هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    خطيب المسجد الحرام: ما نجده في وسائل التواصل الاجتماعي مِمَّا يُفسد العلاقات ويقطع حِبَال الوُدِّ    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    إطلالة على الزمن القديم    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    ندوة "حماية حقوق الطفل" تحت رعاية أمير الجوف    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة فلسطينية تحت ظلال البنادق
نشر في الحياة يوم 20 - 12 - 2000

} دعتني صحيفة الغارديان أن أذهب إلى فلسطين وأكتب ما أراه عن الأوضاع هناك.
وقد أخذت القرار أن أذهب إلى الضفة، وإلى القدس، وأرغمت نفسي على التغلب على ال "تابو" الكبير في قلبي ووجداني، وهذا لسبب واحد: أننا وباعتراف الجميع في أمس الحاجة إلى مساندة الرأي العام في الغرب، وقد كتب الزميل والكاتب الكبير الأستاذ جمال الغيطاني في "أخبار الأدب" في 29 أكتوبر يقول: "أتمنى أن يتم البحث عن وسائل لمخاطبة أصحاب الضمائر الحية في الغرب حتى لو بدوا الآن قلة...".
كم من مرة بكيت وأنا أتفرج على التلفزيون البريطاني ينقل أحداث فلسطين، كم بكيت أمام شريط "الحلم العربي" وكم مددت يدي لأغلق الكاسيت وسط "زهرة المدائن" لأني لم أحتمل الحزن، فكيف تأتيني فرصة أن أقوم بما أستطيع عمله الكتابة وبالتحديد الكتابة للقارئ الغربي كيف يتاح لي هذا المنبر وأرفض؟
نظمت الرحلة كلها لتطابق حركة أهل فلسطين أنفسهم فسافرت إلى عمان ومن هناك إلى جسر أللنبي الخ كما هو مبين في المقال: أزور القدس الشرقية والضفة إن أمكن وأدخل وأخرج عن طريق الأردن.
قالوا لي لا تستطيعين كتابة هذا الموضوع من جانب واحد. قالوا لي بالطبع نحن نعلم أننا لا يمكن أن نطلب منك الحياد ولا نتوقعه منك، لكن لن يكون موضوعاً جيداً اذا تحدثت فقط مع فلسطينيين. قلت أفهم هذا، وأرى أنني يجب أن أذهب وأقابل بعض المستوطنين. هناك أسئلة تمرق في بالي، أريد أن أسألهم... ومنذ سلمت المقال استشعرت توجساً ضخماً من جانب هيئة التحرير، يقولون أن هذه أصوات لم نسمعها في الإعلام الغربي من قبل، ويتحسبون العواقب.
أرجو من قارئي العربي الكريم أن يضع في اعتباره، وهو يقرأ هذا المقال، أنه يخاطب في الأساس القارئ الغربي، فمعذرة إن شرحت ما لا لزوم لشرحه!
لم أر في حياتي إسرائيلياً في حدود علمي سوى على شاشة التلفزيون. ولم أكلم إسرائيلياً يوماً، ولا أستطيع أن أقول أني رغبت في ذلك. فقد خيم على حياتي كما خيم على حياة كل المصريين من جيلي ظل إسرائيل الثقيل. تمنيت الذهاب إلى فلسطين، وامتنعت عن الذهاب إلى إسرائيل. والآن أنا ذاهبة الى هناك.
لم أشعر بترقب أو بخوف مثل هذا منذ طفولتي. تابعت في الشهرين الأخيرين أخبار الانتفاضة، قارنت الصور على الBBC والCNN مع الصور على الجزيرة والقنوات العربية الأخرى، شكوت من الصحافة الأميركية، وشعرت بالعرفان لبعض ما كتب في الجرائد البريطانية. بدأْتُ أيامي وختمتها بقراءة الاستغاثات على الإنترنت، وسألت نفسي مرات ومرات ما الذي أستطيع عمله؟ والآن، هناك شئ أستطيع عمله: أستطيع أن أذهب، وأرى، وأكتب. لكن الذهاب يعني الذهاب إلى هناك.
الاثنين
اليوم أول أيام رمضان. نحن في الطريق من عمان إلى الجسر وأنا أنظر إلى الصحراء وأفكر كما أفكر دائماً كم أحن لها حين أكون في انكلترا: عشر دقائق من كثبان الرمال الناعمة، ثم تكوينات صخرية أشبه بتورتة الشوكولاته، ثم كثبان تتماوج هذه المرة كأنها في مداعبة، ثم منحنى يكشف عن واد أخضر وبدويات يمشين رشيقات على حافة قناة، ثم الرمال مرة أخرى ونصل إلى مبنى المغادرة الأردني الذي يبدو شبه مهجور. ننزل من التاكسي ويذهب السائق للسؤال. الضفة مغلقة. يشير إلى قاعة كبيرة ومن خلال النوافذ نرى أنها تكتظ بالمسافرين. "والقدس؟" تسأل السيدة التي شاركتها التاكسي. يبدو أن القدس مفتوحة. لا أعلم شيئاً عن هذه السيدة سوى اسم الطفلة الصغيرة الجالسة إلى جوارها: ملاك.
يخرج قس أرثوذكسي في أرواب سوداء من القاعة ويأخذ تاكسياً عائداً إلى عمان. يوجهوننا نحو جزء آخر من المبنى. الباصات تقف منتظرة، محملة بالناس. تقرر أم ملاك أن تذهب VIP من أجل خاطر الطفلة. أمشي وراءها. نسلم جوازاتنا وندخل الى قاعة واسعة بها كنب صالون وجرائد عربية. يقول الموظف أن جوازي بريطاني ويجب أن أذهب مع "الأجانب" في الباص. تقول أم ملاك: "حتنتظر ساعات".
