رحل الشاعر العراقي عزيز السماوي بصمت قبل أيام في لندن، منفاه القسري. وان آثر السماوي ان يظلّ بعيداً من المعترك الاعلامي فهو صاحب تجربة مهمّة جعلته في مصاف الشعراء العاميين الحقيقيين في العراق والعالم العربي. تجربة عزيز السماوي الشعرية ليست هينة ولا عابرة، بل هي كانت في معناها الإنساني والثقافي وفي الجوهر صراعاً ضد من يريد تحويل المثقف الحقيقي الى كائن هين وعابر!! بما ينطوي عليه الأمر من تعسف وأضرار نفسية ومعنوية!! والمشكلة هذه كانت قائمة ولا تزال، فهي مشكلة قيم في الدرجة الأولى، وفي شكل أوضح هي مشكلة القيم المتخلفة السائدة في بعض الوسط الثقافي العراقي. وبعيداً من الاستطراد، كان عزيز السماوي شاعراً شعبياً - وهي تسمية تطلق على الشعراء باللهجة المحلية على رغم ثقافة بعضهم المميزة ونخبوية أشعاره - وعزيز السماوي أحد هؤلاء. ولكي يكون لكلمة الوفاء هذه معنى وهدف لا بد من ذكر بعض الحقائق والتفاصيل. فشاعر شعبي تعني ضمناً شاعراً منفياً من الوسط الثقافي ذاته، قبل تعسف السلطة القائمة وتخلفها المعروف، بل قبل مجيئها أيضاً!! فاتحاد الأدباء في العراق ظل يرفض قبول الشعراء الشعبيين كأعضاء فيه، على رغم أهمية الشعر الشعبي تاريخياً في ثقافة المجتمع وذاكرة الناس. فخلال ثورة العشرين التي دشنت تاريخ العراق الحديث بأوسع مبادرة وطنية تأسست على أثرها الدولة العراقية الحديثة، كان الشعر الشعبي هو السند الروحي والمعنوي لتلك الثورة العظيمة حقاً، فكان سجلها الثقافي الأكثر أصالة وغوراً في المعنى والوجدان. ولا تزال تلك الأشعار تملك صدقيتها الجمالية وتأثيرها الخاص. وقبل ثورة العشرين وبعدها، ظل الشعر الشعبي ألصق بوجدان القارئ العراقي من سواه. فأسماء فدعة والحاج زاير وعبدالأمير الفتلاوي ومظفر النواب وعلي الشباني وعزيز السماوي وطارق ياسين وكاظم الركابي وعريان سيد خلف ورياض النعماني وعبدالواحد معله وسعدي المصور وصاحب الضويري وأسماء عدة أخرى، هي أكثر ابداعاً من أسماء كثيرة ظلت تتبختر في أروقة اتحاد الأدباء من دون ان تترك أثراً أو معنى. ففي ظل التخلف العميم تبقى الجلافة هي الأقوى على رغم اندحارها الداخلي... وفي بداية السبعينات بدأت السلطة برنامجاً معروفاً لاحتواء ظاهرة الشعر الشعبي وتوظيفها سياسياً لمصلحة خطتها في تزييف الوعي العام وتحويل الثقافة الى مادة اعلامية ودعائية ادراكاً منها أهمية هذا الشعر وشعبيته فعلاً، وعلى رغم المغريات الكبيرة التي قدمتها، الا ان هذا البرنامج فشل في شكل واضح. ولعب الراحل عزيز السماوي وزملاؤه دوراً أساسياً في افشاله، وذلك من خلال الموقف العام للشعراء الشعبيين المعروفين، الذي أكد على طبيعة الهوية الإنسانية والجمالية للشعر الشعبي وارتباطه بهموم الإنسان وأزماته الروحية والوجودية. وسرعان ما انقلب موقف السلطة على رأسه، إذ شنت صحف النظام ومؤسساته المعنية حملةً