إن تفكيك الديوان الذي يحمل اسم امرئ القيس، فضلاً عن المعلّقة نفسها، سوف يمكِّن الباحث من إعادة رسم صور الشاعر، لا على أساس انها تنتمي الى شاعر بعينه أو تخصه وحده، بل على أساس أنها تخص مجموعة من الشعراء، تعاقبوا في اطار تقليد ثقافي عربي قديم، على حمل الاسم اللقب نفسه أي امرئ القيس. وهذا ما سوف يقودنا الى فهم أفضل لما يدعى ب"النحل" أو "الوضع" في الشعر الجاهلي. بكلام آخر، فإن من شأن تقنيات التفكيك هذه، أن تساعد في تحسين تصوراتنا لمشكلة الانتحال وتلفيق الأشعار ووضعها على ألسنة شعراء آخرين، وهي ظاهرة قديمة لعبت دوراً مدمراً في تشكيل وعينا لتاريخ العرب قبل الاسلام. ومن بين أكثر هذه الصور التي يتوجب تفكيكها، صورة الشاعر الذي ذهب للقاء القيصر جستنيان الثاني طلباً لمساعدة بيزنطة، العسكرية والسياسية، لاسترداد عرشه السليب، إذ يُزعم أنه وقع في غرام ابنة القيصر هناك، وهو أمرٌ أدى - بحسب روايات الاخباريين العرب - الى تدبير مؤامرة لقتله، وذلك حين أهداه القيصر ثوباً مسموماً ارتداه في طريق عودته، إذ تساقط واهترأ جلده وأصيب بقروح مميتة. على أن عمر فروخ في تاريخ الأدب العربي: 1 ذهب أبعد من جميع الاخباريين القدماء، بزعمه أنه وجد في كتاب قديم مخطوط أن ملك القسطنطينية لمّا بلغه نبأ وفاة امرئ القيس أمر بأن يُنحت له تمثال وينصب على ضريحه، ففعلوا، وكان تمثال امرئ القيس هناك الى أيام المأمون إذ شاهده الخليفة العباسي عند مروره داخل بلاد الروم، وهذه رواية تكشف عن المدى المأسوي في الدمج والاختلاط بين الصور، والذي وقع فيه المعاصرون على غرار ما حدث للقدماء. ردد الباحثون المعاصرون، من دون نقد أو مراجعة، بل بما يشبه الاستسلام التام لروايات الاخباريين العرب، اسطورة الثياب المسمومة هذه، على رغم التناقض الفاضح في مكوناتها التاريخية. حتى الأصفهاني في "الأغاني" 9: 90 وهو يروي أخبار الشاعر، وجد نفسه منساقاً خلف إغراء هذه الاسطورة، إذ زعم انه ذهب للقاء القيصر جستنيان 527 - 565 فلقي استقبالاً حسناً حتى انه كان يدخل الحمام معه. وهذه بكل يقين - بافتراض قبولها لاغراض السجال التاريخي والأدبي - صورة متناقضة مع الصور الأخرى التي رسمها الرواة لامرئ القيس، الذي يقول عن نفسه انه كان مصاباً بداء قديم النُقْرُس وعاش عليلاً. كما تتناقض بالطبع، مع صورته كأمير مُطارد باحث عن ملجأ وسط القبائل الشمالية، ومع صورته كشاعر متشرّد صعلوك. تقول رواية الأصفهاني الأغاني: 9: 90 ان القيصر أكرم امرأ القيس وكان يدخل معه الحمّام، حتى وقع الشاعر في غرام ابنة الامبراطور فكان يأتيها وتأتيه، فبلغ ذلك بني أسد، فأرسلوا رجلاً منهم يُدعى الطمّاح، وهذا وشى به عند القيصر الذي حنق على الشاعر وأهداه الثياب المسمومة، فمات في طريق عودته قرب أنقرة. إن اعادة بناء الرواية التاريخية عن امرئ القيس، تتطلب الفصل بين الاسطوري والتاريخي في سائر المرويات والأشعار التي نسبت اليه ووجدت طريقها الى ديوانه الشعريّ. وهنا بعض الملاحظات: أولاً: إن المؤرخين البيزنطيين لا يذكرون - تقريباً - أي شيء صريح عن زيارة الشاعر أو طلبه المساعدة العسكرية لاسترداد عرشه. لكن المؤرخ البيزنطيّ بروكوبيوس يورد - في خبر تاريخي - اسم شخص يدعى - امرأ القيس - كانت له صلة، على نحو ما، بحملة عسكرية أعدتها بيزنطة لغزو اليمن بواسطة الحبشة وكيلها المحلي في العام 524 - 525م. بما يعني أن هذا الأمير الحميري الذي اتصل بالروم لمساعدته في بسط نفوذه على اليمن، سعى على غرار ما فعل امرؤ قيس آخر في العام 65 ق.