الصحافة مهنة خلاصتها ان تقول "ان اللورد جونز مات" لقراء لم يكونوا يعرفون ان اللورد جونز حي. تذكرت هذا التعليق، وأنا ألاحظ موت الأخبار الحقيقية، في الصيف، ومحاولة الصحافة، اقناع القراء بأن أخباراً مهمة تحدث حولهم، وأن من الأفضل لهم ان يكونوا على اطلاع عليها. لا تزال أفضل قصة اعرفها عن محاولة ترويج مطبوعة ما من صنع مجلة "ناشونال لامبون" الاميركية الساخرة، فهي طلعت على قرائها في كانون الثاني يناير 1973 بغلاف ازدان بصورة كلب حزين، ويد تمسك مسدساً موجهاً الى رأسه، مع عنوان يقول: إذا لم تشتر هذا العدد سأقتل الكلب. في عدد شباط فبراير التالي كتب رئيس تحريرها في افتتاحية العدد ما خلاصته: هل تذكرون؟ هل تذكرون الكلب الذي كان سيقتل اذا لم تشتروا العدد؟ انتم، معشر القراء، شيء غير معقول. لقد اضطررتمونا الى قتل ذلك الكلب اللطيف، ولا تحاولوا للحظة واحدة تحميلنا المسؤولية. نحن حملنا المسدس، الا انكم انتم ضغطتم على الزناد. بعضكم اشترى العدد، وبعضكم اشترى ثلاثة اعداد أو أربعة، وهو سخاء نرحب به. إلا انه لم يكف، فقد كان يفترض ان يشتري الجميع العدد، ولم يفعلوا، وانما ضغطوا على الزناد... مثل هذه المحاولة المبتكرة للبيع قد تنفع في اميركا أو الغرب عموماً، حيث للكلاب حقوق، وجمعيات تحميها وتدافع عنها. ولكن لو صدرت الدعاية في كوريا مثلاً لأكل القراء الكلب. أما في بلادنا، فنحن لا نسطيع الدفاع عن البشر، فنترك القطط والكلاب تدافع عن نفسها. وليس هذا الاختلاف الوحيد بيننا وبينهم، فالكاتب همبرت وولف له قصيدة قصيرة ساخرة تقول: "انك لا تستطيع تقديم رشوة الى صحافي انكليزي أو الضغط عليه أو تهديده، وأنت لا تحتاج الى شيء من هذا بالنظر الى ما يرتكب الصحافي الانكليزي من دون رشوة أو ضغط أو تهديد". وإذا كان هذا يقال عن الصحافي الانكليزي، فماذا يمكن ان يقال عن الصحافيين عندنا؟ لا أقول، وانما أبقى مع الموضوع، وهو عدم وجود أخبار مهمة في الصيف، وركضنا وراء أي خبر متوافر، ثم دعاؤنا ان يكون القارئ مهتماً بمثل هذا الخبر. السيدة مادلين اولبرايت ستصل الى الشرق الأوسط في الثاني من الشهر القادم، والى ان تصل فالمفاوضات على المسارات كلها تراوح في مكانها، والأخبار المنشورة والتعليقات والتكهنات يلغي بعضها بعضاً، فيعود القارئ من حيث بدأ. طبعاً "لا نستطيع ان نتمنى زلزالاً يقتل الألوف" أو اصطدام طائرتين في الجو، لنحصل على الخبر المطلوب، ولكن اذا انهارت البورصة فسيسعدني شخصياً ان أبالغ في رواية التفاصيل، لأننا اذا لم نستطع ان نرتفع الى مستوى "الخواجات" فلا أقل من ان ينزلوا الى مستوانا. امس كنت أقرأ "الصنداي تايمز" نفسها، ولم أر فيها خبراً يستحق ثمنه. غير انني اشتريها من دون ان أقرأ العناوين، توقعاً ان أجد ما تهمني قراءته في ملاحقها ومجلاتها وكادت سلتي ان تطلع "فاضية" هذه المرة لولا انني قرأت في النهاية عرضاً لكتاب جديد عن الجاسوس كيم فيلبي، أو "الرجل الثالث" بعد الجاسوسيين انطوني بيرغس ودونالد ماكلين. كان هناك رجل رابع وخامس وقد توفي كلهم الآن، ولم يعد الخبر يهم كثيرين، فحلقة الجواسيس هذه بدأت في كامبردج واكسفورد في الثلاثينات، وتغلغلت في مراكز الحكم البريطانية من منطلق عقائدي، فقد آمن اعضاؤها بالشيوعية، وعاش بعضهم حتى شهد سقوطها. الكتاب الجديد عنوانه "حياة كيم فيلبي الخاصة: سنوات موسكو" من تأليف زوجته الروسية روفينا. وسبب اهتمامي به انني رأيت فيلبي في لبنان سنة 1962، ولا أقول عرفته، فقد كنت أحاول العمل في الصحافة وأنا في الجامعة لتأمين مصروفي الشخصي. وعندما فر الى روسيا في سفينة شحن جاء المحققون الى مكتب الوكالة الاجنبية حيث بدأت العمل لتوي: وهم حققوا مع الجميع باستثنائي، وغضبت وقلت لأحد المحققين أنني كلمت فيلبي، ومع ذلك لم يسألني عنه. وأضفت: ولو، أنا مش زلمي بين هالزلم، ونظر المحقق الي باستخفاف وقال: لا. اليوم، هناك بائع جرائد في سان جرمان في باريس، أعرفه منذ سنوات، لا يجد أخباراً تبيع فيصرخ يوماً: الأميرة ديانا توفيت وهي حامل. ويصرخ يوماً آخر: مونيكا لوينسكي حاولت الانتحار. واشتري الجريدة كل مرة ولا أجد شيئاً مما يقول. غير أنني بدأت بطريقة اميركية لبيع الجرائد واختتم بطريقة انكليزية، فجريدة "الديلي كرونيكل" القديمة كتبت مرة: قبل اسبوع حققنا سبقاً صحافياً بالقول ان رئيس الوزراء سيستقيل. وقبل يومين سجلنا سبقاً آخر بالقول ان الاشاعات عن قرب استقالة رئيس الوزراء غير صحيحة. وعلى الأقل فالصحافي يظل أفضل نوعاً من السياسي الذي يكتب عنه.