يهز الرجل كتفيه.
"دي مصرية يا أخي، وأول مرة لها هنا، بالله تتركها تأتي معنا."
يسألني بالعربية إن كنت مصرية؟ نعم. هل عندي استعداد أن أدفع 18 ديناراً رسم VIP ؟ نعم. يختفي. تظهر سيدة بادية الإرهاق. تقول أنها انتظرت في هذه الغرفة بالأمس من الثانية إلى الثامنة مساءً ثم اعلنوا أن القدس مغلقة فاضطرت للعودة إلى عمان. يعود الموظف ويشير لنا بالخروج. هذه المرة نركب Van وحين ننزل منها نراه: "الجسر" تقولها أم ملاك.
بناء خشبي، كما نراه في الصور، له أسوار خشبية تمنعك أن تقفز إلى نهر الأردن. نسير عبره: امرأتان وطفلة شقراء، وهناك، فوق رؤوسنا، أرى الجنود الإسرائيليين كما رأيتهم في التلفزيون عبر 4 عقود: عيونهم وراء نظارات الشمس، وجوههم وراء المدافع الرشاشة، وفوقهم علمان اسرائيليان يتقاطعان: أحدهما يرفرف في النسيم ، والآخر متدلي حيث اشتبك في قضيب معدني.
نقف عند الكشك. وراء النافذة شابة ترتدي الملابس العسكرية. نناولها جوازاتنا فتشير لنا بالمرور. سيارة أخرى ومبنى جديد. هل كان هناك جنود أردنيون ومدافع على الجانب الآخر؟ ربما كانوا هناك، لكني لم أرهم.
نجلس في غرفة متوسطة الحجم باهرة الإضاءة ذات كراسي شديدة الزرقة. بذل أحدهم محاولات جادة لتجميل المكان: صبار مزروع في قشرة جوز هند يميل على طاولة خشبية من الطراز العربي المصدف، نباتات وزهور من البلاستيك على رفوف زجاجية متربة، ثلاجة خاوية تضفي ضوءاً بارداً على ركن من الأركان. ثلاث صور على الحائط. إثنان منها من الفن الحديث وتشبهان لوحات كاندنسكي، والثالثة تفصيل من مايكلانجلو: يدان ممدودتان لا تلتقيان.
يدخل إسرائيلي شاب ويسألني بأدب بعربية مكسرة أن أملأ بعض الاستمارات. يعود ليصطحبني إلى شباك الجوازات. أقول "لا أريد الختم على جوازي." يقول "أعلم ذلك."
الثانية والنصف بعد الظهر، القدس
أخرج من الفندق وأبدأ في المشي. كل سيارة مركونة أمر بها أتخيلها تنفجر وتندلع منها النيران. ما هي المسافة التي يجب على المرء أن يحافظ عليها بينه وبين سيارة مفخخة؟ ولكن الشمس تسطع وأنا أمشي في شارع صلاح الدين وأشعر بالألفة. على جانبي الطريق أجد المخابز ومحلات الخردوات والأحذية والبقالات الصغيرة والكوافيرات. البنات في ملابس المدرسة والإيشاربات يمشين في مجموعات يتحادثن ويضحكن، والشباب يبطئون الخطى ويرقبونهن. الأسماء على أبواب المحلات ولافتات الأطباء هي ذلك الخليط الحميم من الأسماء العربية المسلمة والمسيحية، والأسماء الفرنسية والأرمنية. المركز الثقافي الفرنسي أبوابه مفتوحة وحديقته مرحبة وأشم رائحة بن يُحَمَّص. مدينة كالقاهرة لكنها أصغر وأنظف وغير مزدحمة. لكن هناك مبنيين مختلفين عن الآخرين: حديثان، زواياهما حادة، نظامهما قاطع، ينتصب فوقهما العلم الإسرائيلي، ولهما أسوار وبوابات من الصلب مغلقة في وجه الشارع.
ثم تظهر أمامي أسوار المدينة القديمة. أقترب فأرى البوابة الشامخة، وإلى جانبها مصفحة إسرائيلية وخمسة جنود مسلحين بالرشاشات. أربط إيشاربي تحت ذقني وأعبرهم. أمر من خلال باب الزهراء فأجدني في مدينة عربية عتيقة: أورشليم القدس، مدينة من الحجر الوردي، شوارعها مرصوفة بالحجر صقله الزمن فيلمع لمعاناً وردياً خافتاً. درج ثم انحناءة فتمتد أمامي حارة وردية جديدة. تبدو البيوت وكأنها تنمو من الشارع، أبوابها الحديدية الخضراء مواربة، وحول الكثير منها نقوش تعلن للمارة أن صاحب الدار أدى فريضة الحج الواجبة. ترى هذه الإشارات في اي قرية مصرية، لكن النقوش هنا لا تمثل الحاج أو الحاجة ووسيلة السفر الخ كما عندنا وإنما هي رسوم دقيقة لزهور وطيور.