مبرمجةً ضد الشعر الشعبي اسهم فيها الكثير من كتّاب السلطة وأساتذة الجامعات وحرّمت نشره في الصحف وقراءته عبر الإذاعة، تحت ذريعة بائسة هي ان الشعر باللهجات المحلية يكرس التجزئة القطرية. نقول ذريعة بائسة لأن عوامل نشوء الشعر اذا كان بالفصحى أم باللهجات، لا يمكن ان يخضع للقرارات السياسية، ناهيك عن كون اللهجات العربية موجودة وفاعلة ومستمرة منذ القديم. تقول الباحثة البريطانية ألكسي بيلم التي درست التجربة الشعرية للراحل عزيز السماوي: "ان استعمال اللغة المحكية في الشعر هو اعلان عن الهوية، لأن اللهجة بحد ذاتها تكشف جزءاً صميمياً من تكوين الإنسان، ولهذا فإن السماوي باستعمال لهجة الشعب لا يعلن عن هويته الشخصية فحسب، بل يستحضر في الوقت نفسه صوراً موحية عن تاريخه وتاريخ جنوبالعراق، صانعاً بذلك شعراً يتوحد فيه الشكل بالمضمون... وفي العراق كما في البلدان العربية الأخرى، فالغناء العربي الحديث الذي لعب دوراً رئيسياً في تقريب الشعوب العربية لبعضها، وملأ حياة الناس في المشرق والمغرب بانبل الصور الوجدانية والمعاني الشعورية والروحية، كان ولا يزال من انتاج الشعراء الشعبيين، وأغاني فيروز وحدها تكفي مثالاً. لكن بعض النقاد وشعراء الفصحى لا يستطيعون قراءة الشعر إلا بإسقاط أحادي الجانب لمفاهيم النقد الحديث. وإذا كانت السلطة وجدت لاحقاً الكثير من شعراء الدرجة الثالثة ليحلوا لها عقدتها مع الشعر الشعبي، ففي جريدة "طريق الشعب" صحيفة الحزب الشيوعي وفي منتصف السبعينات قرأت لسعدي يوسف مرة، وكان مسؤولاً عن الصفحة الثقافية، تأكيداً لذلك المعنى المتعسف، إذ يقول: "ضقنا بالشعراء الشعبيين وضاقوا بنا"!! على رغم ان الجريدة عادت لاحقاً لتخصص صفحة أسبوعية للشعر الشعبي أشرف على تحريرها الشاعران الراحلان عزيز السماوي وأبو سرحان. أما الجانب الشخصي من تجربة السماوي الانسانية فارتبط بهذا المنحى الثقافي في الصميم، لتستمر معاناته مع رطانات الوسط الثقافي ذاته في المغتربات، وهو وسط مثقل بالطارئين على الثقافة والأجلاف الموهوبين بإنتاج كل أنواع الفشل!! والغريب ان حَمَلة القلوب السود ظلوا يحاصرون الشاعر الى آخر لحظات حياته، ففي اللقاء الثقافي الذي دعت اليه احزاب كردية عراقية أخيراً، وخولت "اتحاد الكتاب والصحفيين العراقيين" في بريطانيا تنظيم الدعوات، تم تجاهل عزيز السماوي ومثقفين آخرين، لتسافر الكثير من الأسماء التي لا علاقة حقيقية لها بالثقافة، الأمر الذي أثر عليه بالتأكيد وهو يعاني المرض كما يعرف الجميع!! لكن لعزيز السماوي مثل كل المبدعين الحقيقيين وعلى رغم قسوة تجاربهم، الكثير من المحبين والأصدقاء، فقد كان قبل رحيله بيوم يستعد للسفر الى السويد لإقامة ندوة شعرية هناك، لكأن للموت كان موعد أسبق، والموت حق علينا جميعاً، ولم يكن أبو مخلص من الخائفين من موت الجسد، ولكن من موت القيم والروح والضمير.