إذا كان السير هربرت صموئيل وصل إلى فلسطين عند نهاية شهر حزيران يونيو 1920 ليتسلم مهامه بوصفه أول مفوض سامٍ لبريطانيا في البلد، الذي كان في ذلك الحين يعيش أكثر مراحل تاريخه خطورة، فإنه لم يبدأ بممارسة سلطاته إلا يوم العاشر من تموز يوليو من ذلك العام، اليوم الذي بدأ فيه الاهتمام ب "صيغ للتوافق بين العرب واليهود" حسب تعبيره، أو ب "تمرير المشروع الصهيوني تبعاً للمخططات المرسومة من المنظمات الصهيونية، بالتواطؤ مع الحكومة البريطانية" حسب النظرة العربية، أو أخيراً ب "مساعدة العرب على التصدي للمشروع الصهيوني لمصلحة العناصر المعادية لليهود في الحكم البريطاني"، حسب نظرة بعض المتطرفين اليهود في فلسطينوبريطانيا. ثلاث نظرات على السير هربرت صموئيل. وهو في كتاباته اللاحقة سوف يشكو من هذا. يتحدث مطولاً عن استحالة العمل في مثل تلك الأجواء. غير أن الحقيقة تكمن في مكان آخر: الحقيقة هي ان صموئيل إنما ارسل لكي يعمل، حقاً، على تنفيذ "وعد بلفور" بإقامة "وطن قومي لليهود فوق أرض فلسطين"، ولكن بشكل لا يغيظ العرب كثيراً. كانت بريطانيا تسعى إلى شيء من التوفيق، وكانت تعتمد في هذا على كون السير هربرت صموئيل يهودياً، بل يهودياً متشدداً، وصهيونياً متحمساً. مهما يكن، فإن صموئيل سوف يساعد اليهود كثيراً، وسوف يغيظ العرب كثيراً. والعرب لن ينسوا أبداً ان بريطانيا اختارت أول يهودي يصل إلى منصب حكومي رفيع فيها لكي يكون ممثلها في أرض يتطلع اليهود إلى السيطرة عليها، ويتمتع هو - صموئيل - بسلطة قرار معقولة في مصيرها. وأعلنت هنا أن السير هربرت صموئيل عرف بأنه، حين كان في بريطانيا موظفاً حكومياً كبيراً، اقترح على الحكومة البريطانية أن تتولى الانتداب على فلسطين، أو الحماية بعد انقضاء الحرب العالمية الأولى ورحيل الاحتلال العثماني، وذلك لكي تتمكن الحكومة البريطانية، عبر وجودها في فلسطين، من مساعدة اليهود على الإقامة هناك. كان ذلك بالطبع قبل صدور "وعد بلفور". وكان مشروع هربرت صموئيل يقضي بأن تمكن الحكومة البريطانية الطائفة اليهودية هناك من الحصول على نوع من الحكم الذاتي يشجع على هجرة يهود آخرين من انحاء العالم إلى فلسطين. وكان من رأيه - حسب المذكرة التي قدمها - ان إقامة مركز يهودي قومي في فلسطين - ومن دون الحديث، بعد، عن وطن لليهود - سوف يؤدي إلى تحسن وضعية اليهود في انحاء العالم، إذ يحسون أن ثمة مركزاً روحياً وثقافياَ يشكل مرجعاً لهم، كما هي حال الفاتيكان بالنسبة إلى الكاثوليك، والديار المقدسة في الجزيرة العربية بالنسبة إلى المسلمين. مهما يكن فإن رئيس الحكومة البريطانية، في ذلك الحين، آسكويت، لم يكن مهتماً بمثل ذلك الأمر، لذلك، ظل مشروع هربرت صموئيل طي الورق، ولم يتخذ أي اجراء لتحقيقه. ولكن بعد ذلك بالتدريج، وبضغط المنظمات الصهيونية وأمام الحاح هربرت صموئيل في مسيرته، راح المشروع يحيا مجدداً في بريطانيا، حتى كان - في نهاية الأمر - الخلفية التي قام عليها وعد بلفور. وهكذا حين عين هربرت صموئيل مفوضاً سامياً لبريطانيا في فلسطين - ما أن استتب الأمر للبريطانيين في حكم المنطقة، أو بكلمات أخف: في الانتداب عليها - لم يفاجأ أحد بذلك. الوحيدون الذين فوجئوا كانوا العرب الذين لم يرق لهم بالطبع أن يكون الرجل خصماً بوصفه يهودياً صهيونياً متحمساً وحكماً بوصفه بريطانياً في الوقت نفسه، خصوصاً أنه، بتعيينه حاكماً على فلسطين كان أول يهودي يحكم هذه الديار منذ أكثر من ألفي سنة. لكن صموئيل عرف، من البداية، أن عليه ان يكون بريطانياً أكثر منه صهيونياً، فأعلن أنه يريد أن يضم الجميع تحت العلم البريطاني، كما قام بتصرفات كان يريد من ورائها ان يهدئ من ردع العرب. وكان هو من عيّن المفتي أمين الحسيني. الذي كان من أعدى أعداء الصهاينة في ذلك الحين، مفتياً على القدس. كما عمل كل ما في وسعه - وعلى الأقل حسب ما يقول كاتبو سيرته - لكي يخفف من حجم الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وهذا ما جعل عدداً من المنظمات الصهيونية يهاجمه ويتهمه بأنه قد تخلى عن دينه وعن قوميته. مهما يكن، فإن صموئيل لم يبق في فلسطين سوى خمس سنوات عاد بعدها إلى بريطانيا حيث راح يتقلب حتى سنوات تقاعده في مناصب بعيدة عن القضية الفلسطينية أو عن المسألة الصهيونية، ووصل مرة إلى مرتبة وزير الداخلية في حكومة رامزي ماكدونالد، ثم تزعم الحزب الليبرالي... غير أنه في كل ذلك ظل يفضل الابتعاد عن القضية التي أحرق فيها أصابعه