لافتة صغيرة على الحائط، مكتوبة بخط اليد، تشير إلى الأقصى. في طريق المجاهدين يمر بي صبي في حوالي الرابعة، يتقافز ويغني: "يا صدام يا صدام/ تعال فَجِّر تل أبيب." أمه تخطو وراءه وتبتسم لي. والآن أجدني أمام بوابة الحرم الشريف، وفي قلب البوابة، أمام طاولة من الخشب، يجلس 3 جنود مسلحين. يقف أحدهم ويسد عليّ الطريق: "الأوراق". لا يروقني منظرهم، وأنا واحدة وهم ثلاثة. جواز سفري بريطاني لكنه يعلن مسقط رأسي القاهرة، ومصر سحبت سفيرها للتو من عندهم. لكني أرى رجلين من أهل المدينة من إدارة الحرم في الغالب يقفان داخل البوابة. أقدم الجواز. يقلب صفحاته. "في انكلترا تعيشين؟" انكليزيته تكسوها لكنه واضحة من أوروبا الشرقية.
"نعم."
قيل لي لا تشرحي، لا تبرري، لا تدافعي. جاوبي بالضبط بقدر السؤال.
"أي مدينة؟"
"لندن."
"لماذا تدخلين؟"
أقرر: "لأصلي."
"أنت مسلمة؟"
"نعم."
أغلق الإسرائيليون الحرم أمام كل مسلمي فلسطين ما عدا أهل القدس، ويمنع مع ذلك الرجال تحت سن 45. يفتش الجندي في حقيبتي التي أخليتها من كل شئ ما عدا المشط والمنديل والقليل من النقود. ينظر زملاؤه أيضاً في الحقيبة. يمررني بإيماءة من رأسه.
خطوات تدخلني إلى رحب الحرم الشاسع. أرض طينية بها عشب، وبعض النجيل، وأشجار. إلى يساري سور المدينة، إلى يميني يشكل سور الحرم ظهور المنازل والكنائس، وأمامي يرتفع الطريق ليلاقي درجاً عريضاً أبيض يؤدي إلى شرفة حجرية واسعة تشرق منها التدويرات الذهبية لقبة الصخرة. أجلس على سور منخفض، تحيط بي مبانٍ صغيرة فاطمية المعمار، واستشعر سلاماً كاملاً.
النساء الخارجات من الصلاة تنظرن إليَّ بفضول:
"سلام عليكم!"
أرد التحية.
"من فين إنت يا اختي؟"
"من مصر."
يردن أن يعلمن إن كان لي مبات؟ فأي واحدة منهن تحب ان تستضيفني. بيوتهن في المدينة القديمة، وقبة الصخرة مسجدهن يصلين فيه كل يوم.
بيت أم ياسر يبعد دقيقتين عن سور الحرم، التقي فيه بشابتين باسمتين: كنتيها. تشير إلى واحدة منهما: "هذه زوجناها من 3 أيام قبل دخول رمضان. على فنجان قهوة والله. مين فيه يعمل فرح والناس كل يوم عم تنطخ؟"
الأوضاع مؤثرة فيكم هنا؟ في القدس القديمة؟
تأخذني أم ياسر إلى الباب، تشير إلى البيت المواجه لبيتها: "أنظري! أخذوه المستوطنون. كل يوم يضعوا الكراسي في الحارة ويتشاكسوا مع الرايح والجاي..."
لكن... كيف أخذوه؟
"من ساعة ما شارون اشترى هنا جنبنا... هو سهل لهم كل شيء!"
شارون؟ ومن يبيع لشارون هنا؟
"عوّاد ابو سنينة. كلنا عارفينه. اختفى من الحتة ووجدنا العلم الإسرائيلي على البيت وعرفنا أن شارون اشتراه. حين مات أبو سنينة لم يقبل الناس أن يدفن هنا. العيال بيلعبوا كورة، الكورة طبت فيهم، في المستوطنين، مسكوا ابني وقالوا حننده البوليس. قلنا ياللا أطلبوا البوليس. طلبوا، بس طلبوا مستوطنين ثانيين. أتوا 200 منهم، من عطاروت كوهونيم، وضربونا بكل شيء حتى اللاسلكي تبعهم. الناس في الجامع جت على عياطنا، ساعدتنا وكانت عاركة. البوليس في النهاية قال احنا المعتدين. في مستشفى الحداسة ما رضيوش يعالجونا في التأمين. دفعونا 450 شيكل. تؤثر فينا؟ بيعملوا فينا مثل ما بدهم..."
تحدثني عن غاز مسيل للدموع يدفع داخل البيوت، عن الذخيرة المطاط، يقشرها الأطفال الفلسطينيون ليستخرجوا البلية الصلب، فيقذفوا بها بالنبل عائدة إلى الجنود. تتحدث عن شعور الجميع بتهديد الأقصى، تتحدث عن سيارة إسعاف تأتي بجار في الثامنة والسبعين عائد من المستشفى وكيف فتشها الجنود حتى أنهم فتحوا جهاز التكييف: "صاروا بيخافوا حتى من الهوا." أشعر بالدوار من التفاصيل تتراكم في رأسي، وأستودعهم قبل أن يستطيعوا التمسك بي للإفطار.
خلال باب السلسلة أرى بعض الشباب من اليهود، يرتدون الحلل السوداء، ويمشون مسرعين إلى النفق الذي أتصور أنه يؤدي إلى حائط المبكى. بعد بضع خطوات أرى رجلاً هادئ المظهر، يرتدي الطاقية اليهودية، ويمسك بيدي طفلين صغيرين. الجميع خارج من بناية أسمع من داخلها أصوات أطفال تغني بالعبرية. غربت الشمس وحان وقت الإفطار.
