المشهد الذي يختاره المخرج ميشيل هنيكي لافتتاح فيلمه "لاعبة البيانو"، مشهد عودة بطلته إريكا ايزابيل أوبير الى البيت حيث تستقبلها أمها شخصيتها تبقى بلا اسم وتؤديها آني جيراردو بالصراخ والعداء لكون ابنتها عادت متأخرة. تخال نفسك، للحظات، أمام فيلم مصري عن عائلة محافظة: "انت كنت فين لحد دلوقت؟". - بس يا ماما... "ما بسش ولا حاجة. قلقتيني عليكي... انت فاكرة نفسك إيه؟". لكن الأحداث اوروبية، ما يحد من نظرية "العائلة المحافظة" او يقطع دابرها على الفور. لأن ما تواجهه اريكا في مقدمة الفيلم هو استمرار لنمط حياة وعلاقة غير سوية داخل البيت الذي تعيش فيه مع أمها، منعها، بين تأثيرات أخرى، من الحب والزواج وإقامة علاقات صحية هي في العرف الغربي، طبيعية وعادية. كان على اريكا كاهوت مقابلة لارا كروفت، بطلة فيلم "غازية التابوت"، الذي "نشل" من جيوب الأميركيين في أيامه الثلاثة الأولى، الأسبوع الماضي، 48 مليون دولار، والمرشح الى أن يكون واحداً من الأفلام التي ستحقق أعلى ايرادات الصيف. لارا نسيت أنها امرأة، ربما هناك وميض عاطفي صغير في صميم قلبها، لكن معظمه منشغل بتحقيق النصر على أعدائها والبطش بكبيرهم وصغيرهم. انها تجيد كل أنواع السلاح وفنون القتال ولا تعرف الخوف من أي خطر أو عائق. كأنثى، هي نموذج التحرر والقوة. المرأة ما بعد الحديد والمعبّرة عن أجيال الثورة النسائية ما بعد اختراع حبة منع الحمل التي، اذا أردنا التدقيق، غيّرت الكثير من السيكولوجيا الإجتماعية لدور المرأة لدى المرأة والرجل، او بعضه على اي حال، على حد سواء. لارا كروفت، بذلك، هي المعبّر عن المرأة الحديثة على رغم أنها آتية من خيال لعب الفيديو. فيما اريكا كاهوت، بالقليل من الواقع المعكوس، هي التي تبدو كما لو أنها ومشكلاتها جاءت من وراء الزهرة. المثير فعلاً هو أن كلا الشخصيتين لديها القدرة على توفير مقدار كبير من التحليل الإجتماعي حول المرأة في كلا الفيلمين. ليس فقط في هذين الفيلمين المتناقضين، بل وفي مجموعة من الأفلام على الجانبين. كل واحد منها يحوي المناسبة نفسها للبحث في تلك العلاقة القائمة اليوم بين صورة المرأة على الشاشة ووجودها الإجتماعي. صرح الواقع لو قيض للسينما العربية أن تصنع فيلماً عن جهاد امرأة فلسطينية في الصراع الدائر بين الفلسطينيين والاسرائيليين يكاد المرء يقول بين الفلسطينيين والعالم، فإن الغالبية من السيناريوات ستدور على الأم الصابرة والمتحملة كل أذى، الى أن يسقط آخر أبنائها فتحول دارها مكاناً يلتقي فيه المجاهدون الى أن تعتقل وتوضع في السجن أشهراً طويلة. حين خروجها تجد أن الأوضاع ما زالت كما كانت، وتشدها نزعة الانتقام فتقوم بعملية استشهادية تفجر نفسها فيها ومعها نحو خمسين اسرائيلياً مدنياً او عسكرياً من خليط ما. هناك بالفعل فيلم لبناني بعنوان "فتاة من الجنوب" لا يحمل هذا الخط الدرامي أعلاه، لكنه ليس بعيداً منه على اي حال. فمفهوم المرأة على أنها الأرض، من ناحية، والمثل الأعلى للعطاء والتضحية، من ناحية أخرى، يغلب