رصاصة في رأس فايق عبد الجليل كانت هدية البعث العراقي للشاعر الكويتي الذي عاش حياته كلها بعثي الهوى، يدافع عن قضايا قومية كبيرة بأفكار رومانسية وأشعار حب حالمة. كان الغزو العراقي للكويت ظالما وخانقا وفاجر الظلم، لكن شوارع عربية كثيرة صفقت للرصاص والدم والخراب، وخرجت في مظاهرات، وأظهرت مثقفيها في كرنفالات شاتمة وشامتة، وعاش أهل الخليج في عزلة عاطفية، ولما عاد الحق لأهله، رجعت أشياء كثيرة إلى أماكنها، لكن أشياء أخرى لم تقدر على الرجوع وبقيت في منافيها، وكان الحلم القومي من هذه الأشياء، لم يعد أحد قادر على الحلم، فقد كان الكابوس مرعبا ومريعا. التسامح السياسي كان استيراتيجية واجبة، وقد تعاملت معه دول الخليج بحرفية عالية، متجاوزة صدمتها في كثير من المبادئ والبشر، لكن التسامح الاجتماعي لم يكن بهذه المرونة، وكذلك التسامح الثقافي المذبوح بالريبة والحذر. لا الجنادرية ولا مجلة العربي ولا جائزة العويس وأمسيات أبو ظبي الثقافية ولا غيرها نجحت في رأب الصدع الثقافي والفكري رغم جدية المحاولات ورحابة صدرها. ويوم أهدت الإمارات أعلى جوائزها الأدبية لسعدي يوسف، قبض الشاعر ثمن الجائزة وغادر، ومن على كرسي الطائرة ربما بدأ كتابة الشتم في الإمارات التي وجدت نفسها مجبرة على الاعتذار لنفسها وسحب الجائزة، وكان على سعدي يوسف فيما لو كان صادقا وملتزما وجادا أن يعتذر لنفسه هو الآخر ويعيد ثمن الجائزة الكبير، لكنه لم يفعل. قبل الغزو العراقي للكويت واحتلالها وتشريد شعبها، كان الأفكار الكبيرة قد بدأت بالاهتزاز، وحبال الوصل متراخية لدرجة تستأهل الشفقة والرثاء، لكنها كانت قائمة. وصحيح أن قشة واحدة كانت كافية لقصم ظهر البعير، لكن مجنزرات الجيش العراقي ومواقف دول ومنظمات وشوارع عربية كثيرة تكفلت بالأمر على نحو راعب: أسقطت البعير على ظهر القشة فانقصم كل شيء فيها وتلاشت، صار من الصعب رؤيتها حتى في المايكروسكوبات المكبرة. قبل الغزو العراقي للكويت كان الشعر الشعبي في منطقة الخليج يريد قول شيء جديد، وكانت رغبته في الحضور والتواصل حقيقية ومتسارعة، ورغم أن دول الخليج كانت تنظر للشعر الشعبي نظرة هامشية وتعتبره تخلفا وتراجعا للوراء أمام أحلام الوحدة والقومية وسبب فرقة وشقاق، فقد نجح شاب كويتي اسمه (نايف الحربي) في تصعيد حلمه إلى واقع ملموس بتحايل بسيط على قوانين وزارية وبترخيص من (قبرص)، حصل على ترخيص بفتح مكتب لمجلته (الغدير) أول مجلة شعبية في الخليج وبعد فترة بسيطة سار مجموعة من الشباب على نفس الخطى وبنفس الطريقة، تم فتح مكتبين لمجلة (المختلف) في الكويت والرياض. لم يكن النجاح متوقعا ولا مأمولا، ولولا صدام حسين شخصيا لما أمكن للمجلتين ولا للمجلات التي أتت فيما بعد دفع رواتب موظفيها، وكانت أرقام التوزيع لكل من (الغدير) و(المختلف) متواضعة بشكل يقترب من الإضحاك، وإن كانت (الغدير) لنباهة واحترافية أعلى قد بدأت في تسجيل حضور لافت بعض الشيء، لكن الغزو أوقف (الغدير) التي لم تتمكن فيما بعد من العودة إلى طبيعتها الأولى لأسباب مادية وخلافات مهنية فتعثرت ثم توقفت نهائيا. أما (المختلف) فقد نجحت في تقديم عددها (السادس) من مكتبها في الرياض أثناء فترة الغزو، ولكنها بعد التحرير غيرت كل أحلامها، وانقلبت على عدد من مؤسسيها، وانفرد بها (ناصر السبيعي)، وبالرغم من كل هذا فقد نجح (ناصر السبيعي) بالتقدم في المجلة خطوات كبيرة في التوزيع. (8) كان نجاح مجلة (المختلف) محرضا حقيقيا، وفي حي السفارات في الرياض كان الشاعر المرحوم (طلال الرشيد) يؤسس لمكتب مجلة (فواصل) التي طبعت في لبنان، ونجحت المجلة في المنافسة، وتفوقت توزيعيا على ما أظن بسرعة فائقة، وكان ذلك كافيا لفتح صنبور المجلات الشعبية في المنطقة. (9) قبل ذلك كله، كان حلم الشاعر أن يكون شاعرا كونيا بغض النظر عن اللغة أو اللهجة التي يكتب بها، وكان الفنان الكبير المرحوم (صالح العزاز) يدعو الشعراء للكتابة عن الأشجار والغيم والطبيعة، لذلك ربما أكرمه الله يوم وفاته بسقوط أمطار غزيرة في الرياض وعلى قبره، كانت تحية الطبيعة ووداعيتها للمصور والصحافي الكبير ولا أعتذر عن هذا الاستطراد الدامع، لكنني أعود فأقول: كان حلم الشاعر أن يكون كونيا، فإن قل الحلم أصبح إنسانيا يكتب عن الإنسان في كل مكان وكل زمان، فإن قل الحلم أصبح قوميا، فإن قل أصبح وطنيا، ولم يكن أحد يتوقع ما هو أقل، لكن الأحلام شحت بريبة طاحنة، وأصبح الشاعر قبليا وربما أصبح (فخذيا) نسبة إلى (فخذ) القبيلة التي ينتمي إليها. (10) في فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي كانت القصيدة الشعبية قد تقدمت خطوات عديدة إلى الأمام، وصار مشروع القصيدة الحديثة أو قصيدة الشعر الحر مشروعا مجازا ومباحا ومعترفا به، وكان لأشعار بدر بن عبد المحسن ووضعه الاجتماعي المرموق دور كبير في الذود عن الحلم بقصيدة أخرى أشد تكثيفا وأعمق إنسانية وأوسع خيالا وحرية، ولكن الحركة الثقافية عموما كانت قد طعنت من الخلف بهجوم شديد على شعراء الحداثة الذين يكتبون باللغة العربية الفصحى. وبتراجع مدهم، كان لابد للقصيدة الشعبية الجديدة من التأثر فتراجعت هي الأخرى ودخلت في باب (أكلت يوم أكل الثور الأبيض)، لكن الثور الأبيض كان معدا للأكل سلفا، فقد كان من الصعب فيما يبدو للقصيدة الجديدة الفصحى التقدم أكثر، ليس في ظل هجوم المنابر الدينية الشرس ضدها فحسب، ولكن أيضا لأن الحداثة كانت مشروعا متكاملا، وعلى أقل تقدير فإنه لم يكن بالإمكان كسب شرعية لقصيدة شعر حر في ظل غياب شبه تام للمسرح والسينما، وفي ظل حضور نخبوي قليل للفن التشكيلي، فقد كانت الثقافة البصرية واجبة وبإلحاح للتعايش مع قصيدة، تتعامل مع بياض الصفحة بإيماءات موحية، ويمكن تقطيع عباراتها إلى عدة سطور، ونثر أحرف كلماتها هنا وهناك في أعلى وأسفل ووسط الورقة. (11) كان بالإمكان أفضل مما كان فيما لو لم تتضارب المواقيت، لكن الفضائيات وعوالم الإنترنت وربما الموبايل أيضا كلها جاءت بعد انهيار الأحلام الكبيرة وغياب نظريات الوحدة والتواصل مفارقة عجيبة أن يأتي التقدم متأخرا، فالذي لم يمت من الأحلام الكبيرة كان في طور الاحتضار، ولم ترحم التكنولوجيا ميتا أو مريضا، تركت الجثث في العراء وقدمت للمرضى علاجات شعبية ومسابقات تلفزيونية. (12) وفي ظل غياب مخجل للشهادات الدراسية الكبيرة، وفي ظل فضائيات أهلكت كل شيء فقدمت الفيديو كليب في أسوأ صوره التجارية وتمادت فقدمت أغنيات (النور) و(الكواولة) في قنوات خاصة مستثيرة الغريزة العاجزة عن التفكير مستفيدة من خط الرسائل أسفل الشاشة وغيرها من أسباب، جاء جيل وأكثر غير قادر على قول شيء حقيقي، واحتاج شعراء هذا الجيل إلى جمهور يحضر أمسياته ومهرجاناته، ويدعم مسابقاته الشعرية ب (عانيات) على شكل رسائل جوالات قصيرة. (13) بدأت العملية مثل طرفة، ولم يعرف أحد أن التمساح الصغير الذي وضع في البحيرة للفرجة سوف يكبر بعد قليل ليلتهم الجميع، كان التمساح الصغير عبارة عن مفردات (قبلية) قليلة وضعت في القصيدة الشعبية التي أصبحت (نبطية) خالصة بفعل تراجع قصيدة الشعر الحر للأسباب التي ذكرنا بعضها قبل قليل، وفي البداية بدت هذه (المفردات) مثل الليمون على طبق حساء، أو مثل الشطة على أرز لم يطبخ بعناية وموهبة. وكما كان يمكن لليمون دائما إضفاء نكهة على طبق الحساء مهما كان ماسخا، وكما كان للشطة من أثر في زيادة الشهية للأكل، كان لهذه (المفردات) القبلية القدرة على تقبل القصيدة النبطية الجديدة، وأصبح التصفيق مقترنا بقدرة الشاعر على الإضحاك، لكن سرعان ما أصبح المضحك مبكيا، فقد صار التنافس على الشطة والليمون ومن من الشعراء قادرا على إضفاء أكبر كمية منهما في (طبخته)، وصارت الوجبة الرئيسية هي (الليمون) و (الشطة) مع إضافة قليل من الطعام إلى كل منهما. (14) هل انتهى كل شيء، لا، لا أظن فالحياة لا تقبل التراجع كثيرا، وهي متقدمة دائما، والمأساة التي تعيشها القصيدة الشعبية اليوم في طريقها إلى الانتهاء مهما بدا الركض إلى الوراء متسارعا، ومهما أعلن السيد (جحا) عن حضوره الطاغي وطريقة تفكيره العجيبة في الاستدلال على أذنه من الطريق الأطول، فالقصيدة التي فشلت في أن تكون كونية ثم تراجعت عن إنسانيتها ثم تنازلت عن ووطنيتها بدرجات مخجلة وصارت قبلية ثم هاهي تصير (فخذية)، ستصير عما قليل قصيدة (أسرية)، بعد ذلك يجد الشاعر نفسه مجبرا على الالتقاء بنفسه في قصيدة (ذاتية) خالصة، والشعر أحد أكثر الفنون (ذاتية) في الدنيا، ومن هناك سوف يبدأ العد، هل أحلم؟ أم أفكر بنفس طريقة السيد (جحا) الغبية؟ لا بأس، يبدو أنه لا مفر من الحلم، ومن الواضح أن الحلم اليوم يحتاج إلى كمية من الغباء. - كلام صور : - فايق عبد الجليل - سعدي يوسف - صالح العزاز - بدر بن عبد المحسن - طلال العبد العزيز الرشيد - نايف حمدي الحربي - ناصر السبيعي