تدمر والعماليق تقوم أسطورة الطبري بخداع متلقيها على مستويين: أولاً: حين تطلب منه قبول حادث اغتيال أُذينة، الغامض، في تدمر عام 266 - 267م، على أنه هو نفسه، حادث اغتيال جَذِيْمة الأبرش ملك الحيرة على يد الزباء في تدمر أيضاً. أي: أن نتقبل رواية ذبح جَذِيْمة بعد مكيدة أعدّتها الزباء، وهذا ما لا دليل مؤكداً عليه" بينما يمكن لنا، على الضد من ذلك، أن نتقبل فرضية موت أذينة الملك على يد زوجته زنوبيا ذبحه بعد استدراجه. ثانياً: حين تطلب منه تصور الزباء على أنها، هي ذاتها، ملكة تدمر زنوبيا. وهذا أمر لا يبدو معقولاً. ولذلك يمكن اعتبار مَروية وأسطورة الطبري نموذجية على صعيد فهم الطريقة التي يتشكّل فيها رجع الصدى التاريخي للمرويات القديمة الشائعة بين القبائل وهذا ما سنحاول إيضاحه: كانت "مشيخة" الزباء أو زا بي بي ي الصغيرة على الفرات الغربي - كما يؤكد الطبري - وفي عصر تجلات بلاسر الثالث، تعيش توتراً واضطراباً مستمرين في علاقاتها السياسية مع جارتها مملكة الحيرة حيرتا. إن تاريخ هذا التوتر العسكري والسياسي بين المشيَختين القبليتين، سيكون مفهوماً إذا ما وضع في إطار الصراعات التقليدية بين الممالك القبلية العربية في الباديتين العراقية والسورية" لأن إحداهما أسّسها اللخميون والأخرى بقايا العماليق وهذا هو سر إلحاح الطبري والمسعودي على القول إن جنود الزباء من بقايا العماليق إذ لو كان المقصود بها حقاً، "جنود تدمر" لما كانت هناك حاجة الى القول إنهم من بقايا العماليق. وثمة أمر آخر من شأنه أن يوضح هذا الالتباس" إذْ يرد في سائر المرْويات القديمة والإسلامية مثلاً: البكري: 1: 307 وياقوت: 2: 17 وكذلك المسعودي والطبري وابن الأثير وسواهم، أن الزباء هي "أبنة عمرو بن الظرب العماليقي" وهذا نسب مختلق ولا وجود له في شجرات الأنساب العربية، كما أن لا صلة له بنسب زنوبيا التدمرية" التي اختلف القدماء - أصلاً - حول جذورها العربية حتى أن المسعودي، شكّ بنسبها وزعم أنها "رومية تتحدث العربية" مروج الذهب: 2: 71 وما بعدها. فضلاً عن هذا كله، فإن سائر الإخباريين القدامى والمسلمين يُردّدون الروايات الآتية، إن "تدمر سميت نسبة الى تدمر بنت حسان بن أذينة العماليقي - مثلاً: ياقوت: 2: 17" وهي مزاعم يستحيل التحقّق منها تاريخياً" ولكن تمكن معالجتها ميثولوجياً. هذا الاضطراب والتشوش والتضارب في رد اصل اسم الملكة والمدينة الى نسب مقبول، مردّه في واقع الأمر، أن المقصود به "الملكة" القبلية الزّباء لا زنوبيا. ويبدو ان كلمة تدمر هذه كانت مصدر التباس قديم عند العرب، فهي المنطق الإرمي لكلمة تمر العربية: تَتْمر تدمر. ويعتقد ان أصل الكلمة تثمر من الثمر ثم خُففت الثاء تاءً مثل ثامر، تامر وذلك لصلة الاسم بوجود واحة كثيفة النخيل. وثمة سبب مقبول لافتراض هذه الصلة" إذ ما أخذنا في الاعتبار ان الرومان أطلقوا على تدمر اسم Palmyra، وهي من Palma النخيل بما يعني ان الرومان أدركوا معنى الاسم القديم تدمر حين قاموا بمكافأته بكلمة