في روايته لأخبار مملكة الحيرة وملكها "الأسطوري" جَذِيمة الأبرش، يقول الطبري 1:439: ان جَذِيمة الأبرش هو من العرب العاربة الأولى، يعود نسبه الى بَني وبار بن أميم ]وكان من أفضل ملوك العرب رأياً وأبعدهم مغاراً وأشدهم نكاية وأظهرهم حزماً" وأول من استجمع له الملك بأرض العراق وضم اليه العرب وكان به بَرص[. واستطراداً في الدقة والتوصيف الموضوعي يضيف الطبري: ]وهابت العرب أن تُسميه به - أي الأبرص - وتنسبه اليه، إغظاماً، فقيل: جذيمة الوضّاح وجذيمة الأبرش. وكانت منازله فيما بين الحيرة والأنبا- وبقة وهيت ... فكان جذيمة قد تنبأ وتكهَّن واتخذ صنمين يقال لهما الضزنان ومكانهما بالحيرة معروف وكان يستسقي بهما ويستنصر بهما على العدو[. هذا التعريف المكثف الذي يعطيه الطبري لبطل مروياته الخاصة بالحيرة نحو ثلاثة أميال الى الجنوب من مدينة الكوفة الحالية في العراق، والتي يرد اسمها في التلمود البابلي في صورة: حيرتا دي طيبة وكذلك التحديد الدقيق للرقعة الجغرافية التي عاشت في كنفها هذه المملكة" سيكونان - لسوء الحظ - قابلين للتدمير، حين تدخل الأسطورة كمصدر من مصادر الرواية. أيّ: حين ينتقل سارد النص الاخباري من الخبر الى الاسطورة. ان قارئ نص الطبري، يشعر، كما لو ان منشئ النص، تخلى فجأة، عن دقته وموضوعيته، وعما أجهد نفسه في تحديده: تاريخياً وجغرافياً، وترك الحرية للاسطورة كي تقوم بتأسيس النص وفقاً لشروط انشائها هي" وذلك حين يباشر في سرد اسطورة الزواج الذي انتهى الى خديعة ثم وقوع جَذيمة الابرش في أسر الزباء في تدمر. وبحسب رواية الطبري" فقد استدرج جذيمة الأبرش ملك الحيرة الى تدمر، على رغم تحذيرات وزيره الداهية قصير بن سعد، حيث اغتيل هناك. ان التاريخ لا يعرف هذه الواقعة" كما انه يجهل وجود الوزير الداهية قَصير بن سعد" الذي ارتبط اسمه بالمثل الشهير لأمر ما جدع قصير أنفه، أو: لا يطاع لقصيرٍ رأي فضلاً عن اننا نجهل، تماماً، حدوث حرب بين الحيرة وتدمر انتهت بأسر ملك الحيرة وقتله. المثير في مَرْويات الطبري هذه" اشاراتها المتعددة الى ان المكيدة بدأت إثر طلب للزواج تقدمت به الزباء من جذيمة. وهذا غير معقول، لأن الزبَّاء - اذا سلمنا ان المقصود بهذا الاسم زنوبيا التدمرية - كانت زوجة لملك تدمر الامبراطور العربي "أذينة Odenathus؟ لا بد ان هذه المروية تخص ملكة اخرى تدعى الزبَّاء" كان جذيمة قد وقع في أسرها، أو انها طلبت منه الزواج في سياق خدعة للثأر منه. سنقوم - هنا - باعطاء نصٍّ مكثف عن اسطورة مصرع جذيمة الأبرش كما رواها الطبري والمسعودي مروج الذهب: 2:71. تقول الأسطورة: ان جنود الزبَّاء هم بقايا من العماليق والعرب العاربة. وكان لها أخت تدعى "زبيبة" وبنت لها قصراً على شاطئ الفرات الغربي، وكانت ]تشتو عند اختها في بطن النجار ثم تصير الى تدمر. فلما استجمع