داخل باب العمود أقف على عربة مأكولات ويعد لي البائع سندويتش طعمية مع سلاطة وطحينة. يضع لي كرسياً إلى جانب العربة ويقدم لي كوباً من الماء. أجلس داخل البوابة القديمة وأفطر، أمامي السيارة المصفحة الإسرائيلية، والجنود، وبعدهم مبنى جميل عليه مسحة معمار هندي يقف وحيداً، يستند شابان على الحائط يتناقشان في ما يمكن طلبه من البلاد العربية:
"لو أن مصر والأردن يفتحان الحدود. نحن الآن فئران في مصيدة".
في الفندق أتصل بصحافية أعطوني رقمها، أميركية على ما أعتقد. أسأل بعض الأسئلة ثم يتفجر مني حماسي للمدينة... ويقابل بالصمت.
"ألا توافقيني؟".
تتردد، "نعم. أعتقد فقط بأن الأمور تكون أسهل لو كانت المدينة غير موجودة على الإطلاق".
أذهب إلى محل البقالة المجاور لأشتري لبن زبادي وتمراً للسحور. جهاز التلفزيون المعلق على الحائط يذيع محطة فلسطينية عليها الأخبار. الكتابة على كل علبة زبادي أمسك بها بالعبرية. "أليس هناك زبادي فلسطيني؟" يشير البائع إلى ثلاجة أخرى. يذيع التلفزيون خبر خمسة من العمال قتلهم المستوطنون. هرب السادس وطلب النجدة وأسرعت سيارات الإسعاف إلى الموقع إلا أن الجيش استوقفها. توقف كل من في المحل عن الكلام وعن الحركة وعيونهم معلقة بالجهاز. تنحدر الدموع على وجهي وزوجة أحد الرجال تولول على الشاشة، أما بقية من في المحل فلا يبدو عليهم التأثر، وحين ينتهي الخبر يعود الكل إلى ما كان عليه.
باب غرفتي لا يمكن تسكيره من الداخل. أسكره من الخارج أما من الداخل فلا. أحاول وأحاول. أقرر عدم الإعلان عن هذا الموضوع. أقول لنفسي أني آمنة هنا وأجلس لأسجل ما رأيت اليوم.
قريباً سوف أضطر للبدء في محاولة لقاء الإسرائيليين.
الثلثاء
إبراهيم الخليل، أبو العرب من اسماعيل إبن هاجر، وأبو اليهود من إسحق إبن سارة. الوقت ظهيرة وأنا في المدينة التي تحمل اسمه ويسكنها حرمه الشريف. تفادينا الحواجز مرتين لنأتي الى هنا فتحولت رحلة نصف ساعة إلى رحلة ساعة ونصف الساعة. سيارتنا تحمل رخصاً إسرائيلية، حين نمر بمخيم العروبة يضع السائق لافتة تقول "صحافة" بالعربية على الشباك الأمامي حتى لا نضرب بالطوب. وحين نمر بمستوطنة كيريات عربة الضخمة يقلب السائق اللافتة ليظهر الكلمة نفسها بالانكليزية. "جاءوا عام 69، وقالوا أنهم سواح من السويد. نزلوا في فندق وكان زعيمهم موشي ليفنجر. ثم بدأوا في الاشتباك مع الأهالي وساندهم الحاكم العسكري. أخذوا الأرض وبنوا المستوطنة."
لنتصور مدينة الخليل في جزئين: المدينة القديمة المحيطة بالحرم، والضواحي الجديدة التي نمت عنها. الميدان الرئيسي للجزء الجديد مزدحم بالناس، تقف عربات الخضار والفاكهة على الأرصفة كيفما اتفق. صادر الإسرائيليون السوق القديمة وسووها بالأرض. ارفع عينيك عن الزحام ترَ آثار القنابل والنيران على المباني المحيطة بالميدان. ثقب واسع حيث كان مكتب جريدة "الأيام". عيادات الأطباء، محلات اللعب، الكوافيرات: تلال من الطوب، علامات الحريق، الزجاج المهشم. إرفع عينيك أكثر ترَ الجيش الإسرائيلي متمترساً وراء أكياس الرمل على أسقف البيوت، مدافعهم مصوبة نحو المارة في الميدان. "12 طناً من الأجهزة على سقف بيتي" يقول رجل "وهم يقضون حاجتهم في خزانات المياه".
يؤدي شارع الشهداء إلى المدينة القديمة. الشارع خالي والمحلات مغلقة. في نهايته أرى حواجز الاسمنت ثم أرى جندياً إسرئيلياً يظهر من وراء المباني في آخر الشارع، ينظر إلينا ورشاشه مصوب. حين يختفي أستمر في طريقي لكن مرشدي يمسك بذراعي طالباً مني العودة "صار فيه طخ اليوم". يظهر الجندي مرة أخرى ومعه زميل، هناك حوالي 20 متراً بيننا. يظهر شاب في حوالي الثامنة عشرة من زقاق ضيق: "لا تخافوا منهم. شوفي!"
يجري بعض الخطوات في اتجاه الجنود، يقفز ويدبدب بقدميه ويلوح بذراعيه ويصيح "عااا"... يختفي الجنديان وراء الحائط. "شفتي. قلنا لكم أنهم جبناء،" يمشي مزهواً ومبتعداً.
يظهر رجل طويل يرتدي خوذة بيضاء وسترة واقية ويحمل كاميرات. عوض عوض يعمل لوكالة الأنباء الفرنسية. يقف ليحادثنا ويخبره مرشدي أنني أعد مقالاً لصحفية الغارديان.
"تريدين الدخول؟"
"نعم".
