لم يمل كثير من العرب، منذ تنصيب إدارة بوش الابن في كانون الثاني يناير الماضي، من دعوة الولاياتالمتحدة الى التدخل والعمل من أجل استئناف المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية. واقترن ذلك في بعض الأحيان بإبداء الدهشة أو التعبير عن القلق لتقاعس هذه الإدارة أو تباطؤها في التدخل. ولذلك يبدو الأمر كما لو كانت الإدارة الحالية استثناء في سياستها تجاه المنطقة، خصوصاً أنها تقارن عادة بسابقتها في عامها الأخير تحديداً، وليس في كل عام من أعوامها الثمانية. غير أن ما فعله الرئيس السابق بيل كلينتون خلال شهوره الأخيرة في البيت الأبيض، حين أعطى أولوية فائقة للسعي إلى اتفاق نهائي فلسطيني - إسرائيلي، كان الاستثناء وليس القاعدة. استثناء قلّما يتكرر، لأن الأصل في السياسة الخارجية الاميركية تجاه عملية تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي هو المساعدة في إيجاد الأطر التفاوضية ومراقبة ما يحدث فيها والتدخل عن بعد في معظم الأحيان وعن قرب في أقلها. ولذلك كان سلوك إدارة كلينتون هو الأول من نوعه منذ تدخل إدارة الرئيس السابق بوش لترتيب عقد مؤتمر مدريد عام 1990، وكان هذا التدخل بدوره غير مسبوق منذ الدور الذي اضطلعت به إدارة كارتر للتوصل إلى معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل عام 1979. وفي ما عدا ذلك، لم يزد كثيراً انغماس الولاياتالمتحدة في عملية التسوية على القدر الذي نشهده الآن. غير أننا كثيراً ما ننسى، فلا نذكر مثلاً أنه ما أن عقد مؤتمر مدريد وبدأت المفاوضات الثنائية في واشنطن، في ثلاث مسارات، تحولت إلى أربعة لانفصال المسار الأردني - الفلسطيني الذي بدأ مشتركاً، حتى نأت الولاياتالمتحدة بنفسها رغم الدعوات العربية المتكررة إلى ضرورة تدخلها. لقد فضلت واشنطن، ولا تزال، أن تتيح لإسرائيل الفرصة لاستثمار الخلل في ميزان القوى لمصلحتها ولاستغلال التناقضات العربية. وينسجم ذلك مع ما سعت إليه إسرائيل، منذ البداية، وهو مفاوضات مباشرة مع كل طرف عربي على حدة، ومن دون تدخل دولي. بل لعلنا ننسى أيضاً أن رسالة التطمينات التي بعث بها وزير الخارجية السابق جيمس بيكر إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي في 18 تشرين الأول اكتوبر 1991 نصّت على: "تؤمن الولاياتالمتحدة بأنه لا يمكن لأي طرف خارجي التدخل لفرض حلول لا تقبل بها الأطراف المتفاوضة". وحافظت إدارة بوش الأب ثم إدارة كلينتون الأولى، على سياسة عدم التدخل في المفاوضات الثنائية إلا لإنقاذها من الإنهيار والعمل على ضمان استمرارها عندما توقفت. ودفع ذلك خبيراً أميركياً بارزاً في شؤون الشرق الأوسط، وهو وليم كوانت، إلى وصف هذه السياسة بأنها استهدفت "ضمان استمرار عملية السلام أكثر مما اهتمت بالوصول إلى نتائج". فكيف لا نتذكر مثلاً والحال هكذا، أن العرب استقبلوا إدارة كلينتون الأولى عقب تنصيبها في كانون الثاني يناير 1993 بخيبة أمل مماثلة لتلك التي جرى التعبير عنها خلال الشهور الأربعة الماضية. اذ دخل كلينتون إلى البيت الأبيض في ظل أزمة المبعدين الفلسطينيين إلى لبنان، والتي أدت إلى وقف المفاوضات الثنائية في واشنطن. وتعاطت معها إدارة كلينتون بفتور وبطء لا يختلفان في الجوهر عن اسلوب الإدارة الحالية في التعامل مع القمع الإسرائيلي لانتفاضة الأقصى. ولم تُحَل أزمة المبعدين إلا بعد شهور، رغم أنها كانت أقل حدة وخطراً من الأزمة الأخيرة. وما أن رجع المفاوضون إلى واشنطن، حتى عادت السياسة الاميركية إلى سيرتها في مراقبة العملية التفاوضية عن بُعد في معظم الأحيان، ولم تتجاوز مهمة المنسق الاميركي لعملية السلام دور إطفاء الحرائق حين تشتعل أو تنذر بالاشتعال. ولذلك لم تكن مصادفة أن التطور الكبير الوحيد الذي حدث في هذه العملية منذ مؤتمر مدريد، وهو اتفاق أوسلو، تم في مفاوضات ثنائية سرية لا دخل للولايات المتحدة فيها ولا شأن. وبعد توقيع هذا الاتفاق في أيلول سبتمبر 1993، حافظت الولاياتالمتحدة على سياسة عدم التدخل في مفاوضات تنفيذه، رغم الصعوبات التي واجهت هذه المفاوضات، وتخصص دنيس روس وزملاؤه في الخارجية الاميركية في السعي إلى إطفاء أو محاولة إخماد الحرائق. ولم تتدخل واشنطن في مضمون المفاوضات