م. - 50 ق.م.، الى تقديم نفسه للرومان كنصيرٍ لهم في مواجهة النفوذ الفارسي في اليمن. ويبدو ان الرومان طلبوا من الأمير الحميري هذا ان يقود بنفسه جيشاً من المرتزقة لمواجهة الفرس. وهذا ما تقوله، بالضبط، القصيدة التي وضعها المستشرقون خطأ ضمن ديوان امرئ القيس: 33: ولو شاء كان الغزو من أرضِ حميرٍ ولكنه عَمْداً الى الروم أنفرا واستناداً الى جواد علي المفصل: 3: 265 نقلاً عن مصادر بيزنطية اطلع عليها نونوس - مثلاً فإن القيصر، وإثر رفض العرض، كلّف امرأ القيس هذا بأن يكون سفيراً لديه ممثلاً لقبائل الجنوب العربية. وقد افترض كوزان دي برسفال خطأ أن المقصود بامرئ القيس في مرويات المؤرخين البيزنطيين، الشاعر الكندي نفسهم. وعلى الأرجح فإن الخطأ الذي وقع فيه برسفال، وشاع بين المعاصرين من الكتاب العرب، كان تتويجاً لأخطاء سابقة وقع فيها نونوس نفسه الذي لم يكن يميز بين كندة القبيلة وكندة المملكة، بحيث زعم أن هذا الأمير كان يُدعى كايساس وأنه كان مملكاً على كنديا من جهة، وبين اسم الشاعر الجاهلي من جهة اخرى. ثانياً: جرى خلط هذه الزيارة التي قام بها أمير حميري، بواقعة تاريخية صحيحة جرت بعد نحو ثلاثين عاماً من غزو الحبشة لليمن، إذ قام أمير لخميّ من أمراء الحيرة بزيارة بيزنطة وكان من أبناء امرئ القيس بن المنذر بن ماء السماء، ويُدعى قابوس. كان قابوس موضع احترام أهل الحيرة وهيبتهم، وقد تولى العرش بعد وفاة أخيه عمرو بن هند المعروف بمضرّط الحجارة وعرف بحملاته الناجحة ضد الرومان بين عامي 556 - 557م، وهي حروب محلية اندلعت إثر رفض الروم دفع ما كان يتوجب عليهم من مساعدات مالية لملوك الحيرة بموجب معاهدة 556م. في هذا الوقت قرر عمرو بن هند ارسال أخيه للقاء القيصر جستنيان الثاني لبحث موضوع المساعدات المالية، ولكن رسول الملك الحيري أاستقبل استقبالاً سيئاً أدى الى انهيار المفاوضات ثم اندلاع المعارك. لقد تركت هذه الواقعة أثرها في مرويات الاخباريين العرب، ولعلهم عبّروا عن فشل المفاوضات في صورة غضب قاتل بواسطة بدلة مسمومة، وهذا ما تمثلته احدى المرويات في صورة غضب غير مفهوم على ضيف القيصر حيث أدى ذلك الى موته. مع ان المرويات الأخرى تحدثت عن حُسن استقباله في بلاط القيصر. هذا الغضب هو المادة التاريخية التي نسج منها الاخباريون اسطورة الثياب المسمومة، وهذا ما سنراه حين نحلل الأسطورة. ثالثاً: هاتان الزيارتان دمجتا وخلطتا بواقعة تاريخية أخرى، فقد ذكرت المصادر اليونانية جواد: 3: 265 اسم امرئ القيس بصفته من العرب التابعين لملوك الفرس، وصوَّرته كملك من الأسرة اللخمية شمالي الحجاز، وكان يغير على القبائل العربية ويبسط وسطها سلطانه ونفوذه، حتى انه تمكن من الاستيلاء على جزيرة يوتابة Iotaba وهي تيران في مدخل خليج العقبة بعد طرد عمال المكوس من الروم. لكن هذا الملك اللخمي بدأ في مطلع العام 473م بمغازلة الرومان سعياً لكسب صداقتهم والاعتراف به، وفي وقت ما من هذا