أتبعه خلف الحواجز وحول المبنى. والآن أرى الجنود يقفون معاً خلف الجدار في نهاية شارع الشهداء القديم. ووراء مبنى عبر الطريق يقف صحفي وثلاثة من المصورين الفلسطينيين. نمر بالجنود ثم يقول عوض "إجر"... نجري عبر الطريق وننضم لمجموعة المصورين. نعرف أنفسنا ونتصافح. "ماذا يفعلون؟" يسأل أحد المصورين مومئاً إلى الجنود. "يعدون خطة" يضحك آخر.
ينفض جمع الجنود فجأة ويجري ثلاثة منهم نحونا ويتمترسون خلف حواجز الأسمنت بمدافعهم المصوبة نحو الشارع الخالي. لو أمد يدي للمست ظهورهم.
بعد لحظة يصطدم حجر بأحد الحواجز ويتكسر. يرقص فتى عبر الشارع. تنطلق رصاصة من رشاش. دويها هائل. تقع سلسلة الأفعال نفسها ست مرات خلال ساعة، ومرتين، في الصمت الذي يعقب إطلاق الرصاص تعبر امرأة الطريق مسرعة. ثلاثة أشخاص من قوة مراقبة دولية يرتدون العفاريت الزرقاء والخوذات والسترات الواقية مكتوب عليها IPIF يقفون عبر الطريق. لا أستطيع تمييز إن كانوا رجالاً أو نساء. يحملون الأوراق والساعات ويبدو أنهم يسجلون موعد الطلقات. يقول المصورون أن الجنود يطردون الIPIF من الموقع قبل حدوث الاشتباكات الجادة. يرن المحمول وأسمع مرشدي يرجو مني العودة.
أريد أن أدخل المدينة القديمة، لكن السائق والمرشد لا يرغبان. يظهر رجل مهيب في بالطو من الكاشمير الرمادي. يظهران له الاحترام وأعلم في ما بعد أنه صحافي فلسطيني جرح في 5 حوادث مختلفة. يحثهم "خذوها يا شباب. هذا واجبكم. عندكم سيارة برخص اسرائيلي. وهي جوازها بريطاني. دخلوها المدينة"
ندخل المدينة عن طريق خلفي. يعيش هنا 40 ألف إنسان تحت حظر التجول. 12 ألف طفل لا يستطيعون الذهاب إلى المدرسة. 15 مسجداً مغلقاً. في وسط المدينة يعيش، حسب إسرائىل، 400 مستوطن. يقول الفلسطينيون انهم مئة، ومسلحون. كل هذا من أجل خاطرهم.
أسأل مرشدي "لو أن الجيش انسحب، ورغب المستوطنون في الحياة هنا وسطكم. هل تسمحون لهم؟"
"إنهم في هذه الحالة يرحلون."
"لكن إن رغبوا في البقاء."
"لكنهم أخذوا بيوت ناس. لو ذهبت إلى الساحة لرأيت العائلات المطرودة من بيوتها تجلس إلى جانب البيوت. والمستوطنون يضربون الناس ويرمون القاذورات عليهم. وهم ليسوا مستوطنين حقيقيين. معظمهم طلبة من أميركا يأتون للالتحاق بالمعهد الديني هنا وللقيام بواجب ديني بالبقاء هنا سنة أو سنتين."
المدينة رائعة الجمال. كالقدس القديمة هي مصنوعة من الحجر الوردي. الشوارع الضيقة تصعد وتنزل كشوارع مدينة إيطالية قديمة. تستند البيوت على بعضها: سقف بيت هو فناء بيت آخر. الشرفات الحجرية المزخرفة تطل على الشارع الواسع. تسطع الشمس، والهواء نقي طاهر، والضوء من الروعة بحيث يذكرني بإضاءة الأفلام. تمر بنا سيارة جيش ولا تستوقفنا. أسمع مكبر الصوت بعربية ذات لكنة: "يا أهل الخليل، حذارى من خرق منع التجول، يا أهل الخليل.." ثم نرى سيارة أجرة صفراء تقف في منتصف الطريق مائلة قليلاً إلى جانب، تجمع حولها عدد من الأطفال يرقبونها في صمت، وتستند إليها سيدة يبدو عليها الإعياء وتحمل طفلاً. يقول السائق "أعلم أن هناك حظر تجول، لكنها خارجة للتو من المستشفى، ومعها الطفل، فأوصلتها. أنظروا ماذا فعلوا بي!" يقول أن الجندي أخرج سكيناً وضرب إطاري عجلتين. السائق عنده استبن واحدة. مع حظر التجول كيف سيحصل على إطار آخر؟ صبيان يساعدانه في تغيير العجلة الوحيدة. يرقب بقية الأطفال الموقف في صمت. تبدأ السيدة ذات الرضيع في الابتعاد بتثاقل.
نستمر على أقدامنا فنلتقي شيخاً يصعد الدرج من اتجاه الحرم الابراهيمي.
"السلام عليكم. هل نستطيع الوصول إلى وسط المدينة؟"
"لا. سكروها."
"أليس هناك أي مكان أستطيع منه على الأقل أن أرى الحرم؟"
"نعم، من بيتي،" واستدار عائداً.