على معظم الصور التي تناقلتها السينما العربية عن حكايات الفداء في فلسطين او غيرها. لكنها، اذا نفذت على النحو المذكور عنت شيئين مختلفين: ففي وقت تعني المرأة، ضمن هذا المخطط، تضحيتها المثالية، تعني، ضمن نظرة أخرى، انها ذات قضية خاسرة، وربما عكست مفهوم أن القضية الفلسطينية كلها خاسرة، وهو ليس الواقع وليس ايضاً ما تطرحه القضية نفسها. في إحدى المراحل، بدت تلك الأخبار كما لو أنها ستثير الشارع العربي مثلما كانت تفعل قضايا التحرر القومي والإجتماعي في الستينات والسبعينات. ولكن بعد أيام، هدأت الحال وسكنت العواصف التي تراءت في الأفق، وعاد كل شيء الى جدوله الطبيعي. الطالب واصل دراسته، والعامل واصل عمله، والموظف انتظر كالعادة راتب آخر الشهر، والتاجر ورجل الأعمال أكملا مهماتهما الساعية الى تحقيق ثروة أخرى. وما لبثت، اذا أردنا رصد الحقيقة، أن أصبحت الأخبار عن الوضع الفلسطيني مجرد نشرة جوية أخرى. كل ما تثيره هو الأسى اذا كان الجو بائساً. بعد ذلك يحوَّل الجهاز حفلة غنائية من بيروت او دراما تلفزيونية من دمشق او القاهرة او مساجلة بين رأي ورأي آخر من محطة خليجية الى ساعة متقدمة من الليل على وعد يوم آخر لا يختلف. الأم الفلسطينية الصورة الأكبر حجماً من الواقع قد تصل الى الناس بقضاياها اكثر من الصورة الواقعية، لكن الصورتين قليلتا الظهور في أفضل الأحوال عندنا. اذا ظهرت الأولى ففي أفلام عاجزة عن التعبير او بلوغ ما تريد التعبير عنه، واذا ظهرت الثانية، فإن ظهورها المتباعد يجعلها أضعف من أن تشكل التيار الذي تحتاج إليه السينما العربية. انطلاقاً من هنا، فإن أفضل صورة أم فلسطينية شاهدناها الى اليوم لا تزال صورة الأم في فيلم ميشيل خليفي اين هو اليوم؟ "ذكريات خصبة" 1982. الفيلم تسجيلي يتحدث عن شخصيتين حقيقيتين: الأولى فرح حاطوم، وهي سيدة متمسكة بحقها في الأرض التي صادرتها قوات الاحتلال، والثانية، سحر خليفة وهي امرأة متمسكة بنضالها في سبيل مجتمع عربي أفضل في فلسطين. لديهما ثورة واحدة ذات صور مختلفة. الأولى ترفض بيع الأرض بعناد شديد، والثانية تدعو الى انتفاضة المرأة الفلسطينية على نفسها أولاً وعلى التقاليد التي من حولها ثانياً. طبعاً تجاوزت الأحداث ما دار عليه هذا الفيلم التسجيلي النيّر، لكن الفيلم - اي فيلم - هو حفر في التاريخ يمكن الرجوع اليه كحال قائمة. وفي ما نستعرضه هنا هو مثال على كيف أن صورة المرأة الواقعية من دون بطولات واهية تبقى حية وعامل تفكير وتأثير في زمن صنع الفيلم كما لاحقاً. الصورة التقليدية التي تحتل اجزاء شاسعة من صورة المرأة في السينما العربية هي الأقل استيعاباً للحقائق والمتغيرات والأسرع موتاً. يبقى أن الصورة غير التقليدية، ولو في إطار البطولة الوهمية، نموذج "لارا كروفت" هي الحل بين كل ما هو تقليدي خصوصاً أن البطلة في هذا النوع لا تكتفي بإشعال الحماسة في الجنسين صوبها، بل تصل إلى إشعال الحماسة صوب قضيتها، بصرف النظر عما هي هذه القضية. عدا ذلك هو صورة انهزامية. البحث عن الهوية