لاتينية. على أن هذا الاسم يمكن ان يكون اسماً لفتاة" تماماً كما زعم الإخباريون القدامى" ففي التوراة سفر التكوين: 37/26- 38/11 يرد اسم تامار كنّة يهوذا، وهو صيغة عبرية من الاسم تمر. ويبدو ان العرب العاربة عرفت هذا الاسم تامار، تمر، تتمر وربطت بعض مروياتها القديمة بين بناء المدينة والنبيّ - الملك سليمان ع حتى أن النابغة الذبياني، وتحت تأثير هذا الالتباس، أعاد في قصيدة شهيرة رواية اسطورة بناء تدمر قائلاً: إلا سليمان إذ قالَ الإله له قُمْ في البرّية فأصددها عن الفندِ وخيس الجنّ إني قد أذنتُ لهم يبنونَ تدمر بالصفاحِ والعَمَدِ من هذا كله يتضح أن مزاعم وجود تدمر بنت حسان العماليقي فتصل بالطفولة البعيدة للمدينة، أي بمزاعم ما قبل ظهورها على المسرح التاريخي وبالتالي فإن المروية تنصرف الى غربي الفرات لا إلى تدمر الرومانية. أسطورة يونانية - عربية هناك ثلاثة مصادر أساسية استندَ إليها منشئ النص الأسطوري، الذي نقله الطبري، وقام بروايته تارة كخبر تاريخي، وتارة كأسطورة: أولاً: الشائعات التي راجت في تدمر في العام 266- 267م عن قيام زنوبيا بتدبير حادث اغتيال زوجها وابنه من ضرّتها هيرودوس. وظل الحادث غامضاً ولكن الشائعات استمرت في اتهام زنوبيا. ويفهم من جملة أفكار في هذا الصدد، ان زنوبيا كانت صاحبة مصلحة كبرى في موت أذينة ليتسنى لولدها وراثة عرش والده. ويبدو أن هذه الشائعات طافت الأرجاء وترددت بين القبائل العربية. وعندما وقع - بعد نحو ثلاث سنوات فقط من هذا الحادث - حادث مشابه: موت جَذيمة الأبرش بصورة غامضة نحو 271م حين صعد الى العرش في الحيرة الملك الشاب عمرو بن عديّ ابن اخت جذيمة جرت مماهاة بارعة ولكن مثيرة للشكوك: لقد تم الدمج بين حادثي الاغتيال وصوّرا كحادث واحد مسرحه الكبير تدمر. كان عمرو بن عدي برّ عدي في التلمود بمثابة ابن لجذيمة الذي يزعم أنه كان كاهناً عقيماً وقد نصّبه الفرس ملكاً على الحيرة. وارتأى بروكلمان تاريخ الشعوب: 23 ان سابور الأول 241 - 272م هو الذي فرض عمرو بن عديّ ملكاً على العرب في الحيرة. كان موت جذيمة الأبرش غامضاً، والأسطورة التي يرويها الطبري، تدفع الى الاشتباه بوجود مؤامرة، ولذلك فإن الخبر يتضمن إمكانات غير محدودة لدمجه مع خبر اغتيال أذينة، وتنصيب وهب اللات - القاصر حيث احتفظت زنوبيا بحق الوصاية - إن شائعات تدمر، في هذا الوقت، كانت تصبّ كلها في مجرىً واحد: المرأة الجميلة والمثقفة زنوبيا قتلت زوجها أذينة. هذا ما يفسر لنا سر طلب الزواج الذي عرضته الزباء على جذيمة، إذ رمزياً تكون الزباء ذبحت زوجها، على أن بعض الشائعات كان يذهب الى أبعد من ذلك: إن الرومان هم الذي دبروا حادث الاغتيال للتخلص من ملك قوي وطموح في عصر مضطرب. وهذه فرضية مقبولة، إذا ما أخذنا في الاعتبار مخاوف الرومان من طموحات "امبراطور الشرق" أذينة المنتشي بقهر الفرس. وإذا صحّت هذه الفرضية، فهذا يعني أن فارس استعجلت هي الأخرى تغيير تبديل رجلها في الحيرة، فدبّرت حادث قتل غامض لجذيمة