لها أمرها واستحكم لها ملكها، أجمعت لغزو جذيمة الأبرش تطلب بثأر أبيها[. لكن "زبيبة" رفضت فكرة الحرب" وحضت شقيقتها على تدبير مكيدة لقتل جذيمة عبر استدراجه الى تدمر. وهذا ما حدث. أرسلت الزباء في طلب جذيمة عارضة عليه الزواج لانها لم تجد تلك النساء إلاّ الى قبيح في السماع وضعفٍ في السلطان. تبلغ جذيمة الرسالة وهو في نزهته في بقة قرب هيت" ولكن شهوة الحرب كانت أقوى من العرض السلمي. ولذا قرر جذيمة ]أن يسير اليها ويستولي على ملكها[. وبعد مناقشات حامية مع مستشاريه ووزيره الداهية قصير بن سعد، قرر جذيمة ان يترك العرش في عهدة ابن اخته المحبوب عمرو بن عديّ" وأن يتوجه بنفسه لغزو الزباء. لكن هذه كانت قد استعدت جيداً للحظة اللقاء، اذ رتبت استقبالاً سلمياً، وراحت تغمر عدوها بالهدايا والألطاف. وحين اطمأن جذيمة الى سلامة العرض وجدِّيته" كانت المكيدة قد اكتملت حلقاتها بسرعة ووقع الملك في الفخ. وانئذٍ، قامت الزباء بذبح جذيمة: ]ثُّم أجلسته على نطعٍ وأمرت براهشيه فقطعا ... وقيل لها ان قطر من دمه شيء في غير الطست طلب بدمه. وكانت الملوك لا تقتل بضرب الأعناق الا في قتال. فهلك جذيمة واستشفت الزباء دمه فجعلته في برس قطن[. إثر ذلك طلب الوزير الفار من ابن اخت الملك ان يستعد للأخذ بثأر خاله الذي وقع في الأسر، قائلاً له ان لديه تدبيراً مخادعاً. وهكذا جدع الوزير الداهية أنفه وفرّ من الحيرة الى تدمر، طالباً الحماية من الزباء، وقائلاً لها: ان عمرو بن عديّ ابن اخت جذيمة جَدعَ أنفه وأهدر دمه لاتهامه إياه بالتسبب في وقع جذيمة في الأسر ومقتله. وهكذا أيضاً، صدقت الزباء كذبة الوزير الهارب. بعد هذه الأحداث المتلاحقة تقوم الزباء بتكليف قصير بن سعد، الذي صار موضع ثقتها، بتسيير قوافل تجارية بين الحيرة وتدمر، بناءً على اقتراح منه. ولكن، وبعد ثلاث رحلات ناجحة، أسفرت عن ثروات كبيرة وبضائع حصلت عليها المدينة، دبر الوزير الجاسوس مكيدته القائلة: بدلاً من البضائعمملأ الجواليق فرساناً حملتهم الإبل، فكان يضع كل رجلين في غريرتين ثم يشدهما الى البعير. يقول ابن الكلبي، بحسب نص الطبري: ان قصيراً، هذا، كان أول من عمل الغرائر! وسوف نرى تالياً، كيف ينسجُ ابن الكلبي اخباره من الأساطير. وبعد ان اختبأ الجنود في الجواليق والغرائر سارت قافلة الابل من الحيرة متجهة صوب تدمر. كان الملك الشاب عمرو بن عديّ، واحداً من الفرسان الذين اختبأوا في الجواليق. لقد قرر ان يشارك بنفسه في الثأر لخاله المغدور به: ]فلما كانوا قريباً من مدينتها، تقدم قصيرٌ اليها فبشرها، وأعلمها كثرة ما حمل اليها من الثياب والطرائف، وسألها ان تخرج فتنظر الى الإبل وما عليها من الأحمال. فخرجت الزباء فأبصرت الإبل تكاد قوائمها تسوخ في الأرض من ثقل أحمالها ... فدخلت الإبل المدينة حتى كان آخرها، بعيراً، مرّ على بواب المدينة وهو نبطيّ بيده منخسة فنخس بها الغرائر التي تليه، فأصابت خاصرة الرجل الذي فيها فضرط ... فقال البواب بالنبطية: بُشتا بسقا[. أي: في الجواليق شرّ. وحتى اليوم لا نزال نستعمل، في كلامنا اليومي، كلمة بشت الأكدية الأصل، ثم الأرمنية بمعنى: رديء، فاسد، شرير. يقول أحدنا: فلان بُشت. ]فلما توسطت الإبل المدينة أنيخت وخرجت الرجال من الغرائر وصاحوا بأهل المدينة ووضعوا فيهم السلاح ... وأبصرت الزباء عمرو بن عَدي فمصَّت خاتمها وكان فيه سم[. الزباء ليست زنوبيا يمكن اجرائياً" وفي سياق تقنية تحليلية متطلبة، ان نقوم بشطر نص الطبري والمسعودي استطراداً الى: الخبر التاريخي والاسطورة. سنرسم - هنا - إطاراً تاريخياً لأجل تحليل الخبر في نص الطبري، وبعد ذلك سنقوم بتفكيك الشطر الثاني: الاسطورة. هذه التقنية، تهدف، في المقام الأول، الى تسهيل مهمة نقد النص. يُدعى ملك تدمر وزوج زنوبيا: أذينة" وجده الأكبر هو نصر نصرو فيما جده المباشر هو وهب اللاَّت. أما والده فيدعى خيران. وفي نقشٍ يعود الى العام 235 م ورد اسم أذينة على هذا النحو: أذينة بن خيران بن وهب اللات بن نصر" بوصفه عضواً في مجلس الشيوخ الروماني" وذلك عندما كانت تدمر تابعة لروما. كان والده، بحسب الوثائق الرومانية، يُدعِى سبتيموس خيران وهذا لقب نبيل قلّما حصل عليه ملك عربي موالٍ للرومان. بينما يدعى ملك الحيرة جذيمة بن مالك بن فهم ويعرف بجذيمة الأبرش ويرسم اسمه في النقوش على هذا النحو: جديمت ملك تنوخ. وفي نقش شهير يدعى نقش أم الجمال جنوب بصرى الشام بحوالى 7 كيلومترات، كتب على شاهدة قبر: ]هذا موضع قبر فهر بن شلي سلي مربي جديمت ملك تنوخ[ وقد حدّد علماء الآثار تاريخ النقش بالعام 270 م أيّ الى الفترة ذاتها التي كان فيها أذينة في تدمر. ان الحقبة التاريخية التي تدور فيها احداث المروية والاسطورة بين 226-241م هي فترة اضطراب في الشرق بأسره مع صعود الساسانيين في فارس بزعامة أردشير بن بابك" ففي اعوام 253-260م وأثناء المعارك الطاحنة بين الفرس والروم تمكن سابور ملك فارس من إلقاء القبض على الامبراطور الروماني فاليران. بيد ان أذينة ملك تدمر القوي، نجح في اعداد هجوم كاسح لتحرير الامبراطور الروماني وتمكن من إلحاق الهزيمة بسابور، الذي فر من المعركة" الأمر الذي شجع الرومان على منح الملك العربي لقب امبراطور الشرق. هذه بايجاز شديد ملامح بطلي المروية والاسطورة كما قدمها الطبري والمسعودي وسواهما من الاخباريين العرب. بقي ان نعرف ان أذينة قُتل في صورة غامضة ومجهولة حتى اليوم، في تدمر نحو 266-267م مع ابنه هيرودوس. بينما قتل جذيمة في صورة غامضة أىضاً، في الحيرة نحو العام 271م. خلط الطبري بصورة مأسوية بين جذيمة الأبرش جديمت ملك الحيرة في العراق، وبين أذينة ملك تدمر من أعمال الشام. وظن خطأ ان جذيمة قتل على يد الزباء في تدمر" وأنه كان ضحية خدعة. والعجيب في الأمر" ان الخدعة جرت على أساس وجود عرض للزواج، بينما نعلم ان الزباء هي زوجة الملك القوي أذينة. في الواقع لا يمكن لوم الطبري على مثل هذا الالتباس" وان كنا ننقد الخلط الذي وقع فيه" ذلك ان اسم جديمت كان مُحيّراً حتى بالنسبة الى علماء الآثار" ولا تزال الخلافات قائمة في شأن نقش أم الجمال وأسباب وجوده في هذا المكان - من الشام - مع ان جذيمة هو ملك الحيرة في العراق. فهل كان ملكه يمتد حتى جنوب بصرى؟ أم انه جاء زائراً؟ ولكن: وكما دمج الطبري بين جذيمة وأذينة" فقد جرى دمج مماثل بحيث صارت الزباء تعني زنوبيا" وهذا خلط مأسوي من درجة مثيرة حقاً. اختلق الطبري، على غرار آخرين، شخصية الزباء، التي لا وجود لها، لا في هذا العصر ولا في التاريخ" وهذا ما سنحاول تحليله هنا. ليست الزباء هذه، التي اعتبرها كتّاب التاريخ العرب من المعاصرين خطأ زنوبيا، سوى الملكة العربية التي قاومت تجلات بلاسر الثالث 744-727 ق. م. وعُرفت في السجلات الآشورية باسم: زا.بي.بي.ي" والتي ظلت أساطيرها وأخبار أسرها شائعة بين القبائل" ولا بد ان هذه الأساطير قد اختلطت بأساطير ملكات اخريات" تماماً كما اختلط اسم زا.بي.بي.ي.أو: زبيبة باسم زنوبيا. ومعلوم ان تجلات بلاسر الثالث قام بأسر هذه الملكة في احدى حملاته الحربية. وافترض أ. موسل إن زا.بي.بي.ي. كانت ملكة في دومة الجندل منطقة الجوف حيث الحصن الشهير المعروف باسم الأبلق. ومما يعزز قراءة الاسم زبيبة: زا بي.بي.ي. لا زنوبيا، ان الطبري أورد الاسم داخل نصه في صورة زبيبة شقيقة الزباء" وجعلها ملكة غربي الفرات لا في دومة الجندل. ان هذا يشير الى استعادة لا واعية للمرويات القبلية المتواترة، الشفية، عن حروب هذه الملكة ضد الآشوريين وهم ملوك العراق القديم حيث دمجت بحروب زنوبيا ملكة تدمر، تلقائياً. كما دمجت، في السياق ذاته، دمجت صورتا الملكين جذيمة وأذينة. تكشف هذه الاستعادة، عن وجهٍ من وجوه الحقيقة التاريخية المشوشة في مرويات الطبري" فالأسطورة لا تدور في مدينة تدمر وفي عصر ملكتها العظيمة زنوبيا" بل في مكان آخر، غرب الفرات كما يحدده الطبري بنفسه، حيث حكمت هناك ملكة تدعى زبيبة، ويبدو ان احد ملوك الحيرة القدامى دخل معها في حروب انتهت بمصرعه. تأسست الحيرة قديماً وعرفت جيداً في عصر نارام سين الأكدي 2270-2223 ق. م. - المفصل: 1:553. اعتاد الاخباريون المسلمون، بفضل مروية الطبري، على مماهاة اسم زنوبيا باسم الزباء ومعاملتهما على انهما اسم واحد" وعلى جري هذا التقليد الكتابي قام كتاب التاريخ المعاصرون، من دون أدنى احتراسٍ أو تدقيق، بمطابقةٍ مطردة للاسمين" في محاكاة مثيرة للدمج غير الخلاق" الذي قام به الطبري" في مروياته عن تاريخ الحيرة وتدمر. * باحث عراقي في شؤون التراث.