أخطو خلال باب من الحديد الأخضر فأجدني في الجنة. شرفة تلو شرفة من الحجر الوردي، نباتات خضراء وأزهار تينع في صفائح من شتى الأشكال والأحجام، تكعيبات للعنب وأبواب يفتحها الشيخ بمفاتيح ثقيلة تفتح على قبو وراء قبو، خلوات اعتكف فيها صوفيون عبر العصور يتعبدون ويرجون الرؤيا. بعض الخلوات بها مشربيات مملوكية صغيرة أتصور أن أولئك المتعبدين احتفظوا فيها بالتمر وماء الشرب. أطلع من إحدى هذه الحجرات لأجدني في مواجهة حائط به نوافذ مغطاة بالسلك وفوقها العلم الإسرائيلي. "نعم. إنهم هنا،" يقولها الشيخ. هم ينظرون إلينا ونحن ننظر بعيداً. "أخذوا البيت المجاور وحاولوا إخراجي من بيتي. قلت سآتي بسيفي القديم وأقتل أول رجل يضع قدمه على عتبتي."
"وماذا جرى؟"
"سدوا مداخل الطرق بين بيتي والجامع بأبواب من الحديد. ووضعوا أمامي كاميرا مراقبة."
أسأله وأنا التقط صورة للكاميرا: "ويتركونك في حالك؟"
"ليس عندي أطفال أو شباب ليحتكوا بهم. أعيش مع الحاجّة فقط. السلطة جاءت وقالت اعطنا الخلوة الكبيرة نرممها ونعمل منها متحفاً. هددتهم بسيفي هم الآخرون. كانوا سيسلموها لليهود."
تظهر في شرفة المنزل سيدة عجوز وتنادي عليه أن يأتي بالضيوف إلى البيت. في مدخل البيت تجلس ماكينتا خياطة سنجر قديمتان جداً جنباً الى جنب. يقول "زيتتهما أمس،" ويلف العجلة ليبين لين حركتها.
في صالة البيت ماكينة خياطة أخرى: "أما هذه فتقوم بالتطريز أيضاً،" يقولها وهو يجذب خرقة يتضح أنها مطرزة بمختلف الغرز والتصميمات. تقول زوجته "لا أدري ما الذي يريده بكل هذه الماكينات القديمة." على الحائط صور ثلاثة شبان. على كل صورة إسم، تسبقه كلمة "الشهيد". تقول الحاجّة: "أبناء أختي. تعالي. أريك الجامع من شباك المطبخ."
أرى الأسوار الوردية للحرم الإبراهيمي، وبعدها في ساحة البلد، معسكر الجيش بأكياس الرمل، والمدافع، والجنود والعلم الأبيض ذو النجمة الزرقاء.
يقول لي المرشد أن السبت هو أسوأ يوم في الخليل لأن المستوطنين لديهم الوقت لكي يمشوا في البلد يقلبون عربات الخضار ويركلون الأهالي. فجأة يفقد سائقي، أبو كريم، أعصابه: "مشينا في طريق السلام كما طلب منا. اجتماعات وقمم ومقابلات بدون آخر وشو النتيجة؟ أيصح هذا؟ يعني ناس مظلومة وتتعاقب كمان؟ سنة 94 باروخ غولدشتاين يقتل في الناس وهي بتصلي ودي النتيجة؟ الحرم قسموه والآن حظر التجول وهذا الشيخ الذي صلى في الإبراهيمي كل يوم من أيام حياته لا يستطيع أن يضع قدمه فيه؟"
يقول الشيخ برفق: "لكل ظالم يوم" وأنا أصلي هنا، في أرضي، والحرم أمام عيني..."
وأذكر تلك المعركة الحاسمة. عام 1517، حين انهزم مماليك مصر للأتراك العثمانيين. خرج المماليك للقتال وهم أبرع وأشجع المقاتلين في العالم فوجدوا أمامهم تقنية الأتراك بالمدافع الحديثة، ووراءهم الخيانة.
التاكسي لا زال معطلاً على الطريق. نخرج من الخليل، نمشي في الطرق الجبلية تجنباً للحواجز، نعود للطريق الكبير، أمامنا لوري جيش يمشي مبطئاً ولا نجرؤ على تخطيه. في الخلف يجلس ثلاثة جنود يحملقون فينا. اقتربنا من الغروب ومن الإفطار، وعند حاجز على مدخل بيت لحم يستوقفنا الجنود، يفتح أبو كريم الشباك ويقدم أوراقه، وأنا انظر أمامي لا ألتفت يميناً أو يساراً. فجأة يفتح بابي وينحني إليَّ باسماً جندي شاب سمين إلى حد ما:
"ماذا قالوا اليوم؟ التنظيم؟ أنهم ثيوقفون ضرب النار؟"
يحدثني بالإنكليزية ويثأثئ فينطق السين ثاءً، ولسبب ما تبث فيّ هذه الثأثأة الشجاعة. أسأله:
"من؟"
"التنظيم."
وحين نظرت إليه ببلاهة، قال:
"فتح. ما الذي قالوه اليوم؟"
قلت بالإنكليزية الرصينة جداً: "أنا في غاية الأسف. لا أعلم، فقد كنت في الخارج طول اليوم ولم يتسع وقتي لمشاهدة الأخبار."
"لديك راديو بالسيارة..."
يميل سائقي وقد استرجع أوراقه ويتحدث بالعبرية:
"وكيف تعلم هي؟ ألا ترى أنها أجنبية؟"
يمررونا لكن أبو كريم مقتنع تماماً أن أسئلة الجندي كانت مفخخة: "أولاد الكلب. لا يفوتون فرصة!"
