جارتي ليزا طيبة. هذا ما تبيّن لي سريعاً مع انتقالي الى البيت الذي صار بيتي. كيف كنا لنتدبّر أمرنا من دون ليزا؟ أظل أسأل نفسي هذا السؤال. فأنا أكره ملء القسائم، مثلي مثل كل البشر العاديين لا سيما اولئك الذين ترجع اصولهم الى بلدان تحكمها الفوضى، لا التقاليد البيروقراطية. وليزا لا مشكلة لديها في ملئها: قسائم حول ازالة القمامة، وقسائم حول تقليم الأشجار في الشارع، وقسائم حول تنظيم صفّ السيارات، وقسائم تتعلق بالتلفزيون والفضائيات ومدى تداخلها مع جماليات الحي، وقسائم جديدة تتلاءم مع حاجاتنا الايكولوجية. بكلمة، القسائم هي الحال الطبيعية للأشياء في الأزمنة العادية لبريطانيا. وأنا، هنا، لا اتحدث عن مئات القسائم الاخرى التي تجد طريقها الى علبة بريدنا كلما فكرنا في اعادة تزيين واجهة البيت، او عند معالجة أيٍ من تسرّبات الماء الشهيرة في الجدران البريطانية. فعن هذه لن أعفيكم من التفاصيل فقط، بل أيضاً من مضمون اللوائح التنظيمية. وليزا الرائعة، الديناميكية، حاضرة دائماً وفورياً. تقوم بذلك خدمةً للجميع، وبالنيابة عنهم كلهم، اي كل ساكني منازل هذا البيت الذي يبدو للخارج حميمياً وسهل التدبير. وهي تفعله بشكل ممتاز. تعرف القاموس والتعابير الملائمة، كما تفهم على عقلية ورغبات البيروقراطي الذي سينظر في القسيمة وفي طريقة ملئها. اكثر من هذا، فما يبدو لنا مهمة كابوسية، يبدو لليزا تمضية وقت عابر. فقد لاحظتُ انها تملأ تلك القسائم بابتسامة لا تفارقها، لا بل ابتسامة مصحوبة بشيء من السعادة. فحين يظهر اي إشكال طفيف يتعلق بالمبنى واشتغاله، تظهر علينا ليزا ظهوراً عجائبياً يشتعل بالحماسة. بل هناك ما يغري بالقول ان تلك المشكلات تثير فيها الحيوية والبهجة. لكنْ حتى الملائكة لا تعطي شيئاً مقابل لا شيء. وتفاؤلي بالحياة كان عمره قصيرا. كان ينبغي ان اعرف ان سعادتي لن تكون مجانية ومطلقة. ها! فالابتسامة الجميلة والحيوية لليزا، المتطوّعة دائماً، بدأت تفقد سحرها بالتدريج. فهي لم تعد تكتفي بالظهور كلما ظهرت القسائم، بل غدت تطلب قسائم أخرى: "هل استلمتِ الأوراق الجديدة لضرائب المجلس البلدي"؟، تسألني وهي في طريقها الى العمل. فإذا كان جوابي لا، التفتت بعدم ارتياح مشوب بحزن في عينيها الزرقاوين من جراء انعدام الفرص. وليزا لديها عمل ثابت، وهو ما استصعبت تصديقه في البداية لأنني أجدها دائماً أمامي، كما لو كانت تتربّص بي وأنا أغادر البيت، أو تقف على عتبة الباب لدى عودتي. دائماً تحمل لي أخباراً مهمة عن المبنى وحاجاته، وهي حاجات كثيرة جداً لا تنتهي. وليزا ليست ممن يكتفون بملء القسائم وطلب المزيد منها. فهي تحتاج أيضاً الى الحديث عنها كمراهقة استمتعت بحفلة راقصة وطاب لها ان تخبر صديقاتها عنها للتوّ ومن دون توقف عن السرد. لا بل انني بدأت أظن انها اخترعت بعض القسائم بنفسها. فهي كلما تحدثت عنها وعن شؤون المبنى راح الأزرق الذي في عينيها ينقلب رمادياً، وازداد جسمها ثباتاً وتصلباً. نعم! هي ليزا اللطيفة. ليزا التي لا تبخل بمساعدة. لكن... لكن دخولي الى البيت وخروجي منه ما عادا امراً عاديا بسيطا. هناك على الخط عقدة ليزا: ليزا سندروم. لا أستطيع تذكّر يوم يمر وأعبر بوابة البيت من دون ليزا وهي تطاردني بمسائل تخص "ملكيتنا" المشتركة. وأجندتها تخلو من كل ما يمكن حله، او حتى مناقشته، بالقليل من الدقائق. وكيف تُنفَق دقائق قليلة على قضايا في اهمية لون الاضاءة الخارجية، او ما ينبغي دفعه لعمال التنظيفات أو...؟ فهذه فائقة الاهمية لليزا تجرّها الى مناقشات تدوم ساعات. بدأت أستعمل تكتيكات كأنْ لا اغادر البيت الا هرولةً، كي تنتبه ليزا الى تأخري عن موعد ما. كذلك صرت اعود حاملةً أكياساً ثقيلة، وبطريقة مسرحية أميل بجسمي الى اليمين والى اليسار تحت وطأة وزنها، كي أُفهمها انني ينبغي ان اوصلها سريعاً والا واجهت مشكلة في ظهري. لكن أياً من هذه التكتيكات لم يردع ليزا. استخدمتُ كل ما يمكن استخدامه، ومع هذا ظلت تكسب المعارك. واستمر الأمر على هذا المنوال الى ان جاء يوم قلت لليزا، وقد استبدّ بي يأس شامل: "ليزا. أرجوكِ قرري بنفسك ما ترينه صالحاً. انني اوافق على اي قرار تتخذينه في ما يتعلق بالبناية. أرجوك، لا تستشيريني، فأنت الحَكَم الأفضل". تصرفتُ كجنرال مهزوم في معركة. استسلمتُ بالكامل من اجل ان أعبر بحرية طريق البيت. وقد تظنون ان ليزا سُرّت بانتصارها واكتفت. لكنْ لا. لقد انقلبت بسمتها الى شيء متكلّف وشرير، وسلّمتني كدسة كثيفة من القسائم واحدتها تضم، على الاقل، مئة سطر، ثم قالت: اذا كنت لا تهتمين بمصالحك فلماذا أهتم أنا؟ كانت ليزا تقف في تلك اللحظة امام المبنى كمنتصر حُرم الاحتفال بنصره. نظرتُ الى تلك الكومة من الأوراق وأدركت أي مأزق أوقعت نفسي فيه: إما هذه وإما ليزا! تراجعتُ للتوّ، ومنذ ذاك الحين بتّ أتقبل انفاق أي وقت على المدخل للدردشة مع ليزا حيث أبدي كبير اهتمام ب"ملكيتنا" وحاجاتها الكثيرة. حاولت ان اغيّر برنامجي، فرحت آتي في أوقات مختلفة عن السابق. لكن ليزا ظلت هناك في انتظاري. انها سيدة هذه الموقعة. اناقش معها وأنا أحلم بالسفر الى جزيرة ما في الصحراء حيث ينام الناس تحت لا سماء ولا سقوف بحاجة الى دهن أو اصلاح، وحيث الأوراق لم تُكتشف بعد.