانت شابة، فشهرتها اليوم انها كانت صارمة ترتدي ثياباً سوداً باستمرار. غير ان التحقيق عرض لوحات لحفلات كبرى استضافتها في قصر بكنغهام، الجديد في حينه، ولتمثيليات أداها الأمراء الصغار بتشجيع منها. غير ان العدد التالي من مجلة جريدة "التايمز" عاد الى موضوع الهياكل في خزائن الناس. وقرأت نصاً طويلاً كتبه فيليب نورمان عن أبيه كلايف، وهو يقول ان أباه كان سكيراً يضرب امه، وانه طرد من سلاح الطيران البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، واكتشف عندما كان يعد مقاله ان السبب اختلاله العقلي المحتمل. وهو يقول ان أباه كان يطارد النساء، ولكنه أقام علاقات شاذة أيضاً، واعتدى عليه وهو صغير. شخصياً لا أفهم رغبة أي انسان في التبرع بفضح أسرته أو نفسه، ثم لا أجد سبباً أدبياً أو علمياً لذلك. مجلة "التايمز" يوم السبت قدمت لي خدمة تشكر عليها، فهي على مدى عددين وفي صفحات كثيرة، نشرت قصة حياة المغني الكندي كيرت كوبين، فأعفتني من مؤونة قراءة سيرة حياته. وكوبين قضى بسبب ادمانه المخدرات، وهذا معروف ومسجل، الا ان سيرته تسجل شغفه بطفلته من المغنية والممثلة كورتني لوف، وكيف كتب اليها يوصيها بالعمل والنجاح من اجل البنت. وحمل أحد اعداد السبت تحقيقاً حزيناً عن الطبقة الارستقراطية في كوبا، فالغالبية فرت بعد انتصار كاسترو سنة 1959، الا ان قلة بقت، وهي لا تزال تنتظر عودة الأيام الطيبة، والارجح الا تعود، ولكن حتى لو عادت فماذا تفعل بها امرأة في الستين دمر عالمها وهي في العشرين. مجلة "الصنداي تلغراف" نشرت في أحد اعدادها تحقيقاً طريفاً ازدان بصور واضحة عن الفيلم "كوكب القردة" وكيف تحولت الممثلة الحسناء جداً هيلينا بوغام كارتر، الى قردة. ويبدو ان هناك فيلماً جديداً من وحي الفيلم السابق. وضم العدد نفسه تحقيقاً مزعجاً عن اندرو لاستر، وهو من ورثة ملايين شركة "ماكس فاكتور" لمستحضرات التجميل، الا ان البوليس الأميركي يتهمه بتخدير بنات واغتصابهن في كاليفورنيا. وقصص الجريمة مقروءة دائماً وحملت مجلة "الصنداي تلغراف" في عدد آخر تحقيقاً مثيراً عن سبعة مجرمين فروا من السجن في تكساس في كانون الأول ديسمبر الماضي، وطاردهم المحقق الخاص جون موريارتي حتى اعادهم جميعاً الى السجن. وزعيمهم جورج ريفاس ينتظر محاكمة جديدة الآن بتهمة القتل، ووجدت ان بطل التحقيق من نوع "كاوبوي" في ثياب عصرية. والجريمة انواع، ومجلة "الأوبزرفر" نشرت على امتداد ثماني صفحات تحقيقاً عن السعودي محمد العوهلي، أحد المتهمين في انفجار الخبر، مع صور كثيرة. أتوقف لأقول انني مع كل تحقيق من هذا النوع أقول لنفسي انني أتمنى ان يصبح عند الصحافة العربية القدرة، المهنية والمادية، للطلوع بتحقيقات كبرى، فأنا اجد ان الصحف العالمية تسبقنا في المواضيع العربية نفسها عندما نهتم بمتابعتها. على كل حال، مجلة "الغارديان" حملت في عدد واحد تحقيقين من أعلى مستوى عن موضوعين مختلفين جداً. وهي تبعت الروائية ارونداتي روي، الفائزة بجائزة بوكر عن كتابها "إله الأشياء الصغيرة"، الى الهند حيث اصبحت روي قائدة حملة شعبية ضد الأسلحة النووية، وضد بناء سدود تهدد الحياة التقليدية لملايين الهنود. اما الموضوع الثاني فكان عن نزلاء مستشفيات امراض عقلية في المانيا النازية لم يمنعهم الجنون من رسم لوحات بعضها من أرفع مستوى. وقد نجت المجموعة من دمار الحرب، وهناك متحف يضمها في جامعة "هايدلبيرغ" سيفتتح الشهر المقبل. واللوحات تذكر المشاهد بالقول ان بين العبقرية والجنون شعرة. ربما كان القارئ يذكر انني كتبت عن تهديد الولاياتالمتحدة بمقاطعة مؤتمر عن العنصرية يفتتح في ديربان في نهاية هذا الشهر انتصاراً لاسرائيل. الادارة الاميركية قد لا تجد من يحاسبها في الولاياتالمتحدة لدعمها اسرائيل، غير ان المؤتمر يتناول موضوع الرق أيضاً، والولاياتالمتحدة متهمة، وقد ثار الاميركيون السود على التهديد بالمقاطعة، وهم يطالبون حكومتهم بالحضور، بل يطالبون بتعويضات، أسوة باليهود. والتحقيق من أرفع مستوى ويضم صوراً نادرة لعذاب السود وتعذيبهم. كل تحقيق مما سجلت، وتحقيقات اخرى ضاقت عنها هذه العجالة، تستحق ان أحمل طناً من الورق بين مطار ومطار، ولا أقول سوى انني أتمنى ان تبلغ صحافتنا هذا المستوى يوماً.