لقي النهج السياسي الذي اتبعته منظمة التحرير الفلسطينية منذ خروجها من بيروت عام 1982 حتى اتفاق أوسلو اعتراضات عدة عربياً وفلسطينياً اتهمت هذا النهج بالتفريط والتنازل، واتهمت اوسلو بالقصور عن تحقيق الحد الأدنى من طموحات الشعب الفلسطيني وتطلعاته والمتمثلة بالعودة والدولة والقدس. وأياً يكن، فقد شكلت أوسلو نقطة تحول جيوبوليتيكية في الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، نقلت مركز هذا الصراع الى الداخل الفلسطيني لا سيما بعد سنوات من المنفى في تونس. ولا يزال النهج السياسي الذي اختارته السلطة الفلسطينية في إدارة الصراع مع إسرائيل يلقى الرفض من قبل الكثر من اصحاب التوجهات الأكثر راديكالية في صفوف المقاومة الفلسطينية وتياراتها المختلفة لا سيما بعد رفض إسرائيل تطبيق بقية البنود العالقة في اتفاق اوسلو وما أعقبه من اتفاقات، وبعد فشل كل المحطات التفاوضية، وأخيراً وصول آرييل شارون الى رئاسة الحكومة في إسرائيل بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية، وتتعالى الأصوات المطالبة بوقف كل اشكال التفاوض وإسقاط الخيارات السياسية لحساب العودة الى خيار الكفاح المسلح. هكذا يطل علينا الراديكاليون الجدد كل يوم تقريباً عبر الفضائيات المختلفة رافعين شعار الكفاح المسلح وملوحين بالانتفاضة كخيار وحيد لطرد الاحتلال الإسرائيلي واستعادة حقوق شعبنا المشروعة. لكن إذا كان ما يقرب العشر سنوات من المفاوضات قد منيت بالفشل الأمر الذي يبرر لنا طرح الكفاح المسلح كخيار وحيد لشعبنا الفلسطيني فإننا نتساءل في ما إذا كانت ثلاثة عقود من الكفاح المسلح منذ انطلاق الرصاصات الأولى عام 1965 قد استطاعت تحقيق الحد الأدنى من هذه الحقوق؟ كما يغدو من الضروري ان نسأل هؤلاء المفعمين بالراديكالية إذا كانوا يملكون الحد الأدنى من مقومات هذا الخيار لا سيما في ظل موازين القوى الحالية واختلال هذا الميزان لصالح إسرائيل؟ أوليست هذه الموازين نفسها تفرض على الخيار المسلح ان يأخذ شكل الحرب غير النظامية والعمليات المفاجئة وغير المتوقعة انطلاقاً من وعي الطرف الأضعف عسكرياً انه الأضعف. على ما يبدو نحن نتعامى عن اختلاف ظروف اندحار الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب اللبناني امام حزب الله واختلاف هذه الظروف عنها في حال اهلنا في الأرض المحتلة، وتؤول كل مقارنة متفائلة بين لحظة لبنان حزب الله ولحظة فلسطين الانتفاضة، بغية تبرير انتهاج المقاومة المسلحة وتقديمها كخيار وحيد في معركتنا مع إسرائيل، الى مقارنة ميكانيكية تغفل شروط النصر في المعركة وغير المتوافرة لهؤلاء الراديكاليين كالعمق الاستراتيجي وإمكان الدعم السياسي والمادي والعسكري لغياب الحدود العربية الفلسطينية اضف الى قدرة إسرائيل على تجزئة المناطق وإحكام إغلاقها... الخ. كما تنسى أو تتناسى مقارنة كهذه ان حزب الله لم يحارب بالسلاح وحده وإنما امتلك اسلحة إعلامية فاعلة وفاوض حين كان من مصلحته ان يفاوض. وتشكل العمليات الاستشهادية احد الأمثلة على استهتارنا بمواردنا البشرية، ولا نريد التورط في الجدل الديني الذي اثير أخيراً حول المشروعية الدينية لعمليات كهذه، ولا الدخول في نقاش حول التقويم الأخلاقي أو الإنساني لهذه العمليات باعتبارها تطاول مدنيين من الإسرائيليين، طالما ان حجم ما يسمى بالإرهاب الفلسطيني لا يقارن بحجم ووحشية إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل. نريد اولاً وأخيراً ان نناقش هذه العمليات من باب المصلحة الفلسطينية. فلماذا الإصرار على ان نبدي لإسرائيل والعالم شجاعتنا من طريق زج شبابنا الى الموت المؤكد على رغم إمكان تلافيه باتباع الأسلوب العلمي والمتمثل في العبوات الموقوتة أو المتحكم بها عن بعد؟ ويزداد الأمر سوءاً حين لا تسفر عملية كهذه عن وقوع ضحايا في صفوف الإسرائيليين، هل يغدو الأسلوب الثاني جبناً، أم أن الأول دونكيشوتية لا مبرر لها؟ وهل شن عملياتنا على المدنيين ضرورية في ميزان الربح والخسارة؟ يعتقد المفعمون بالراديكالية ان هذه العمليات تحقق مبدأ توازن الرعب، بمعنى أن على الإسرائيليين ان يعلموا انهم ليسوا بمنأى عن الموت في اي لحظة إذا ما استمرت اسرائيل بقتل الشعب الفلسطيني، وأنهم لن يحصلوا على الأمن الذي وعدهم به شارون، ويتفاءل كثر منهم حين يذهب الى الادعاء أن عدم حصول الإسرائيليين على الأمن الذي وعدوا به سيسحب من شارون الورقة التي صعد بها الى رئاسة الحكومة في إسرائيل. ونتيجة لهذا التفكير الضيق الأفق أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة ان غالبية الإسرائيليين يؤيدون سياسة رئيس وزرائهم، ذلك ان هذه العمليات الاستشهادية داخل الأراضي المحتلة عام 1948، لم تزد المجتمع الإسرائيلي إلا تطرفاً والتفافاً حول سياسة القتل التي ينتهجها آرييل شارون بينما ازدادت حركات السلام الإسرائيلية والتوجهات الأكثر اعتدالاً في إسرائيل تهميشاً وبشكل لم يسبق له مثيل منذ العام 1967 بسبب حال التطرف التي تسود الشارع الإسرائيلي. ونذكر من لا يؤمن بأهمية هذه الحركات داخل إسرائيل انها وحدها كانت قادرة على طرد شارون من المؤسسة العسكرية الإسرائيلية حين قادت التظاهرات الأضخم في تاريخ الدولة العبرية وهي قادرة اليوم على إسقاطه إذا ما هيئ لها المناخ المناسب للعمل. وبينما تلاقي العمليات المسلحة الموجهة ضد المستوطنات وجيوش المستوطنين انتقادات اقل حدة من قبل المجتمع الدولي، انطلاقاً من لا شرعية هذه المستوطنات واعتباره ان سياسة الاستيطان التي ينتهجها شارون احد الأسباب الرئيسة لاندلاع اعمال العنف وحتى من قبل الرأي العام الإسرائيلي الذي يزداد قناعة بضرورة التخلي عن المستوطنات، تلاقي اعمال قتل المدنيين داخل الأراضي المحتلة عام 1948 عبر العمليات الاستشهادية رد فعل سلبياً وعنيفاً من قبل العالم. فقد لقيت عملية تل ابيب الأخيرة، حين قام احد المقاومين الفلسطينيين بتفجير نفسه امام ملهى ليلي الأمر الذي أدى الى سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى في صفوف الإسرائيليين، احتجاجاً واسعاً وانتقادات عنيفة وضعت السلطة الفلسطينية تحت ضغط سياسي عنيف جعلها تبدو وكأنها ستخسر كل الإنجازات والمكاسب السياسية والمادية التي كانت زيارة عرفات لأوروبا قد حققتها قبيل العملية وكل التعاطف والدعم الذي لقيه خطابه امام البرلمان الأوروبي، وجعل من حملة عسكرية انتقامية وواسعة يشنها شارون على الفلسطينيين تبدو امراً وشيكاً مع امتلاكه المسوغات لعمل انتقامي كهذا، لولا تحرك وجهد سياسيين بذلتهما السلطة الوطنية الفلسطينية لامتصاص الضغط الدولي وسحب مشروعية اية عملية انتقامية من ايدي شارون، الأمر الذي كلف السلطة خسائر سياسية، كقبولها بمصطلح وقف إطلاق النار Cease-fire، كان يمكن تجنبها لولا عملية تل ابيب. علينا ان نعي تماماً الطريقة التي نخاطب بها العالم، إذا ما أردنا ان نسهم في تغيير المشهد الذي يحاول الإعلام الإسرائيلي والأميركي فرضه، ولا يبرر لنا هذا الانحياز الإعلامي لإسرائيل التقاعس عن هذه المهمة، ذلك ان التأثير الإسرائيلي على وسائل الإعلام لن يكون إلا بالقدر الذي يتيحه له هذا الإعلام نفسه، فقد تناقلت وسائل الإعلام لحظة استشهاد الطفل محمد الدرة وكذلك صور الطفلة الشهيدة ايمان لكن في الوقت نفسه تناقلت وبعد ايام قليلة من استشهاد الدرة وإيمان كلاً من مشهد الجندي الإسرائيلي الأعزل ونحن نرمي به من نافذة احد المقرات التابعة للسلطة الفلسطينية ومشهد الطفلة الإسرائيلية التي قتلت بعد اعمال إطلاق نار على إحدى المستوطنات. لا شك اننا نوفر وبتوقيت خاطئ دعاية مجانية لإسرائيل ومن ثم نلوم الانحياز الإعلامي لها. ينبغي الحذر من الأبواق الراديكالية الحالمة التي لا تكترث لنتائج اي عمل تقوم به وليس لها حجة سوى حجة الرد على أعمال القتل والإرهاب الإسرائيلي فتغيب عنها لحظة العقل التي تقتضي الموازنة بين العمل وتوقيته ومن ثم نتائجه، أو حجة الانحياز العالمي لإسرائيل فتختار عدم المبالاة بالرأي العام العالمي. لسنا ندافع عن نهج سياسي بعينه وإنما ندافع عن الواقعية السياسية أياً كان مصدرها، ولا نريد ان نوفر الحجج للمتقاعسين عن مساندة الانتفاضة، بل لا ندعو لوقفها، وإنما ننظر الى الانتفاضة كخيار لا يتنافى مع التحرك باتجاه كل الخيارات المتاحة كالادعاء على شارون امام المحاكم البلجيكية. * كاتب فلسطيني مقيم في دمشق.