أحتفظ بعدد من مجلة «نيويوركر» يعود الى سنة 2006 موضوعه الصحافة لأن غلافه الجميل ضم اسم «الحياة» وشعارها بين «يوتيوب» فوقها و «نيويورك تايمز» تحتها، ولأن العدد ضم في داخله تحقيقاً عن الصحافي البريطاني والمؤلف المشهور كريستوفر هيتشنز الذي بدأ ليبرالياً يسارياً، وانتهى يمينياً حتى ان زميله الكسندر كوكبرن في «ذي نيشن» الليبرالية كتب عنه بعد أن أصبح من أركان «ويكلي ستاندارد» الليكودية انه «كاذب يخدم نفسه، كبير المؤخرة، مدمن سجاير، سكير انتهازي متقلب». هيتشنز ملحد صدر له سنة 2007 كتاب هاجم فيه الأديان التوحيدية الثلاثة وركز على اليهودية التي اعتبرها أصل كل شر ديني، كما صدر له السنة الماضية كتاب يروي سيرته الذاتية عنوانه «هيتش 22»، وقد اعتدت أن أجمع مقالاته، خصوصاً بعد إرهاب 11/9/2001، وأجد أنني أتفق معه مرة وأختلف عشر مرات. مع ذلك هو ناجح ونافذ، وله مواقف حادة من الإسلام الراديكالي وآراء في عملية السلام بين اسرائيل والفلسطينيين، ويستحق عمله أن يتابع. هيتشنز درس في أكسفورد وكان طالباً يسارياً في الستينات، وعارض حرب فيتنام. وهو انضم مع مجموعة من الطلاب اليساريين الى حزب العمال سنة 1965 وطردهم رئيس الوزراء هارولد ولسون سنة 1967، الأرجح لمعارضتهم الحرب. وبقي هيتشنز في معسكر اليسار حتى 1989 عندما أخذ يعيد النظر في أفكاره بعد صدور فتوى آية الله الخميني التي هدرت دم الروائي سلمان رشدي بعد صدور كتاب «آيات شيطانية». واكتملت القطيعة سنة 2001 بعد الإرهاب الفظيع الذي ضرب نيويوركوواشنطن، فأصبح يؤيد التدخل الخارجي، وينتقد «الفاشستية بوجه إسلامي». وقد دعا الى الحرب على العراق بحماسة المحافظين الجدد، وبقي يؤيدها، عناداً في رأيي، لأنه انتقد أيضاً التعذيب وأبو غريب وغوانتانامو. وهو أصبح أميركياً سنة 2007 بعد أن أقام في واشنطن منذ 1981، ولكن من دون أن يتخلى عن جنسيته البريطانية. واخترت للقراء من معاركه الفكرية ومواقفه الحادة التالي: هيتشنز هاجم بيل كلينتون بسبب فضائحه، وهاجم هنري كيسنجر وطالب بمحاكمته كمجرم حرب، بل هاجم الأم تريزا، واتهمها بأنها صديقة الطغاة. وكان له يوماً خلاف علني مع أخيه بيتر، وهذا كاتب أيضاً إلا أنه محافظ وأنغليكاني ملتزم، وجرى بينهما جدال على صفحات الجرائد والمجلات قبل أن يدفنا الخلاف ليشتركا معاً في برامج تلفزيونية. وبعد ارهاب 11/9/2001 ناقش مع المفكر الليبرالي الكبير نوعام تشومسكي طبيعة الإسلام الراديكالي والتعامل معه، وهناك سجال بينهما في مجلة «ذي نيشن» الليبرالية ترك المجلة على أثره وانتقد هيئة تحريرها وقراءها لأنهم وقفوا ضده. وفي حين انه دافع عن بول وولفوفيتز، مخطط الحرب على العراق، لأن هذا اعترف بمعاناة الشعب الفلسطيني، فإنه هاجم بحدة دانيال بايبس بعد ترشيح إدارة بوش له سنة 2003 عضواً في معهد السلام الأميركي، وقال ان بايبس يقف الى يمين آرييل شارون ويعارض خريطة الطريق مع ان النزاع بين الفلسطينيين وإسرائيل يمكن حله بالطرق السلمية، وهاجمه كذلك لقوله «من يُسَمَّون اللاجئين الفلسطينيين»، أي إنكاره تشريدهم. وأسجل لهيتشنز رغم تأييده حروب بوش أنه أيد ترشيح باراك أوباما سنة 2008 وهاجم جون ماكين كرجل خَرِف، وقال ان سارة بيلين سخيفة وكذابة محترفة وعار قومي. هيتشنز تحول في مسيرته الفكرية من اليسار الى اليمين، ومن معارضة الحروب والتدخل الخارجي الى تأييدها، إلا أن الشيء الوحيد الذي بقي على حاله عبر نصف قرن من النشاط هو انتقاده اليهودية، فهو يرى ان تعاليم الله التي نقلها موسى لا رحمة فيها ولا عاطفة، وأن الوصايا العشر لا تحمي الأطفال، ولا تشير الى الاغتصاب والرق. وهو يهاجم بحدة رفض اليهودية الحضارة الإغريقية، ويأسف كثيراً لأنه في الصراع بين أثينا والقدس انتصرت الثانية. وقرأت له في مجلة «سليت» قرب نهاية السنة الماضية هجوماً حاداً على الحاخام عوفايدا يوسف الذي يريد من بقية البشر أن يكونوا خدماً لليهود، وقد ردّ عليه موقع الكتروني يهودي واتهمه بأنه يمارس لاسامية كلاسيكية. ربما ما كنت اخترت ان أراجع أفكار هيتشنز مع القراء لولا أمور طرأت، وقد عاد إليّ اتهامه باللاسامية وأنا أقرأ مقالاً في «نيويورك تايمز» بعنوان «جدل اليهودي الحقيقي» شكا كاتبه روجر كوهن من أن انتقاد إسرائيل يفسر بسرعة على انه لاسامية. ثم الاكتشاف في حزيران (يونيو) الماضي ان هيتشنز مصاب بسرطان المريء، وهو يخشى ان يكون المرض انتشر الى أمعائه وقد لا يعيش طويلاً، كما انني تابعت زيارة له الى بيروت مع أصدقاء في شباط (فبراير) من السنة الماضية تستحق ان تروى، فأكمل بها غداً. [email protected]