في فيلم اوروبي حديث آخر بعنوان "من يعلم؟" من اخراج جاك ريفيت، نجد البطلة كاميليا جين باليبار ممثلة في مسرح جوّال وبعد سنوات ابتعاد طويلة تعود، ضمن الشركة المسرحية، الى وطنها الفرنسي. عودتها تلك تفتح الباب امام محاولة التقاطها شخصية تائهة خلفتها وراءها لمحاولة تسديد خطاها للمرة الأولى. وسيلتها في ذلك معاودة الاتصال مع ماضيها في المدينة، وهذا يشمل صديقاً قديماً لها جاك بوناف، لكن ايجاد الهوية بعد فقدانها هو أكثر من رغبة بل أكثر من عملية بحث. وعلى كاميليا أن تضع خطوطاً فاصلة بين ما يتطلبه وضعها وما يتطلبه قلبها. وريفيت يبحث طويلاً في هذه الخطوط في معالجة مرتاحة من الضغط وبأسلوب واثق لا يريد ان يبرهن من ورائه شيئاً لم يبرهنه سابقاً وبجدارة مماثلة. وكما في الأفلام الأوروبية... كذلك في غيرها. "السفر الى قندهار"، وهو فيلم ايراني جديد لمحسن مخملبوف، هو ايضاً عن امرأة بحثها يختلف باختلاف مكانها. انها افغانية عائدة من وطن هجرتها كندا للبحث عن شقيقتها التي كتبت اليها أنها ستنتحر في يوم محدد. باق من الزمن ثلاثة أيام وعلى هذه المرأة، وقد وصلت الى افغانستان المشدودة الى أتون التخلف، ان تصل الى شقيقتها في الوقت المناسب لمنعها من الانتحار. الفكرة رائعة، لكن التنفيذ أمر آخر. وبما أن الحديث هنا ليس عن الفيلم ولا عن مطلق الصور المختلفة للمرأة، فإن ما يهمنا أن المغامرة التي تقوم بها بطلة الفيلم تتحلى ببعد آخر يختلف عن المشاغل الذاتية لدى الأفلام الأوروبية، وعن اهتمامات الكثير من الأفلام الأميركية ايضاً. في هذا الإطار فإن الواقعية من هذا الفيلم مسألة نسبية على عكس فيلم جعفر باناهي الأفضل بين أعماله الى اليوم "الدائرة"، وقد عالج موضوعه غير المتغّرب صور الأكراد او الأفغان كما في أفلام ايرانية حديثة عدة بواقعية، متعاملاً لا مع صورة امرأة واحدة، بل مع صور ثلاث نساء هن ضحايا المجتمع - الصورة التي ما زالت مجتمعات متعددة في ما يسمى ب"العالم الثالث" تحفل بها في حياتها الواقعية. الصورة القوية في المواجهة، وبينما لا تخلو الحياة الواقعية الأميركية من ضحايا من الجنس الأنثى، فإن السينما هنا ليست في وارد البحث فيها، واذا فعلت فعلى نحو تريده مسلياً عموماً كما هي الحال في "حفلة عيد الزواج" لجنيفر جاسون لي وألان كامينغ. واذا تركت باب التسلية، يؤول الفيلم الى الفيديو او التلفزيون كعرض أول، كما هي الحال أخيراً مع "اشياء تستطيع معرفتها عنها بمجرد النظر اليها" الذي لم يكن تحديداً عن ضحايا نتيجة تعسف الغير، بل وأكثر عن ضحايا نتيجة عوامل نفسية وذاتية مختلفة. نظرة واحدة الى لائحة الأفلام الخمسين المعروضة الآن في اميركا، تجد أن الصورة الواقعية الوحيدة المتاحة للمرأة على تلك الشاشات هي المتمثلة في أفلام مستورة. "الدائرة" الإيراني و"الطريق الى البيت" جديد الصيني زانغ ييمو و"ارملة سان بيير" الفرنسي. وهذا ليس غريباً، بل الغريب لو أن الأفلام المستقرة في وجدان غالبية المشاهدين هي تلك التي تستحق أن تستقر هناك. "لارا