اتساقاً مع ما قامت به روما... ثانياً: كانت أسطورة "حصان طروادة" معروفة جيداً بين القبائل كما يبدو من نص الطبري وهذا ممكن مع انتشار الثقافة اليونانية، لذلك جاءت أسطورة جذيمة كمحاكاة لأسطورة "حصان طروادة" إذ بدلاً من الحصان الخشبي كانت هناك قافلة إبل. تقول الأسطورة اليونانية: إن أبطال اليونان اختبأوا بأسلحتهم في جوف حصان خشبي كبير أعدّه آغا ممنون الملك بناء على اقتراح من الكاهن كالشاس. وحين دخل الحصان الخشبي الى طروادة، قام لاوكون بضرب بطن الحصان بحربة كانت في يده ليتأكد ان جوفه فارغ وهذا ما فعله بواب تدمر النبطي: لقد ضرب بمنخسة كانت في يده، الجواليق المليئة بالفرسان. وكما تقول الأسطورة: فقد لعب الجاسوس سيتون دوراً حاسماً في إقناع حاكم طروادة بإدخال الحصان الخشبي وهذا ما قام به الوزير قصير بن سعد. ثالثاً: أما المصدر الثالث في إنشاء الأسطورة العربية فهو مشهد موت كليوباترا، الذي تمت استعارته: مصّ الخاتم المسموم. هناك اعتبارات عدة أملَتْ هذه الاستعارة تندرج كلها في سياق مزاعم الإخباريين العرب عن وجود أصل عماليقي للزبّاء وهم يفترضون أنها زنوبيا: أ- أن زنوبيا كانت تقول عن نفسها أنها من أصول "مصرية" وهذا أمر شائع وردّدته المرويات التاريخية. ب - إن العماليق كانوا - ذات يوم بعيد - حكاماً في مصر نحو 1750ق.م. أي: كانوا مصريين. وهكذا تمت مطابقة من نوع آخر: بما ان الزباء من "أصول عماليقية" فهي إذن "مصريّة". وإذن - مرة أخرى - فإن زنوبيا التي تقول عن نفسها إنها "مصرية". إنما هي الزبّاء! وهكذا تمت استعارة مشهد موت كليوباترا بالسمّ في مصر إثر هزيمتها امام الامبراطور الروماني، ليكون مشهداً جليلاً مهيباً، يتناسب مع موت مهيب للزبّاء، التي تركت في "أسطورة" الطبري وهي تموت بمصّ السم من الخاتم - تماماً كما فعلت كليوباترا - بينما نعلم من التاريخ، أن زنوبيا ماتت في زنزانتها الموحشة في روما بعد أخذها الى هناك أسيرة ذليلة.أخيراً، ان مروية الطبري عن موت جذيمة الأبرش في تدمر، تتضمن ما هو أبعد أثراً من مجرد الخلط والالتباس في الأسماء والمواضع. إنها تتضمن رجع صدى التاريخ الغابر والأسطوري وتردد في أرجاء عالمنا المعاصر في صورة مرويات ملتبسة يراد لنا ان نصدّقها كحقائق تاريخية. ومن دون شك فإن نقد النص التاريخي لن يكون ممكناً من دون معالجات رهينة لما يبدو "أساطير" غير قابلة للتصديق. قد تكون شهرة تدمر وطغيانها على سائر الممالك العربية الصغيرة والقديمة، سبباً رئيساً في تصور القدامى لكل مملكة مزدهرة على أنها تدمر تماماً كما طغت شهرة زا بي بي ي أو زبيبة، الملكة العربية الشجاعة التي قاومت الامبراطورية الآشورية، على سائر "الملكات" القبليات، بحيث صارت كل "ملكة عظيمة" هي الزبّاء. ولكن المهم ان نتمكن - في النهاية - من وضع التخوم بين ما هو خبر تاريخي عنها أو أسطورة تناقلت القبائل روايتها جيلاً بعد جيل. على هذا النحو جرى ويجري في التاريخ دمج متتابع ومثير للصور. * باحث عراقي في شؤون التراث.