تجتاح المشهد المرئي في لبنان طفرة من الإنتاجات الساعية الى نوع من الكوميديا القائمة على النقد الساخر للوضعين السياسي والاجتماعي. وإذا كان بعض هذه الأعمال قد حصد نجاحاً واسع الانتشار فإن البعض الآخر، وربما يشكل غالبية، يدفع الى السؤال عن الغاية من وجوده. حتى أنه يطرح شكوكاً عن احتمال وجود مؤامرة خفية تهدف الى الاستخفاف بالجمهور اللبناني وصولاً الى تسخيفه. وكانت هذه المحاولات، الساعية الى كسب جماهيري وتالياً إعلاني، انطلقت مطلع التسعينات من محطة المر "ام تي في" مع برنامج "اس ال شي" وأداره في حينها شربل خليل الذي حقق في ما بعد نسخاً مطورة لهذه الاسكتشات البني هيلية نسبة الى العزيز بني هيل مع جنوح متزايد باتجاه السياسة. واللافت اعتماد تلفزيون لبنان "الرسمي" فالمؤسسة اللبنانية للإرسال لهذا المنحى. واستطاع "اس ال شي" ان يصمد في برمجة "ال ام تي في" حتى اليوم، على رغم عواصف التغيير التي حلت بوجوهه. ولعل المنافسة الحادة بين المحطات دفعت الى استحداث برامج اخرى من الطراز نفسه بلغت الثلاثة في "ال بي سي" وتوقفت عند اثنين، حتى إشعار آخر، في "ال ام تي في" فتقدم الأولى إضافة الى تعليق "سي قاسي" لشربل خليل "منع في لبنان" لمارك قديح "شو حلو شو مرتب" لرئيف البابا في حين تعرض "ام تي في" الى جانب "اس ال شي" برنامج "ال ام تي في". ويكفي التعداد حتى نشعر بتخمة هذه الشحنة الكوميدية الضاغطة. فكم بالحري حين نلاحظ تنافساً في البرمجة فتبث في الأوقات ذاتها احياناً كثيرة. إلا ان المشكلة الحقيقية تكمن في نوعية ما يتم عرضه للمشاهدين. تعلق هذه البرامج على مواضيع الساعة من سياسية وفنية وتتوقف عند الآفات الاجتماعية المتعلقة بالمدارس ومعاملات الدولة والخصائص الاجتماعية والمشكلات البارزة في حياتنا اليومية طارحة المواضيع ذاتها بأساليب متشابهة تقارب في احيان اكثيرة الابتذال ان لم تغص فيه فعلاً. وإذا كان القول أن لا جديد تحت الشمس ولا سيما في لبنان هو الحجة في اعتماد المواضيع نفسها، فإن اعتماد النمط ذاته في مقاربة هذه المواضيع لا حجة فيه والواضح في هذا الإطار ان الكتابة في مجملها تنقصها الرفعة في ايصال الرسالة المطلوبة، إذا كان من رسالة نبيلة يسعى الكاتب الى إيصالها، فبعض هذه الرسائل يبث في شكل مباشر ومبتذل في سعي الى انتزاع الضحكة وحسب وليس هذا مقياس الإضحاك. وتجتمع هذه البرامج ايضاً على اعتماد تقليد السياسيين والنجوم على تفاوت في الموهبة. ولا بد من التنويه بكل من جان بو جدعون الذي يلمع في تقليد شخصيات تختلف في الشكل والصوت والحضور بمساعدة ماكياج ناجح جداً وطوني أبو جودة الذي يملك طاقة صوتية مساعدة. وإذا كان تقليد السياسيين دخل في البنية الأساسية لبرنامج "سي قاسي" في سعي الى ايصال رسالة سياسية تتسم بمرارة واضحة على رغم القالب الكوميدي وأحياناً في برامج اخرى على تفاوت في العمق الفكري للمضمون والأسلوب فإن السؤال يطرح حول الجدوى من تقليد "الزملاء" في المحطات الأخرى أو حتى في احيان اخرى البرامج التي تبثها هذه المحطات. وفي حين يوفق البعض في خلق شخصيات مؤثرة تعلق في ذهن المشاهد وتمكن هنا الإشارة الى براعة فادي رعيدي في تجسيد بيبو الصغير وفادية الشراقة والمسؤول المستخف بالناس، ونجاح نجوم تعليق "سي قاسي" في تقديم كاراكتيرات نافرة مثل العم خرفان والعم قبلان، وتاتا روزانا في برنامج رئيف البابا ومستر بهيم ضمن "منع في لبنان"، إلا ان التوفيق في ايصال رسالة هادفة او ضاحكة وحسب يبقى متفاوتاً ليس بين برنامج وآخر وإنما