ربما هناك مقاهٍ في القدس العربية أو تل أبيب، يجلس فيها المثقفون والفنانون والناس ويتناقشون حول أحوال البلد و"المشكلة الفلسطينية". ربما يناقشون أخلاقيات أن دولتهم تجعل من المواطنين الفلسطينيين رهائن عند جنود الاحتلال، أو يتباحثون في حقوق المواطن العربي في دولة صهيونية. لكن هذه الأماكن، الأماكن المضيئة ليلاً، كيف أجدها؟ في الجريدة أطالع برامج اليوم في المسارح وقاعات الموسيقى والسينمات. أجرب أن أفكر في أن أنادي التاكسي، أطلب إليه الذهاب، وأشتري تذكرة. والفكرة في حد ذاتها تسبب لي الكدر والإزعاج.
* روائية مصرية مقيمة في لندن.
الأربعاء
ألبرت أجازريان يُدَرِّس التاريخ في جامعة بير زيت. التقي به داخل باب الخليل ونمشي نحو بيته في الدير الأرمني. يشير إلى مبنى أول قنصلية بريطانية في القدس، وأول كنيسة بريطانية، يقول "طبقات من التاريخ. من يحفر هنا يجد على الأقل 17 طبقة من التاريخ... قصص كلها مجدولة معاً. هنا في القدس لدينا ما تصبو إليه الدنيا كلها الآن: التعددية. أما الإسرائيليون فيريدون إلغاء، طمس كل القصص ما عدا قصة واحدة: قصتهم هم."
تصر مادلين، زوجته، على مهاداتي ببرطمان من الزيتون. منذ الأزل وأسرتها تحصل على الزيتون من مزرعة معينة بالقرب من نابلس. الآن ويل للمزارعين ليس فقط من إغلاق الضفة بل من المستوطنين الذين يحرقون المزارع ويقتلعون الأشجار. تقول لي "يتسلل المزارعون مساء الجمعة ويلتقطون المحصول والمستوطنون الجمعة مساءً والسبت يحتفلون بيومهم المقدس." إنهم يضطرون لسرقة محصولهم... ملكهم.
محاولاتي للوصول إلى الجانب الآخر من كل هذا باءت حتى الآن بالفشل. شلومو شامير، سفير اسرائيل السابق في مصر يعتذر عن لقائي لأنه عين في اللجنة التي تحقق في مقتل 13 من عرب إسرائيل أثناء الانتفاضة.
"ألا نستطيع أن نتحدث في مسائل أعم؟"
"لا. لأنها كلها مسائل مترابطة."
جرشون باسكين، وهو متخصص في عقد اللقاءات بين العرب والإسرائيليين، لم يرد على مكالماتي.
لا زلت أحاول الاتصال بمسؤول من لجنة الييشا ليرتب لي لقاءً مع أحد المستوطنين. المسألة ليست بسيطة، بل هي معقدة من الكلمة الأولى: سئلت مراراً إن كان عندي مشكلة مع اللغة الانكليزية ك"لغة المستعمر". أفهم السؤال لكن ليس له عندي بعد عاطفي. خرج الانكليز من بلادي قبل مولدي، وكانت الإنكليزية أول لغة قرأت بها، وأحببتها.
حين جاءني الصوت عبر الهاتف يقول: "شالوم" رددت "شالوم" من باب الأدب، أدب ترك طعماً سخيفاً مراً في فمي. وللمكالمات السبع التالية كنت أجيب على التحية بالانكليزية: صباح / مساء الخير. حين تخرج جيوش الاحتلال الاسرائيلية من شوارع فلسطين، حينئذ يمكن أن نقول "شالوم" لزائر يهودي إلى الأراضي المقدسة كما يمكن أن نرد على تحية الزائر الهندي، مثلاً، بمثلها.
وحتى إن نظمت مقابلة، كيف أذهب إليها؟ أبو كريم لن يذهب قرب أي مستوطنة، ومن أجد ليأتي معي؟ وبالقطع لن أذهب وحدي.
في الليلة الماضية مشيت في شارع صلاح الدين عائدة إلى الفندق. كنت أرتدي الإيشارب الكبير الذي ارتديته لأصلي في الأقصى، وكان فستاني، وعليه البالطو، يصل تقريباً إلى قدمي. مررت بالمبنى ذي البوابة الصلب الذي أعرف الآن أنه المحكمة الإسرائيلية، وأمامه المصفحة الإسرائيلية والجنود برشاشاتهم المعتادة. كانوا يتضاحكون ومر على خاطري أنه خلال يومين فقط... اختفى خوفي، فلم يطب قلبي وأنا أمر. أخذت نحو 30 خطوة وكنت على وشك أن أحود يميناً حين شعرت بشئ يصطدم بكتفي اليسرى بعنف ثم سمعت الصوت وهذا الشئ يرتطم بالجدار أو بالأرض. كيف شعرت: شعرت بالصدمة وببرودة قاسية ثم سخونة مولعة. شعرت بالدموع تصعد فجأة إلى عيني ثم شعرت بغضب جامح واستدرت، نظرت في الأرض أحاول التعرف على ما ضربني وسمعت صوت فرامل عالية وتوقفت بجانبي إحدى سيارات الترانزيت التي تقل الناس بين القرى. فتح الباب ورأيت بالداخل سيدات يشبهنني، وأطفالاً. سأل السائق: "أنت بخير؟"
قلت: "نعم" ووجدتني أشعر بالخجل. الخجل من أن أحدهم ضربني.
"هل رأيت من ضربني؟"
نظرت بطول الشارع. لم أر أي شخص ما عدا الجنود.
"لا. فقط سمعنا الصوت. تحتاجين مساعدة. نحن ذاهبون إلى رام الله."
