حدثت "مفاجأة كبرى" أدهشت الكل، رسميين ونافذين، وكذلك شركتي "ليبانسل" و"سيليس"، عندما فاقت أرقام عائدات الخلوي ومداخليه الأرقام المتوقّعة التي مُنحتا، على أساسها، عقدا "بي أو تي" لبناء شبكة خلوية وتشغيلها وتسليمها خلال 10 سنوات 1994 - 2004 إلى الدولة. وهناك عوامل عدّة أسهمت في "المفاجأة"، أبرزها اثنان. الأول، غياب التخطيط الرسمي المبني على استشراف دقيق ومعمّق لمتطلّبات هذا القطاع أو، على الأقل، غياب مرحلة تجريبية، على غرار ما حدث في سورية. والثاني المواطن اللبناني نفسه الذي أسهم "أسلوب عيشه" في نمو قطاع الخلوي سريعاً، وبالتالي، في زيادة وقع المفاجأة، إذ حلّ لبنان في طليعة الدول التي تستخدم الهاتف النقّال وخدماته المتنوّعة. وبعدما أنهت الدولة، منتصف حزيران يونيو الماضي العقدين، "حبّياً"، في مقابل تعويضات، وجد هذا المواطن نفسه عالقاً بين أن يثق بدولته ويطمئن إلى تدابيرها، وأن يخاف من تعثّرها في الحل، لأنه سيكون على حسابه، في كل الأحوال. فأفضل حلّ، بالنسبة إليه الآن، هو الأخفّ عبئاً على كاهله. وربما زال خوفه، هذه المرّة، إذا أثبتت الدولة كفاية في معالجة القضية، ووضعت قانون اتصالات متّزناً و... طبّقته. فالخطر من أن يبقى القطاع الأخير المثمر، في لبنان، عرضة ل"المناتشة"، بين نافذين وشركات. فإذا حُلّت أو لم تُحل المشكلة القائمة مع الشركتين الحاليتين، لا أحد يضمن عدم وقوع مشكلات، ربما أعظم وأخطر، مع شركات أخرى ستغوص في "مستنقع الخلوي"، مع العلم أن الدولة اللبنانية لم تستعد سابقاً، ولا يَظهر استعدادها راهناً، لخوض غمار قطاع الخلوي فنّياً، على الأقل، لتدارك الأزمات المحتملة، مستقبلاً، ولو في مراحل انتقالية. ويبدو السكوت العام مستغرباً، لأن الأزمة حادة، وتطاول المستهلكين والثقة بالبلد، وقد علّقت الشركتان مشاريعهما القائمة واستثماراتهما المقبلة، فيما خدماتهما مستمرّة. وتحدّثت "الحياة" إلى الخبير رياض بحسون، عضو الاتحاد الدولي للاتصالات، وإلى كل من المديرة التجارية في شركة "ليبانسل" ماجدة صقر والمدير المساعد لوحدة تطوير الأعمال والتسويق فيها باسل ريحاني. النظام الآتي قريباً شرح ريحاني أن نظام "يو أم تي أس"، UMTS، "ينتمي إلى الجيل الثالث للاتصالات، ويسهّل نقل النصوص والصوت والفيديو والمواد المتعدّدة الوسائط، بمعدّل 2 ميغابت في الثانية، حداً أقصى". وبالتالي، يقدّم مجموعة متّسقة من الخدمات لمستخدمي الهواتف والكومبيوترات النقّالة، أنّى كانوا. "وهو يستدعي ترخيصاً جديداً لأنه يعمل، أساساً، على نطاق ترددات مختلفة، تراوح ما بين 1885 ميغاهرتز و2025 للمحطات الأرضية، وأعلى من ذلك للأقمار الاصطناعية. ثم أنه يتطلّب بنية تحتية جديدة خاصة به، لا تتعارض مع شبكة "جي أس أم" القائمة". "أما فريق الفنّيين فينبغي أن يتمتّع بملكات النظام الجديد. والفريق الموجود لدى "ليبانسل"، والذي تطوّرت خبراته من جيل اتصالات إلى آخر، سيكون جاهزاً في حال نشر الشبكة الجديدة"، في إشارة إلى أن الشركة تستعدّ للانتقال إليها. واستكملت ماجدة صقر الحديث، فقالت إن "السوق واحدة والخدمة الجديدة تُعدّ تطوّراً طبيعياً لتكنولوجيا الاتصالات الخلوية. إلاّ أن رخصة تشغيل خاصة بنظام "يو أم تي أس" وحده، ليست مجدية، راهناً، باعتباره نظاماً جديداً كلياً، وخدماته ليست منفصلة تماماً عن النظام السابق. فالأمر مرهون بالوقت الذي يستغرقه نشر الشبكة وتسويق الخدمات الجديدة، وكذلك بانتشار هواتف الجيل الثالث 3G، التي تتوافق مع "يو أم تي أس"، على غرار ما يحصل مع أجهزة نظام "جي بي آر أس"، راهناً، والذي علّقت "ليبانسل" إطلاقه والعمل فيه". واستطراداً، ينبغي أن تكون رخصة التشغيل العتيدة، لمدة 20 سنة، مرنة ومتنوّعة وغنية بالخدمات وامكانات التطوير والتحديث ومواكبة التطورات، لكي تحظى بسعر مناسب. والكل ينتظر دفتر الشروط. إذاً، من الناحية الفنّية تتحقّق الأعمال والتحسينات تدريجاً. أما الخدمات وتكنولوجياتها، فهي في حد ذاتها قابلة للتطوّر والتبدّل. وتتقاطع هذه النقطة مع ما أشار إليه الخبير بحسون، إذ قال: "إن قطاع الخلوي، أساساً، قطاع فنّي، ما يجعله يدرّ المداخيل، بسبب المستجدات التي تطرأ عليه بين الحين والآخر، وإمكان تجسيدها خدمات مربحة، ما يستوجب إبعاده من التجاذبات السياسية". التجربة في لبنان يبدو أن البعد الفنّي للاتصالات الحديثة، والسبيل إلى ترجمته قطاعاً تجارياً منتجاً، لم تدرك أهميتهما، في البداية، دولٌ عدّة في العالم. وعلى مستوى الأسواق التجارية، نشأت معاهدات واتفاقات شدّدت، في معظمها، على فتح الأسواق، في شكل شامل... "وشكّل قطاع الاتصالات، وحيويته وضرورة تعزيزه، البند الأبرز"، على ما قال بحسون، في التوصيات وآليات التواصل، و... في مجالات الاستثمار. "وباستثناء الولايات المتّحدة، حيث الاتصالات قطاع خاص، كانت الحكومات توكل إلى دوائرها المختصّة مهمات إدارة الاتصالات وتأمينها عبر الشبكات الثابتة، وتوسيع تغطيتها، وإتاحة النفاذ إليها لكل مواطن. فنشأت عن ذلك، ممارسات إدارية يطبعها الجمود". وتابع بحسون: "عام 1984، كان معدّل الاتصال عبر الشبكة الثابتة 3.99 في المئة، في مقابل 7.0 في المئة عبر الشبكة الخلوية. وعام 2000، بات الاتصال عبر الشبكة الثابتة يشكّل نسبة 49 في المئة، في مقابل 51 في المئة عبر الشبكة الخلوية. وهكذا، غدت الاتصالات الخلوية عاملاً مؤثراً في النزعة الجديدة لقطاع الاتصالات، في العالم". أما في لبنان، وبعدما انتهت الحرب، فكان على الحكومات المتعاقبة البحث عن مصادر تمويل لإعادة الإعمار وإنشاء البُنى التحتية، منها شبكة الهاتف. فقرّرت تحديث الشبكة القائمة وإضافة خطوط يصل مجموعها إلى نحو مليون، بالامتيازات أي بالاستدانة، معتبرة أن الشبكة الثابتة هي التي ستدرّ الأموال. وفي موازاة ذلك، تقرّر إقامة شبكة خلوية، بطريقة "بي أو تي"، لأن توقّعات سوق الخلوي لم تكن ذات قيمة عالية. ولماذا لم تكن ذات قيمة عالية، على رغم قدرة أصحاب القرار واللاعبين الأساسيين في مجال الخلوي عام 1994، على تلمّس نزعة هذا القطاع ومنحاه؟ أجاب ريحاني: "في غياب معطيات دقيقة، استندت التوقّعات إلى دراسات أجريت على حجم المكالمات عبر الشبكة الثابتة، وعلى أن البلد خارج من حرب، وأن القدرة الشرائية للفرد اللبناني متدنية... وعام 1994، لم يكن معلوماً بعد، في العالم، وفي شكل دقيق وحاسم ما سيؤول إليه قطاع الخلوي، خصوصاً لناحية الخدمات المضافة القيمة. وما حصل في لبنان من ازدهار في هذا القطاع فاق كل التوقّعات، حتّى أنه اعتُبر مؤشراً إيجابياً لنمو الخلوي وخدماته، عموماً". ثم أضافت صقر أن شركتين "ليبانسل" و"سليس" انطلقتا، في البداية معاً، من 100 ألف خط. وأقلعت العمليات ببطء، وكان من الأسباب غلاء الأجهزة. ثم "بلغنا حداً توقّفنا فيه عن بيع الأرقام، ثم استؤنفت العمليات، وأدخلت خدمات جديدة، منها بطاقة الدفع المسبق التي صار يستخدمها نحو 70 في المئة من زبائن الخلوي". أما الخطوط الثابتة فظلّ مبيعها بطيئاً. الخلوي و"بي أو تي" و... الحل؟ المعروف أن أشغال الخلوي وخدماته تمت وتتم، حتّى الآن، في صيغة "بي أو تي"، بناء، تشغيل فتسليم. وكانت تضخ الأموال في الخزينة. ولن نخوض في الأرقام لأنها موضع خلاف. ولو كانت المشكلة في الأرقام فقط، لتولت الأرقام وحدها حلّها. نظرياً، يُعدّ نظام "بي أو تي" من الوسائل التي استُحدثت للسماح للقطاع الخاص بالاسهام في مشاريع عمرانية يسلّمها إلى الدولة، بعد بنائها وتشغيلها، والإفادة منها لمدة محدودة. وهناك دول اتّبعت هذا النظام، وأخرى فضّلت عدم اعتماده. فمن جهة، لا يوصي الاتحاد الدولي للاتصالات باعتماد نظام "بي أو تي" للاستثمار في قطاع الاتصالات، لأنه مثمر وقابل للتطوّر، على ما قال بحسون وأشير إليه أعلاه، ويعيق عملية التطوّر التكنولوجي والإداري والرقابي. ومن جهة أخرى، يبدو أن النظام، في حد ذاته، حديث العهد، وهناك مراجع عدّة سجّلت عليه ملاحظات، خصوصاً في ما يتعلّق بمرحلة التسليم ومخاطرها. تقول تلك المراجع: على رغم الوعود الواثقة التي يطلقها محبّذوه، لم تستند الفوائد المفترضة لنظام "بي أو تي" إلى أدلّة حسّية أو وقائع مادية. فلا سجل لهذا النظام، لأنه، منذ نحو 15 سنة، لم يكن أكثر من مجرّد فضول. ونظراً إلى أن آجال العقود تمتدّ ما بين 15 سنة و20، ولم يظهر، بعد، أي مشروع "بي أو تي" كبير، نُفّذت مراحله كاملة أي بناء وتشغيل فتسليم، وفقاً للخطط الأولية. ولاحظت المراجع أن الدولة والقطاع العام - لا المستثمرين - كان يترتّب عليهما تحمّل أعباء الفشل، في أحيان كثيرة. لذا، ينبغي إعادة النظر في نموذج "بي أو تي" على أسس اقتصادية واضحة ومتينة.