العام أرسل أسقف العرب ليفاوض القيصر على امكان تعيين امرئ القيس حاكماً على جنوبالأردن وساحل خليج العقبة ويحصل على لقب فيلارك. ويبدو أن الأسقف نجح في هذه المهمة على أكمل وجه، إذ تمت دعوة الملك امرئ القيس هذا الى بيزنطة حيث بالغ القيصر في إكرامه. يلاحظ ابن حبيب المحبّر أن فيروز - والد قبّاذ - وهو الذي نصّب امرأ القيس بن المنذر اللخمي 457 -483م ملكاً، لكن شوقي ضيف الأدب الجاهلي: 242 شكك في وجود مثل هذا الملك في سجلات ملوك الحيرة في هذا الوقت، وهذا صحيح، وضيف نفسه استدرك وانتبه أن امرأ القيس هذا كان في شمال الجزيرة العربية لا في الحيرة، وكان موالياً للفرس قبل أن ينقلب عليهم لمصلحة الرومان. وهذا هو الملك الذي يُزعم أنه كان يدخل الحمّام مع القيصر تعبيراً عن المبالغة في إكرامه، فجعله الاخباريون شاعراً ونسبوا اليه مَرْوية زيارة بيزنطة ووقوعه في غرام ابنته ثم موته في أنقرة. أنقرة والثياب المسمومة تنتسب اسطورة الثياب المسمومة الى رزمة منا أساطير اليونانية عن الهدايا المسمومة التي يتلقاها الأبطال ويموتون جراءها. وواحدة من هذه الأساطير تخصّ البطل هرقل. تقول الاسطورة: عندما أنجز هرقل الأفعال الاثني عشر المطلوبة منه، مضى الى طيبة ليدخل في مباراة رمي السهام مع الملك اورثيوس الذي وعده أن يزوّجه من ابنته لنلاحظ ان امرأ القيس مضى الى بيزنطة ووقع في غرام ابنة الامبراطور. وقد فاز هرقل في المباراة لكن الملك لم يفِ بوعده. وبعد سلسلة مغامرات في اسبارطة اشتبك هرقل - أخيراً - مع الساطور سينوس وهو وحش خرافي حاول خطف زوجته وفي اسطورة امرئ القيس نجده يحارب ليخلّص زوجته هند من خاطفيها. لكن الوحش الخرافي وأثناء احتضاره قدّم سائلاً مسموماً لزوجة هرقل قائلاً لها: ان عليها أن تسكبه على ثياب هرقل لتضمن بقاء حبه لها الى الأبد. وهذا ما فعلته اعتقاداً منها انه لن يعشق ابنة الملك أو يتزوجها بعد الآن. وعندما لبس هرقل الثوب المسموم اهترأ جسده وعانى آلاماً مُبرِّحة ومات. تسربت هذه الاسطورة الى المرويات التاريخية عن امرئ القيس الشاعر ساكن الحيرة، المريض ذي القروح. وهذا دمجت صورته بصورة امرئ القيس الذي سعى الى الثأر من بني أسد الذين قتلوا والده حجر زعيم قبيلة كندة، حيث جرى الزج باسم رجل أسدي يُدعى الطمّاح في المروية وصوِّر في هيئة واشٍ يتسلل الى مملكة الروم للابلاغ عن قصة الحب السرية بين ابنة القيصر والشاعر. والمثير أن اسم الطمّاح هذا هو اسم لامرئ القيس أيضاً امرؤ القيس بن الفاخر بن الطمّاح - وهو شاعر اسلامي - خزانة الأدب، البغدادي: 335: لقد طمحَ الطمّاحُ من بُعدِ أرضهِ ليلبسني من دائهِ ما تلبَّسا الديوان: 118 وهي قصيدة تنتسب - برأينا - الى شعر هذا الشاعر الاسلامي، الذي تلقّب بامرئ القيس على غرار سابقيه وفي اطار التقليد الثقافي والشعري ذاته. إن بناء القصيدة وقيمها الشعرية، على حد سواء، تتمثلان فكرة السقم وعذابات الألم القروح بما هي فكرة في الصميم من عقيدة التقيّ المعذّب، وليس ثمة ما يدعونا الى تصديق أن ذا القروح الشاعر كان شخصاً مريضاً بالفعل، بل على العكس من ذلك، لدينا ما يكفي من الأدلة على أن التمارض والوقوع في أسر القروح والعذابات هو تقليد شعري تلقفه الشعراء وعالجوه بوصفه مادة شعرية. وهذا ما يمكن فهمه بعمق من القصيدة، فالطماح البعيد - ليس رجلاً واشياً فاسداً كما فهم الرواة والنقاد القدماء من القصيدة - بل هو المريض نفسه الذي ترك عبر التقليد الشعري، أثره الممضِّ في أشعار الآخرين. وبذا فهي قصيدة لا تخصّ ابن حجر صاحب الديوان، بل سميه الذي تلقب بذي القروح ساكن الحيرة، الذي ضاعت أشعاره وقام المتأخرون بانتحالها أو وضعها. ولمّا كان هؤلاء لا يراعون التسلسل التاريخي للأشخاص والأحداث فقد زجّوا باسم الطمّاح مرتين: مرة على انه رجل من بني أسد وشى بامرئ القيس عند القيصر، ومرة على أنه الرجل المريض ذو القروح الذي ألبس الشاعر من دائه، وهذا أمر غير منطقي، إذ لا يمكن للبطل نفسه أن يكون في هيئتين متناقضتين في الآن نفسه. ولذلك فإن هذه القصيدة هي من وضع رواة متأخرين، قاموا ببناء القصيدة من بقايا شعر ضائع ومنسيّ لشاعر الحيرة امرئ القيس: ذي القروح. وهذا كما نرتأي لقبٌ يحاكي عقيدة الشقيّ المُعذَّب أو التقيّ المعذَّب كما تجسدت في الملحمة الشعرية العربية القديمة عن أيوب النبي، والتي وجدت طريقها الى التوراة، كما في الأشعار البابلية والسومرية أيضاً، حيث وجد الرواة في اسطورة الثياب المسمومة اليونانية اطاراً نموذجياً للدمج بين الصور. ولكن: أين تقع أنقرة حقاً؟ استدلَّ الرواة، بغير وجه حق، ببيت شعر منسوب لامرئ القيس هذا، فزعموا أنه مات في أنقرة بعد عودته من لقاء القيصر: رُبَّ خُطْبةٍ مُسحنفرة وطعنةٍ متغجرة وجفنةٍ مُتحيِّرة حلّت بأرض أنقرة لكن أنقرة هذه لا تقع، في حقيقة الأمر، في بلاد الروم، كما توهم الاخباريون العرب، وجاراهم في هذا الوهم بعض المعاصرين، بل في مملكة الحيرة نفسها موطن الشاعر العليل ذي القروح المتلقّب بلقب امرئ القيس، وهي موضع بظاهر الكوفة الحيرة ثبته ياقوت الحموي 1: 323 كما ثبتته الخرائط القديمة للمدينة. ويمكن الاستدلال على ذلك، تدعيماً للحقيقة الجغرافية، برواية مهمة للغاية رواها الأصمعي، قال: تقدّم رجل من بني دارم الى القاضي سوّار بن عبدالله يُقيم عنده شهادة، فصادفه يتمثل بقول الأسود بن يعفر: ماذا أؤمِّلُ بعد آل مُحرَّقٍ تركوا منازلهم وبعد إياد أهلُ الخورنقِ والسدير وبارق والقصر ذي الشرفات من سندادِ نزلوا بأنقرة يسيلُ عليهم ماءُ الفراتِ يجيء من أطوادِ ثم أقبَل على الدرامي فقال له: أتروي هذا الشعر؟ قال: لا. قال: أفتعرف قائله؟ قال: لا. قال: هو رجلٌ من قومك له هذه النباهة يقول مثل هذه الحكم لا ترويها ولا تعرف قائلها؟ يا مزاحم! إثبت شهادته عندك فإني متوقفٌ فيها حتى أسأل عنه، فإني أظنه ضعيفاً! ويُفهم من رواية الأصمعي أن القاضي كان يترنم بشعرٍ يصف مواضع في الحيرة التي يقيم فيها، ولم يكن الشاهد ليعرف عنها أي شيء مع انه ينتسب الى قبيلة الشاعر نفسه والى مدينته. وفي معجم ما استعجم: 201 يرد ذكر أنقرة بوصفها من مواضع الحيرة، أي بالضبط، حيث عاش ومات الشاعر الحيري امرؤ القيس ذو القروح ودفن هناك. على هذا النحو جرى دمج صور شعراء عرفوا باسم امرئ القيس في صورة واحدة، وتم اختلاق شاعر لا وجود له، ونُسب له ديوان هو، في نهاية المطاف، ديوان أكثر من اثنين وعشرين شاعراً. * باحث عراقي في شؤون التراث مقيم في هولندا. والمقال فصل من كتاب جديد يصدر قريباً.