"شكراً. الفندق هنا."
"اصعدي. نوصلك إلى الفندق."
قلت: "أنا بخير".
قالت سيدة "الله يجازيهم"، ولم يمضوا في طريقهم إلا بعد أن مشيت من الطريق وإلى الفندق.
حين دخلت غرفتي دفعت بطاولة ثقيلة وفوقها حقيبتي فوضعتها خلف الباب. خلعت المعطف والفستان وفي المرآة رأيت الكدمة الزرقاء على كتفي اليسرى. لم تؤلمني، لكن في مخيلتي، ظللت أعود إلى الجنود، متحدية: "هل رأيتم من ضربني؟"
الخميس
الرابعة والنصف بعد الظهر
أجلس في مدخل الفندق حين تأتي جودي بلانك لزيارتي. قليلة الحجم، أنيقة الملابس، قصيرة الشعر، أميركية من نيويورك. جاء زوجها إلى الجامعة العبرية أستاذاً للغة العربية عام 1954 فجاءت معه. قالت صديقتي الفلسطينية عنها أنها "واحدة في المليون". أسألها إن كان هذا صحيحاً فتضحك "ليس بالضبط".
تقول أن الأحداث الأخيرة، مع فظاعتها، لها فائدة في توضيح أولويات الفلسطينيين، وأن الحكومة الإسرائيلية لا تستطيع الاستمرار في التلاعب واستخدام الخلط بين المبادئ وتكتيكات المفاوضات.
أسألها، ويبدو من الضروري أن أسأل أسئلة مبدئية، أين الإسرائيليون الخيرون؟ كيف يستطيع أناس يعلمون أن حكومتهم تضطهد شعباً بأكمله، تقطع عنه الكهرباء والماء، تضربه أشعر بنوع من الحرج وأنا أعدد جرائم الحكومة الإسرائيلية كيف يستطيع ناس ناس لهم قلوب وأرواح أن يتعايشوا مع هذا؟
تقول: "لكنهم لا يعلمون. من السهل جداً ألا يرى المرء. يعيش في القدس الغربية أو تل أبيب ولا يحتاج أن يرى الفلسطينيين. إذا كانوا موجودين فهم في الخلفية. وهناك عنصرية عميقة في هذا المجتمع تجعل من الممكن أن يضحك المرء على نفسه، فلا يرى ما يحدث. إذا كنت تريد معرفة الحقيقة عليك أن تذهب للبحث عنها، في القدس أو في الضفة. وليس هناك بين الإسرائيليين كثيرين يقومون بهذا."
هل هناك إسرائيليون يعملون مع الفلسطينيين الآن؟
"لا. رأى الفلسطينيون أن الموقف الليبرالي، اللقاءات الفردية في النهاية، تفسد العملية السياسية. والآن هم يعملون ما عملته جامعة بيرزيت منذ البداية: أي عمل مشترك بين الفلسطينيين والإسرائيليين يجب أن يقوم على أساس إعلان الإسرائيليين تضامنهم على الأقل مع المطالب الأساسية للفلسطينيين: القرار 242 وحق العودة للاجئين".
وماذا عن "السلام الآن" وغيرهم؟
"لديهم مشكلة فقد ساندوا باراك، وهم الآن يقولون أنه ذهب إلى أبعد مدى وعلى الفلسطينيين أن يوقفوا العنف. ليبراليو التلفزيون يعرقلهم أنهم ساندوه. هل تعلمين أن واحدة من صديقاتي، وهي ليبرالية خيرة، قالت لي في الأسبوع الماضي "لقد فهمت أخيراً أن أوسلو لم تكن للفلسطينيين ما كانته لنا." لقد أخذ منها هذا 7 سنوات!".
الساعة الثانية صباحاً
أنا في غرفتي منذ 4 ساعات، أكتب ملاحظاتي. هناك الكثير الكثير يحتاج إلى الكتابة. فتحت الستائر على نافذتي الكبيرة، فأرى البيوت المتساندة وفوقها هلال اليوم الرابع من رمضان. لم يكن الصوم يوماً أسهل مما هو هنا. من وقت لآخر أسمع مجموعات من الانفجارات لكني لست خبيرة. لعلهم أطفال يلعبون.
منذ أتيت هنا، فقدت التوجس في ما عدا الطاولة التي أضعها خلف الباب. الاحتقار الذي ينظر به الشعب الى الجيش احتقار مُعْدي: "إنهم جبناء" يقولها شاب فلسطيني، "فليخرجوا من خلف الحواجز، من خلف الرشاشات والدبابات والتكنولوجيا الأميركية. فليلاقونا رجلاً لرجل، حجارة لحجارة."
تنخلع عني صفات وخصائص زائدة عن حاجة هذا الموقف. لا أتساءل مثلاً إن كان "يصح" أن أسأل سؤالاً معيناً، لا يهمني أن يجدني محدثي "لطيفة". لم أضطر مرة واحدة إلى القبض على أفكاري المعتادة الشرود وإعادتها إلى العمل المطلوب. كلما لمحت ذهني وجدته يعمل، مركزاً، يسجل، يسجل. ربما أني أتخلص من "نفسي" وما بقي منها هو فقط الجزء الذي يبكي وأنا أسجل القصص التي أسمعها والأطفال يعجبون من دموعي وأمهاتهم يشرحن: "هذه أشياء جديدة عليها."
ولولا أولادي في لندن لبقيت. لبقيت في هذه المدينة التي تطلب أنظف وأوضح ما فيّ... وسجلت شهادتي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.