اشتقت إسرائيل مشروعها حول ترتيبات (المرحلة الانتقالية)، وجوهره ترتيبات خاصة بإدارة شؤون سكان الضفة الغربية وقطاع غزة على جزء من أراضيهم المحتلة. انطلقت هذه السياسة من البناء على ما اعتبرته حكومة العمل برئاسة اسحق رابين، منجزات انتزعتها حكومة الليكود برئاسة إسحاق شامير من الفلسطينيين في مفاوضات مدريد، وتكريس هذه التنازلات كأمر واقع وفي شكل نهائي، في ظل بيئة إستراتيجية دولية مؤاتية من وجهة النظر الإسرائيلية، أنتجها انهيار الاتحاد السوفييتي وهيمنة القطبية الأحادية الأميركية، وانقسامات بينية عربية حادة، وتراجع الاهتمام العربي والدولي بالقضية الفلسطينية، في ظل إشاعة أوهام زائفة عن تسوية مرتقبة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والإنهاك الشديد الذي أصاب قطاعات جماهيرية فلسطينية واسعة في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة، بعد سبع سنوات من الانتفاضة، وتحت وطأة إجراءات القمع والعقوبات الجماعية، والتجويع والحصار، والخلافات الداخلية الفلسطينية المتصاعدة، التي أدت في النهاية إلى تراجع زخم التحركات الشعبية للانتفاضة. وكانت وجهة السياسة التفاوضية، التي اعتمدتها حكومة العمل برئاسة رابين، تهدف إلى تغيير المكانة القانونية للأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967، من أراض محتلة إلى (أراض متنازع عليها)، وهو ما أنتجته اتفاقيات أوسلو1 "اتفاق المبادئ" (واشنطن 13 /9 /1993)، وأوسلو2 "غزة أريحا أولاً" (القاهرة 4 /5 /1994)، واتفاق طابا "توسيع منطقة نفوذ السلطة الفلسطينية" (واشنطن 28 /9 /1995). وهو ما أدخل العملية السياسية في حلقة مفرغة من المفاوضات العبثية. من جانبها وضعت إدارة الرئيس كلينتون في ذلك الحين نصب أعينها التسريع في بناء نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط تهيمن عليه الولاياتالمتحدة، وتلعب فيه إسرائيل دوراً رئيسياً، بحيث تكون صاحبة اليد الطولى فيه. وحاولت إدارة كلينتون أن تفرض تسوية للصراع في الشرق الأوسط بالشروط الأميركية - الإسرائيلية كأساس لهذا النظام. ونقلت إدارة الرئيس جورج بوش الابن مشروع الشرق الأوسط الجديد إلى طور محاولة فرضه بالقوة، باعتبارها غزو العراق واحتلاله منصة لتجسيده على أرض الواقع، ليشمل ما تدعيه الولاياتالمتحدة من قوس للمصالح في المنطقة يمتد من شمال إفريقيا إلى القرن الأفريقي والمشرق العربي، مروراً بتركيا وإيران وأفغانستان وباكستان، وصولاً إلى دول آسيا الوسطى، في تطابق مع قوس الحروب الأميركية المباشرة أو غير المباشرة. شكلت السمة العامة للاتفاقيات المعقودة في سياق عملية أوسلو ميلها المضطرد في خط بياني تنازلي، فكل اتفاق جديد هبط بسقفه عن الاتفاق الذي سبقه، حتى تكاثفت الوقائع التي دللت على أن مسار عملية أوسلو سيصل حتماً إلى طريق مسدود، وتمثلت المحطة المفصلية الأولى على هذا الطريق بالتوقيع على "برتوكول الخليل" بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية بتاريخ 17 يناير/كانون الثاني 1997، فقد أعطى هذا الاتفاق لإسرائيل أن تقرر وحدها مساحة إعادة الانتشار في المناطق الفلسطينية المحتلة، بعد أن كان شأناً تفاوضياً، بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي بموجب اتفاق أوسلو2. ومع مذكرة تفاهم "واي ريفر" -23 /10 /1998- حرف الإسرائيليون المفاوضات لتنصب عملياً على الجوانب الأمنية من المنظور الإسرائيلي، وجاءت الموافقة المشروطة للحكومة الإسرائيلية على مذكرة "واي ريفر" لتكرس مفهوماً جديداً في العملية السياسية، ظهر لاحقاً في "خطة خارطة الطريق الدولية"، ألا وهو عدم التزامن في تنفيذ الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي لالتزاماتهما، بحيث يتم قبل بدء إسرائيل بتنفيذ أي تعهد تنفيذ الفلسطينيين لتعهداتهم، والحكم على استيفاء ذلك متروك للإسرائيليين وحدهم. وعندما وصلت العملية الانتقالية إلى سقفها المفترض في الرابع من مايو/أيار 1999، أدرك الجانب الفلسطيني المفاوض إن نتيجة ست سنوات من العملية التفاوضية لم تكن سوى وهم، لأن المطروح إسرائيلياً هو ضم مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية المحتلة وإلحاق "الكيان الفلسطيني الموعود" بالهيمنة العسكرية والاقتصادية الإسرائيلية، والبديل الأميركي لذلك هو التمديد للمرحلة الانتقالية إلى أمد غير مسمى، وفي نهاية المطاف النتيجة واحدة تأبيد وجود الاحتلال، ومنع قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة.وحين وصلت العملية السياسية والتفاوضية إلى طريق مسدود في الرابع من مايو/أيار 1999، بانتهاء المرحلة الانتقالية دون تنفيذ إسرائيل للاستحقاقات المترتبة عليها، حاول الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون انتشال العملية من مأزقها، بمبادرة تتحايل على الاستعصاء بإعادة إخراج الرؤية الإسرائيلية للحل بقالب مختلف شكلاً ليس إلا، إذا اكتفى كلينتون بمداورات شكلية في صياغة المقترحات والشروط الإسرائيلية، ليعيد تقديمها على طاولة مفاوضات "كامب ديفيد 2" (مطلع يوليو/تموز 2000) دون تعديلات على الجوهر. وراوحت إدارة الرئيس بوش الابن في النقطة التي انتهت إليها الإدارة التي سبقتها، باعتماد أسلوب تحريك العملية السياسية في دائرة مفرغة لإعياء الفلسطينيين، ولم تفلح كل جهود "الرباعية الدولية" في الفتح على عملية تفاوضية جديدة، وهو ما وضع العملية السياسية والتفاوضية مجدداً، بعد لقاء أنابوليس خريف العام 2007، في ذات الظروف التي أفشلتها بعد انطلاقها في مدريد خريف العام 1990. وعلى أبواب انتهاء الولاية الأولى للرئيس باراك أوباما، فإن الجهود التي بذلتها إدارته وصلت بدورها إلى طريق مسدود بسبب التعنت الإسرائيلي على مواصلة الاستيطان.