حققت المسلسلات البدوية في نهاية الستينات وبداية السبعينات طفرة كبيرة، واكتسبت جماهيرية واسعة بين المشاهدين. وكان توقيتها فرصة لاجتماع الأسرة ومتابعة أحداثه بكثير من الشغف. وكان انتاجها أحد أسباب التعاون الفني بين الفنانين العرب إذ كان يشارك فيها فنانون من الأردن وسورية ولبنان والسعودية والخليج. بل ان بعض الفنانين السوريين حقق نجومية بادية من خلال تلك المسلسلات، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر: منى واصف وعبدالرحمن آل رشي ومرح جبر وطلحت حمدي وواحة الراهب وتولاي هارون وسوزان نجم الدين ورشيد عساف وانطوانيت نجيب وأماني الحكيم وأديب قدورة واسكندر عزيز... وقد افتتح نحو مئة مسلسل من هذا النوع، خلال عشرين عاماً على رغم تضارب الآراء في تقويم تلك المسلسلات التي وصفها البعض بأنها تركيبية، تعتمد قصصاً ملفقة، وبضع خيام وبضع بنادق وقصة ثأر أو حب، بل ان بعضها كان يؤدي الى فهم مغلوط لواقع حياة البداوة، وما فيها من تراث وأخلاق وعادات وتقاليد، خصوصاً ان حياة البداوة بدأت تنحسر بدورها بعد استقرار القبائل في السعودية وتونس والأردن وبادية الشام. وحقق عدد من تلك المسلسلات شعبية جماهيرية واسعة بين مشاهدي التلفزيون، ونذكر منها: "وضحة وابن عجلان" و"رأس غليص" و"ساري" و"الصقر" و"الغريب" و"الدخيلة" و"الوصية" و"السيف" و"غدر الزمن" و"حزم الضامي" و"الذئب" و"جواهر" و"داوس الليل"... أين هي الآن؟ كانت قصص هذه المسلسلات أمراً غير مألوف بالنسبة الى المشاهدين المدنيين الذي شغلتهم السينما بأفلام الاستعراض والميلودراما سنين طويلة... كان فيها الكثير من الأسباب والمشاهد للجدة والإثارة والحكاية الشعبية التي تثير في الذهن والنفس الكثير من الأحاسيس وتحفز الى المتابعة... وكان أكثر البث التلفزيوني من الفضائيات بهذا الكم الغزير من المسلسلات الاجتماعية والبوليسية، ومن برامج الغناء والموسيقى والمسابقات، ما جذب المشاهدين الى أنواع جديدة ومثيرة ومتباينة في ما تعرضه الفضائيات، حتى ملوا الأعمال التقليدية التي تتكرر وتتشابه فيها القصص والمشاهد كالمسلسلات البدوية. الى هذا، فالمسلسلات البدوية "فقيرة" في مظاهِرها وديكوراتها. فهناك بضع خيام توحي بوجود احدى القبائل، وبالقرب منا خيام لقبيلة ثانية، فتقوم بين القبيلتين خصومة بسبب فتاة أو قصة حب أو قصة ثأر ومطاردة واقتتال وانتقام: تتضمن هذه المسلسلات مشاهد طويلة لا ضرورة لها في السياق، بهدف الاحتيال على الوقت وعلى "الحدوتة" يتم اقحام بعض القصائد والأغاني والقصص والأمثال والمأثورات في شكل قسري من دون توظيف درامي مدروس. قصص المسلسلات البدوية لا تشير الى زمان أو مكان أو الى قصة أو معلومات موثقة، كل أنواع اللباس والخيام والأسلحة واحدة في كل المسلسلات، وأكثر الممثلين لا يتقنون اللهجة البدوية في شكل صحيح. ليس في معظم هذه المسلسلات اشارات كافية الى الدور الإنساني والحضاري والتراثي والثقافي لعرب البادية. يتم تقديم شخوص هذه المسلسلات بالأسود والأبيض، شهم أو نذل، كريم أو بخيل، شجاع أو جبان. وجهات نظر... دفاعية وفي كل الاستطلاعات الصحافية التي نشرت عن هذه المسلسلات كان العاملون فيها من الفنانين يدافعون عنها بقوة، ويرفضون الانتقادات الموجهة اليها من وجهات النظر التالية التي نعرضها في اختصار: - في هذه المسلسلات نكهة خاصة محببة، اضافة الى قصص ذات مغزى. - القيم والأخلاق العربية مجسدة في هذه الأعمال ومنها الوفاء والكرم والشجاعة والفروسية وغيرها. - في المسلسلات البدوية ادانة مباشرة للغدر والخيانة والجبن والبخل. - تشابه القصص في المسلسلات البدوية نابع من انها مستمدة من مجتمع نوعي، مجتمع قبلي متشابه في الواقع، والخروج على هذا هو التركيبية التي توجه كتهمة الى هذه المسلسلات. - نجاح أي عمل أو فشله لا ينطلق من نوعيته، بل من المستوى الذي يقدم به. - إذا كانت هناك مسلسلات بدوية ضعيفة المستوى، فليس لأنها مسلسلات بدوية بل لأن فيها من أسباب الضعف ما يجعلها كذلك، ان في التأليف أو في الاخراج أو التمثيل. - بالنسبة الى قصص الحب التي تتناولها هذه المسلسلات، هي أمر طبيعي في مثل هذا المناخ، بل انها تتميز بكثير من الصدق والشفافية والاخلاص عن قصص الحب التقليدية في المسلسلات المدينية. - هناك محاولات لتطوير المسلسلات من خلال طرح قصص حقيقية من حياة البادية، بعد اعادة صوغها درامياً... ثم ان هناك توجهاً الى تقديم قصص واقعية سالفة تبرز دور القبائل البدوية في مواجهة الغزو الاستعماري، وفي الدعوة الى توحيد القبائل لجبه المعتدي، بدلاً من التناحر في ما بينها، وابراز دور البدو في احباط بعض جوانب التسلل الاسرائيلي الى أرض فلسطين، ودورهم في حفظ الشعر والتراث العربي، بما في ذلك الأمثال والأقوال والأشعار والمأثورات، وكذلك دورهم في الاقتصاد الزراعي وتربية الماشية وتقديم منتوجاتها من الأصواف واللحوم ومشتقات الألبان، وكذلك تقديم صور التحول الجديد من حياة الترحال الى حياة الاستقرار. بعد طرح وجهتي النظر المتباينتين عن هذه المسلسلات، لا بد من الاعتراف بأن الواقع يؤكد انحسار هذا النوع من المسلسلات بعدما فقدت شعبيتها لدى المشاهدين لأسباب كثيرة ذكرنا أهمها. ولعل اعتماد جانب التطوير الذي ذكره بعض العاملين في هذه المسلسلات يمكن ان يحقق فيها نقلة نوعية مختلفة تتجاوز التقليدية والتكرار في محاولة جادة لاعادة بريقها على الشاشة.