إلا في الشهور الأخيرة في عهد الإدارة السابقة، عندما ظن كلينتون أن هناك فرصة لتحقيق اختراق ينهي الصراع الفلسطيني، وبالتالي العربي - الإسرائيلي ويتيح له الحصول على جائزة نوبل للسلام. كانت هذه هي المرة الأولى التي مد رئيس أميركي فيها أصابعه لتمسك تفاصيل المفاوضات منذ أن فعلها كارتر في المكان نفسه قبل 22 عاماً. رغم فشل كامب ديفيد الثانية، ظل كلينتون يحاول تدارك هذا الفشل على مدى الشهور الستة التالية من دون جدوى. وجاء بوش الثاني خائفاً من أن تحترق اصابعه مثل سلفه إذا وضع يديه في قلب الأزمة التي ازداد لهيبها اشتعالاً، ومتوجساً في الوقت نفسه من أن تحرق نارها المنطقة إذا أبعد يديه. ولذلك اختار أن يعود بالسياسة الاميركية الى خطها العام الذي يركز على إطفاء الحرائق، مع تعديل يقضي بعدم التدخل لإطفاء حريق إلا إذا تأججت ناره وهددت المنطقة كلها. فكان معتاداً أن يأتي هذا التدخل فور حدوث الحريق. ولكن بوش الثاني تولى الرئاسة فيما الحريق مشتعل أصلاً وعملية تشكيل إدارته لم تكتمل. والأهم من ذلك هو أن التفاعلات التفاوضية والصدامية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، منذ كامب ديفيد الثانية، أظهرت عدم إمكان الوصول إلى اتفاق في المرحلة الراهنة. وأدرك بوش وإداراته أن ليس في الإمكان "أبدع" مما حاوله كلينتون الذي وصل إلى آخر مدى يمكن أن يبلغه وسيط منحاز إلى أحد الطرفين. فالاقتراحات التي قدمها، عشية مغادرته البيت الأبيض، تمثل الحد الأقصى لما يمكن أن تطلبه الولاياتالمتحدة من إسرائيل في ظل ميزان القوى الحالي في المنطقة. بل لم يكن بوش يستطيع حتى إعادة طرحها لأنه تولى الرئاسة قبل حوالي اسبوعين على انتخابات إسرائيلية كان فوز شارون فيها متوقعاً، بل أكيداً، ربما يعينه ذلك على خفض سقف أي تحرك اميركي جديد للوصول إلى حل نهائي. ولذلك صار مستحيلاً أن تنغمس إدارة بوش الثاني في الأزمة الفلسطينية - الإسرائيلية بما يتجاوز إخماد الحريق الهائل الذي ترتب عليها، ومن دون أن تفعل الكثير من أجل ضمان تجنب عدم اشتعاله مجدداً. وهي، في ذلك، ليست عازفة عن التدخل أكثر، وإنما غير قادرة عليه لأنها لا تمتلك صيغة لمفاوضات جادة، ولا يمكن أن تمتلكها بسبب إنحيازها إلى إسرائيل. ومن هنا تركيزها على المحادثات الأمنية في المقام الأول، رغم معرفتها أن تهدئة التوتر لا تتحقق بإجراءات في مجال الأمن وإنما عبر تقدم على الصعيد السياسي. ولذلك صار مدير استخباراتها جورج تينيت يلعب دوراً أهم في حل الأزمة الفلسطينية - الإسرائيلية في مقارنة بالمبعوث الخاص للشرق الأوسط وليام بيرنز. ولا عجب في ذلك ما دام صانعو السياسة الأميركية يرون أنه إذا كانت المحادثات الأمنية لا تحقق الكثير، فالمفاوضات السياسية لن تنجز حتى القليل، والأرجح أن رؤيتهم هذه لن تتبدل ما لم يغير أحد الطرفين - الفلسطيني - الإسرائيلي - موقفه ويخفض سقف مطالبه. ولذلك سيظل تركيزهم على إطفاء الحريق أو تهدئته كلما ازداد اشتعاله، فهم يعرفون أن النار لن تكون فقط تحت الرماد، بل على السطح أيضاً، وربما لا يستطيعون أكثر من إبقائها عند أدنى مستوى من اللهب. فإذا كان هذا هو غاية المراد لشهور مقبلة على الأقل، يتوجب على القيادة الفلسطينية ألا تراهن على مفاوضات سياسية لا يمكن الرهان عليها. ففي إمكانها أن تناور ما وسعتها المناورة كي تبدو مستجيبة لما هو مطلوب منها على صعيد التهدئة من دون أن تبدد رصيد المقاومة الذي ثبت أنه لا بديل لها عنه. فإذا كانت الإدارة الاميركية تريد الحفاظ على شكل عملية التسوية، فلا مانع من أن تعاونها القيادة الفلسطينية في إخراج مسرحية تفاوضية يعرف طرفاها وراعياها أنهم يؤدون أدواراً غير ما يفعله كل منهم في الواقع. فالراعي ليس إلا إطفائي حرائق، والطرفان يسعى كل منهما إلى حرق أصابع الآخر على الأرض رغم من جهود الإطفاء، فلا ضير، إذاً، من أن تؤدي السلطة الفلسطينية دوراً في مسرحية المفاوضات بشرط ألا يكون ذلك على حساب واجبها في واقع الصراع. وعلى الدول العربية المعنية بعملية التسوية، وخصوصاً مصر والأردن، أن تدرك ذلك فلا تضغط على الفلسطينيين إلى الحد الذي يجعل المسرحية بديلاً عن الواقع. * رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي".