التحول الاستراتيجي الذي طرأ على الجماعة "الإسلامية" في مصر في الخامس من تموز يوليو 1997، متمثلاً في ما سمي مبادرة وقف العنف اختلفت التفسيرات حول توقيته وأهدافه. وللتعرف على حقيقة هذا الأمر، تنبغي العودة الى أواخر السبعينات، أي بداية نشأة "الجماعة الإسلامية". فمعارضتها لنظام الحكم في ذلك الوقت لم تتجاوز الآتي: 1- تظاهرة ضد شاه ايران. 2- اعتراض على قرار ذبح الماشية لمدة شهر اصدره الرئيس السادات. 3- بعض اعمال الحسبة واشتباكات طائفية بسيطة. ولكن في العام 1980 حدث تحول كبير للجماعة إثر لقاء كرم زهدي أمير "الجماعة الإسلامية" ومحمد عبد السلام فرج أحد منظري تنظيم "الجهاد"، اعدم في قضية اغتيال السادات. تحولت "الجماعة الإسلامية" في صعيد مصر بعد ذلك اللقاء من العمل الدعوي الى التنظيم الراديكالي، وما لبث، بعد هذا التطور والتغيير، أن اغتيل الرئيس السادات. واندفعت "الجماعة الإسلامية" في صعيد مصر الى مواجهة عسكرية ضد الشرطة، وقبض على التنظيم وحوكم. حتى ذلك الوقت، لم تكن لتنظيم "الجماعة الإسلامية" وثائق تبلور فكره، بعكس تنظيم "الجهاد" الذي كانت لديه "رسالة الإيمان" للدكتور صالح سرية فلسطيني الاصل يعتبره المراقبون والباحثون في الحركة الإسلامية المؤسس الفعلي لفكر تنظيم "الجهاد" في مصر، وكانت له تجربة انقلابية في ما عرف بحادثة الفنية العسكرية وحكم عليه بالإعدام، وايضاً كتاب "الفريضة الغائبة" لمحمد عبد السلام فرج، واعتمد فكر الجهاد كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب. وتوالت الاصدارات في الثمانينات، اشهرها "العمدة في اعداد العدة". ولكن حدث انشقاق تنظيمي في داخل السجن العام 1983وانفصل "الجهاد" عن "الجماعة الإسلامية". اندفعت الاخيرة تؤكد وجودها التنظيمي، فأصدرت وثيقة فكرية بلورت فيها دستور عمل الجماعة سمتها "ميثاق العمل الإسلامي" واصدرت بعد ذلك سيلاً من الوثائق والكتب. تضمن ميثاق العمل الإسلامي تسعة بنود شرحت شرحاً مستفيضاً بالوثيقة وتعبر عن اهداف الجماعة وأمانيهم واستراتيجيتهم في العمل الإسلامي، وهي: 1- غايتنا، 2- عقيدتنا، 3- فهمنا، 4- هدفنا، 5- طريقنا، 6- زادنا، 7- ولاؤنا، 8- عداؤنا، 9- اجتماعنا. وعند الوقوف عند أهم بندين في تلك الوثيقة، وهما هدفنا وطريقنا، نلاحظ أن الوثيقة ذكرت أن "هدفنا تعبيد الناس لربهم وإقامة خلافة على نهج النبوة"، وأن طريقنا "هو الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من خلال جماعة منضبطة حركتها بالشرع الحنيف تأبى المداهنة والركون وتستوعب ما سبقها من تجارب". عند تأمل هذين البندين هدفنا وطريقنا نجد أن مبادرة وقف العنف التي صدرت قبل 4 سنوات اصطدمت بهما اصطداماً أثار الأقاويل والتحليلات. فهدف اقامة خلافة على نهج النبوة لم يتحقق وتوقف العمل من أجله انتهت المواجهة العسكرية للجماعة مع الحكومة المصرية من 1990 الى 1997 بهزيمة عسكرية فادحة اضافة الى تصفية كل اعضاء الجماعة واعتقالهم، ولم ينج الا من فرَّ الى الخارج. وبالنسبة الى البند المعنون "طريقنا" والذي بدأ بالدعوة اغلقت كل منافذ الدعوة للجماعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثبت بالمراجعات وقوع اخطاء في التطبيق والجهاد في سبيل الله تُطبق عبر مواجهة مسلحة بأسلوب حرب العصابات مع اكبر دولة مركزية تملك اكبر مؤسسة عسكرية في افريقيا والعالم العربي فكانت النتيجة الفشل من خلال جماعة منضبطة حركتها بالشرع الحنيف تأبى المداهنة أو الركون وتستوعب ما سبقها من تجارب مع آخر كلمة في هذا البند، نجد أن الحركة الراديكالية لم تستفد مما سبقها من تجارب في التاريخ البعيد أو القريب، وعند المراجعة تستوعب تجربتها هي ومن خلال ما اتبع مبادرة وقف العنف من بيانات، مثل بيان تأييد القانون الزراعي المتعلق بالعلاقة بين المالك والمستأجر، ومطالبة المستأجرين أن يسلموا الأرض الى أصحابها. وبيان آخر تضمن رفضاً قاطعاً للعمليات العسكرية ضد الاقباط، وآخر يدعو القوى الوطنية الى الاتحاد في مواجهة الصهيونية. نلمس من ذلك كله تغييراً واضحاً في طريقة تطبيق الميثاق على أرض الواقع واصبحت هناك مسافة كبيرة بين الأهداف والأماني، ومثالية في اتباع النصوص والتفاعل مع الواقع من جهة اخرى. ولكن الواقع لم ينجح حتى الآن في إلغاء الأهداف أو استبدالها بأهداف أخرى، إلا أن تأثيره امتد فقط الى أسلوب التغيير بما يتوافق مع الصعوبات والمعوقات التي تواجه الجامعة في سبيل تحقيق مشروعها الإسلامي. ويبقى أن وثيقة حتمية المواجهة التي أعدها كرم زهدي وتضمنت نصوصاً وأدلة تدفع الى وجوب فورية المواجهة العسكرية، بل دفعت بآلاف من الشباب المتحمس الى المواجهة مع الحكومة المصرية، من دون إدراك لفقه الواقع والمعوقات، تغيرت الآن الى حتمية مبادرة وقف العنف والتي تأكدت جديتها بمرور أربع سنوات من دون عنف في مصر. ولكن يبقى التساؤل المهم: ماذا بعد المبادرة، وما هو شكل العمل الجديد للجماعة بعيداً من الأسلوب العسكري والعنف؟ الطروحات كثيرة ولكنها متوقفة على: هل يُسمح للجماعة بالعودة الى النشاط حتى لو كان دعوياً فقط؟ ذلك هو السؤال الصعب جداً. * محامٍ مصري - وكيل مؤسسي حزب "الشريعة".