بعد روايات الغرام امس، والشعر الشعبي اللبناني، أكمل اليوم بكتب سياسية تحقيقاً للتوازن الثقافي مع القرّاء وبينهم. لو ترجمت حرفياً عنوان كتاب جديد بالانكليزية للكاتبة والمؤرخة سحر هنيدي عن القضية الفلسطينية لقلت "الثقة المكسورة"، إلا ان المقصود بالعنوان "خيانة الأمانة". فموضوعه هربرت صموئيل، المندوب السامي البريطاني الأول في فلسطين، وهذا زعم دائماً، كما زعم انصاره، انه كان ممثلاً محايداً لبلاده، إلا ان الكتاب الموثّق يظهر بوضوح ان صموئيل كان صهيونياً ملتزماً ارسى قواعد قيام دولة يهودية كبيرة عبر قراراته السياسية والاقتصادية والادارية. سحر هنيدي اعتمدت على مصادر اولية، وتوكأت على وثائق بريطانية وفلسطينية، بعضها ينشر للمرة الأولى، وإن كان من شيء توقفت شخصياً عنده، وأنا اقلب صفحات الكتاب، فهو ان المشروع الصهيوني في فلسطين سبق المحرقة النازية، غير ان فظائع النازيين جعلت التنفيذ ممكناً او عجّلت به. هناك مقدمة للكتاب كتبها البروفسور وليد الخالدي، تلقي ضوءاً طيباً على جهد المؤلفة. وفي حين ان الصهيونية العالمية تزعم اليوم ان الفلسطينيين رفضوا التعايش مع اليهود، ورفضوا الحلول المطروحة، ولجأوا الى الثورة او القتال، فإن المؤرخة تستعمل وثائق الحكومة الوطنية في فلسطين، وتسجل الجهد الديبلوماسي الكبير الذي بذله أركانها. وهم زاروا لندنمرات عدة وطالبوا بالعودة عن وعد بلفور. وفي حزيران يونيو 1922 اصدر مجلس اللوردات قراراً بغالبية 60 صوتاً في مقابل 25 صوتاً يرفض الانتداب البريطاني على فلسطين على اساس انه يظلم الفلسطينيين ويناقض تعهدات السير هنري ماكمان المعروف عربياً باسم ماكماهون الى الشريف حسين سنة 1915. حكومة لويد جورج المؤيدة للصهيونية سقطت سنة 1922 وخلفتها حكومة محافظة اقل التزاماً حيال الصهيونية، غير ان هربرت صموئيل بقي في منصبه في فلسطين من سنة 1920 الى سنة 1925، والضرر وقع، ونحن نقرأ اليوم ذلك التاريخ ثم نناقش أنفسنا في ما كان، وما كان ممكناً ان يكون. قرأت أيضاً كتاباً بعنوان "محاكمة هنري كيسنجر" من تأليف كريستوفر هيتشنز، وكنت تجنّبته في البداية لأن بعض النقّاد هاجمه، ثم غلبني الفضول، ولم أندم على قراءته، فمع اقتناعي بأن وزير الخارجية الاميركي الأسبق لن يحاكم كمجرم حرب كما يريد هيتشنز، فقد سرّتني "بهدلة" رجل اعتبره مسؤولاً عن نصف المصائب الحالية للعرب، خصوصاً الفلسطينيين. ولا بد ان بين القرّاء من سمع الاسبوع الماضي كيف طُلب كيسنجر، وهو في باريس، الى تحقيق قضائي، ورفض الامتثال الى الطلب. باختصار، هيتشنز يقول ان كيسنجر ارتكب الجرائم التالية: - تعمّد القتل الجماعي للسكان المدنيين في الهند الصينية. - دوره المتعمّد في القتل الجماعي، وأيضاً الاغتيال، في بنغلادش. - تخطيطه الشخصي لقتل سالفادور اليندي، الرئىس المنتخب شرعياً في تشيلي. - التدخل شخصياً في التخطيط لقتل المطران مكاريوس، الرئىس القبرصي، وقلب النظام في بلد ديموقراطي. - التحريض على إبادة الجنس في تيمور الشرقية وتسهيل التنفيذ. - علاقته الشخصية بمؤامرة لخطف الصحافي اليوناني الياس ديمتراكوبولس وقتله في واشنطن، لأنه كاد يفضح مخططات كيسنجر ضد قبرص. بعض التهم السابقة يمكن ان تقبل به محكمة. فهناك وثائق اميركية تظهر ان الطيران الاميركي كان يعرف ان المناطق التي قصفها في كمبوديا آهلة بألوف المدنيين. وفي حين يعترف هيتشنز في بدء كتابه بأنه "خصم سياسي" لكيسنجر، فإن صحافيين آخرين وإذاعيين رددوا التهم ذاتها من دون ان يكونوا على خصومة مع وزير الخارجية الأميركي الأسبق. وكنت مرة شاهدت مقابلة اجراها الصحافي التلفزيوني البريطاني النافذ جيريمي باكمسان لكيسنجر، واتهمه بتأييد نظام الديكتاتور اوغستو بينوشييه وهو يقتل الألوف من معارضيه في تشيلي، وبإطالة أمد حرب فيتنام عمداً. وأنكر كيسنجر التهم هذه وغيرها وانسحب غاضباً. طبعاً قبل كل هؤلاء كان للملك فيصل، رحمه الله، رأي معروف في هنري كيسنجر، وهناك قصة مشهورة عندما ترك الملك اجتماعاً ووزير خارجية اميركا في حينه لا يزال يتكلم. كنت ارجو لو ان المؤلف زاد بعضاً من جرائم كيسنجر ضد العرب، ولكن يبدو ان ما يرتكب في حقنا لا يُعتبر جريمة، مهما كان فظيعاً. وأختتم بكتاب أخف وطأة عنوانه "جنوباً من صحراء البربر" كتَبَه جستن ماروتزي الذي اثار حماسته للموضوع قراءة تاريخ الحملة الاستطلاعية البريطانية في صحراء ليبيا بين 1818 و1820، فقرر عبور الصحراء الليبية على ظهور الجمال، والسير على طريق العبيد القديمة، جنوباً من صحراء البربر، وهو الاسم الذي اطلقه الرحالة الأوروبيون على شمال افريقيا كله في القرن التاسع عشر. ماروتزي قام برحلة شاقة طولها 2200 كيلومتر، يرافقه صديق له هو نيد سيسيل، فانطلقا من طرابلس الغرب الى واحة غدامس، حيث بدأت الرحلة فعلاً، وحيث كانت سوق للعبيد، وهي قريبة من نقطة التقاء الحدود الجزائرية والتونسية والليبية الآن. والكتاب يضم تفاصيل جميلة نادرة، ويستحق القراءة، ولو تقديراً لجهد المؤلف وصديقه. وإذا كان القارئ لا يريد قراءة كتب الغرام التي عرضتها امس، او الشعر، او كتب السياسة، فعندي له اقتراح أعرضه غداً.