ايضاً في العرض نفسه اذ يتراوح ما يقدم بين العمق الذي يصعب نقله الى درجة الكوميديا المرحة ويصبح الضحك مطية نحو مرارة واكتئاب وبين الرسالة المباشرة التي قد تغرق في الوعظ وبين سعي الى الإضحاك الموفق حيناً والمبتذل حيناً آخر. وإذا كان نقد هذه البرامج ضرورة لتشذيب الشوائب منها عندما تفشل في الإضحاك او تغرق في التفاهة او الابتذال او التبسيط المبالغ فيه فإن مطالبتها بأن تكون عملاً كوميدياً متكاملاً ليست في محلها. ويقول المؤلف المسرحي والتلفزيوني مروان نجار، في هذا الصدد، ان إطلاق اسم كوميديا على هذا النوع من الاسكتشات يعتبر مغالطة اكاديمية، موضحاً أنها تندرج تحت عنوان الباروديا او ما يسمى فن "الجولقة" إذ يستند الى موضوع رصين ويحوله الى صورة هزيلة. ويؤكد ان لا موقف سلبياً منه ككاتب تجاه هذا النوع الموجود اصلاً منذ الف وأربعمئة سنة لكنه يدين كثرة انتشاره ونوعية هذا الانتشار الجانح نحو السهولة الذي يحل، لتوفير في الإنتاج، محل الأنواع الأخرى من الفنون ويؤثر سلباً على الجهد القائم من اجل بناء اعمال تصل الى الجمهور العربي لا بل يطالب بها كما يفعل حيال الدراما المصرية أو الإنتاجات السورية التي تمتاز بضخامة انتاجها. ويشير المؤلف والفنان كميل سلامة، من جهته، الى أن الباروديا فن قائم في العالم لكن المطلوب هو عدم الغرق في السخافة والسهولة والأذى. ويرى ان المشكلة تكمن في كثافة إنتاج هذا النوع في وقت ينقصنا انتاج اعمال كوميدية متكاملة، ويدعو الى توازن حتى تمر هذه الاسكتشات كفاكهة طيبة. ويجمع الكاتبان على عدم التعميم في ما يخص النوعية فمنها ما هو اقل انغماساً في السهولة ومنها ما يوفق بلمعات. ويؤكد نجار انه يمكن للباروديا ان تكون فناً نبيلاً شرط اعتماد الأسلوب المناسب، موضحاً ان الجمهور كائن حي تمكن مداعبة عقله أو قلبه او شهيته أو سائر الأمور الغريزية وهو في جميع الحالات، يفرح. وعلينا نحن ان نختار. اما سلامة فيدعو الى كوميديا صحية وسليمة، لافتاً الى ضرورة الابتعاد عن ما هو مؤذٍ إذ لا يمكن تقديم ما يقال في صالونات خاصة وضيقة في كل البيوت وعبر الشاشة الصغيرة. ولا يغفل عن توقيت العرض المؤثر على الأولاد وهم نسبة تحتاج الى انتباه في ما يتعلق بنوعية المشاهدات التي يرونها، ويحذر من التشوية في ما يعرض ومن تشويه التشويه. اما بين السياسي والاجتماعي فيرى اولوية للثاني، داعياً الى التأني في الإنتاج لأنه من الصعب ايجاد اثني عشر موضوعاً لنصف ساعة وتقديمها بشكل لائق إذا تم العمل بظروف انتاجية سيئة. ويحذر في إشارة الى أجواء التنافس في الإنتاج والبث الى ان النكايات في الفن تلغي الفن والمطلوب اعمال جديدة تصنع بحرفة ومحبة كي تتألق وتصل الى المشاهدين وإلا "هربوا". اما نجار فيرى ان العمل على السياسة في هذا النوع من البرامج يتسم بنوع من الانتهازية السياسية اذ يقتات العاملون في هذا القطاع من العيوب التي يتناولونها في السياسيين. ورداً على سؤال عن فاعلية هذا الأسلوب في تصحيح الأداء السياسي يجيب نجار ان فعل التطهير الفني مشكوك بأمره ويستند الى سؤال لمارسيل بانيول مفاده: إذا شاهد البخيل مسرحية عن البخل فهل يخرج من المسرحية كريماً أم بخيلاً حرصاً على اخفاء بخله؟ يبقى ان العمل الفني يحتاج الى روح من الرفعة منذ مصدر الإنتاج الى الدافع وصولاً الى الكتابة وأسلوب التخاطب وراء الكواليس وأمامها فكم بالحري إذا كان أصعب الفنون، كما الآداب، الإضحاك، خصوصاً إذا كان هذا الضحك هادفاً الى تغيير في المجتمع والسياسة. فرأفة بنا!