كروفت: غازية التابوت" هو استمرار لنمط من الشخصيات القوية التي تعيشها السينما الأميركية، راهناً. في عامين شاهدنا ثلاثة أفلام بالغة النجاح في هذا الشأن أفضلها بسبب امتزاج الفن بالفانتازيا وكلاهما بالتراث هو "نمر رابض، تنين مختبئ"، وأسوأهما هو "ملائكة تشارلي" حتى بعد 30 كتابة للسيناريو، او بسبب ذلك على الأرجح. اما الفيلم الجديد "لارا كروفت" فهو أقرب الى موقع "نمر رابض..." منه الى موقع "ملائكة تشارلي" ولو أن كثراً سيجدونه مساوياً للفيلم السابق الذي قامت درو باريمور وكاميرون داياز ولوسي ليو ببطولته. القوة التي تمثلها لارا جادة ضمن الشروط الفانتازية التي يعيشها ويتعامل معها الفيلم، فيما تلك التي في "ملائكة تشارلي" أريد لها أن تكون ملهاة. وبين الاثنين يستطيع المرء تقدير عدم تنازل "لارا كروفت" وصانعيه صوب الإضحاك ومزج مشاهد القوة بمشاهد الكوميديا كما فعل "ملائكة تشارلي" فلا حقق في التشويق مستوى جيداً ولا أضحك مشاهديه ايضاً. لكنهما و"النمر الرابض..." انعكاسات مختلفة لحال من التحرر الإجتماعي المطلق للمرأة، يتيح لها تنمية قدرات تخصص بها الرجل طويلاً بما في ذلك القتل المتعمّد - اذا تطلب الأمر - او الضرب في كل مكان موجع ولو تحت الزنار او خصوصاً تحت الزنار. وهي حال تستهوي الرجل والمرأة الحديثين. وفي المقابل، تصبح المرأة على الشاشة الموضع الذي كان يحتله كلينت ايستوود وجون واين بالنسبة الى المشاهد الشاب... تجسيداً للبطولة. بالنسبة اليه هو، تصبح المرأة في هذا الشأن اسطورة أخرى، نموذجاً آخر لبطولات يعجز هو عن القيام بها. في ذلك هي بطلة خيالية بالمطلق، كما شوارزنيغر الآتي من الكوكب البعيد بقوى خارقة للمعتاد. المثير للعجب هو كيف فتر اهتمام الرجل بشوارزنيغر ومعه سلفستر ستالون وباقي أصحاب القوة الرجالية الخارقة؟ وكيف ارتفع وازداد حرارة حيال الممثلة التي تؤدي أدوار القوة نفسها؟ متى وكيف تمت عملية الاستبدال فحلت المرأة في كيان المشاهد الرجل عوضاً عن الرجل في كيان المشاهد - الرجل؟ في الطرح نفسه، يمكن طرح سؤال آخر: منذ متى رضيت المرأة بمشاهدة أفلام القوة التي كثيراً ما اعتبرتها سخف الرجال ولهوهم؟ لماذا لم يقبلن، البتة تقريباً، على شوارزنيغر وشركاه، بينما تحظى أنجلينا جولي وشريكاتها باهتمامهن وتأييدهن الفارط؟ بين الإجابات عن السؤالين الواردين، الكثير من معالم اجتماعية تذوب فيها تقاليد وتحيا أخرى. ونجدها في أفلام الموجة القائمة كما في أفلام لا تنتمي اليها، لكنها تؤيد ما تنضح به. فأحد أسباب ضعف قصة الحب الواردة في فيلم "بيرل هاربور" تعود الى أن المرأة هناك عاطفية قرارها في يدي عاشقين يتنازعان عليها. بينما لارا كروفت ليست عاطفية وقرارها في يدها، اذاً هي تمثل ما تنوي المرأة تحقيقه في هذا الزمان والمكان من العصر. بالتالي، كيت بيكنسال في "بيرل هاربور" هي المرأة التي تنتفض عليها نساء اليوم. المرأة التي كانت يوماً أكثر طيبة وعاطفة وحباً مما باتته اليوم، نسبة الى ما نراه على الشاشة من نماذج.